اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي ثماني آيات ، وتسع وعشرون كلمة ، ومائة وثلاثة أحرف .

قوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } ، الاستفهام إذا دخل على النفي قرره ، فصار المعنى : قد شرحنا ، ولذلك عطف عليه الماضي ، ومثله : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ } [ الشعراء : 18 ] ، والعامة : على جزم الحاء ب «لَمْ » .

وقرأ أبو جعفر{[60441]} المنصور : بفتحها .

فقال الزمخشري{[60442]} : وقالوا : لعلَّهُ بين الحاء ، وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها .

وقال ابن عطية{[60443]} : إن الأصل : «ألَمْ نَشْرحَنْ » بالنون الخفية ، ثم أبدلها ألفاً ثم حذفها تخفيفاً كما أنشد أبو زيد : [ الرجز ]

5245- مِنْ أيِّ يَوميَّ مِنَ المَوْتِ أَفِرْ *** أيَوْمَ لَمْ يقْدرَ أمْ يَوْمَ قُدِرْ{[60444]}

بفتح راء : «يقدر » وكقوله : [ المنسرح ]

5246- اِضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارقهَا*** ضَرْبكَ بالسَّيْفِ قَوْنسَ الفَرسِ{[60445]}

بفتح باء «اضرب » انتهى . وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم ب «لم » ، وهو قليل جداً ، كقوله : [ الرجز ]

5247- يَحْسبهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا*** شَيْخاً عَلى كُرْسيِّهِ مُعَمَّمَا{[60446]}

فتتركب هذه القراءة من ثلاثة أصول كلها ضعيفة ، لأن توكيد المجزوم ب «لَمْ » ضعيف ، وإبدالها ألفاً إنما هو في الوقف ، فإجراء الوصل مجرى الوقف خلاف الأصل ، وحذف الألف ضعيف ؛ لأنه خلاف الأصل .

وخرجه أبو حيان{[60447]} على لغة خرجها اللحياني في «نوادره » عن بعض العرب ، وهو أن الجزم ب «لَنْ » والنصب ب «لَمْ » عكس المعروف عند الناس ، وجعله أحسن مما تقدم .

وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار تطلب ثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما وعن بقية الصحابة أجمعين : [ البسيط ]

5248- قَدْ كَان سُمْكُ الهُدَى يَنْهَدُّ قَائمهُ *** حتَّى أبِيحَ لهُ المُختارُ فانْغَمَدَا

فِي كُلِّ ما هَمَّ أمْضَى رأيهُ قُدُماً *** ولَمْ يُشاوِرَ في إقْدامهِ أحَدَا{[60448]}

[ بنصب راء «يشاور » ، وجعله محتملا للتخريجين . وشرح الصدر : فتحه ؛ أي ألم نفتح صدرك للإسلام .

وقال ابن عباس : ألم نلين قلبك . وعن الحسن في قوله : ألم نشرح ، وقال مكي : حلماً وعلماً ]{[60449]} .

وشرح الصدر : فتحه : روي أن جبريل - عليه السلام - أتاه وشق صدره ، وأخرج قلبه ، وغسله وأنقاه من المعاصي ، ثم ملأه علماً ، وإيماناً ، ووضعه في صدره ، وطعن القاضي{[60450]} في هذه الرواية من وجوه :

أحدها : أن هذه الواقعة إنما وقعت حال صغرهِ صلى الله عليه وسلم وذلك من المعجزات فلا يجوز أن يتقدم بثبوته .

وثانيها : أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام ، والمعاصي ليست بأجرام فلم يؤثر الغسل فيها .

وثالثها : أنه لا يصح أن يملأ القلب علماً ، بل الله تبارك وتعالى يخلق فيه العلوم .

وأجيب عن الأول : بأن تقديم المعجزات على زمان البعثة جائز ، وهو المسمى بالإرهاص ، ومثله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كثير .

وعن الثاني ، والثالث : لا يبعد أن يكون حصول ذلك الدم الأسود الذي غسلوه من قلب الرسول - عليه الصلاة والسلام - ميل القلب إلى المعاصي وإحجامه عن الطاعات ، فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة لمواظبة صاحبه على الطاعات ، واحترازه عن السيئات ، فكان ذلك ، كالعلامة للملائكة على عصمة صاحبه .

وأيضاً فإن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .

روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنهم قالوا : «يا رسول الله ، أينشرح الصدر ؟

قال : «نعم وينفسح » ، قالوا : يا رسول الله ، وهل لذلك علامة ؟

قال :«نعم ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاعتداد للموت قبل نزول الموت »{[60451]} .

قال القرطبيُّ{[60452]} : معنى { أَلَمْ نَشْرَحْ } قد شرحنا ، و «لَمْ » جحد ، وفي الاستفهام طرف من الجحد وإذا وقع جحد ، رجع إلى التحقيق ، كقوله تعالى : { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } [ التين : 8 ] ، ومعناه : الله أحكم الحاكمين ، وكذا { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] ، ومنه قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان : [ الوافر ]

5249- ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايَا*** وأنْدَى العَالمِينَ بُطُونَ رَاحِ{[60453]}

المعنى : أنتم كذا .

فإن قيل : لم قال عز وجل : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } فذكر الصدر ولم يذكر القلب ؟ .

فالجوابُ : لأن محلَّ الوسوسة هو الصَّدر على ما قال تعالى : { يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس } [ الناس : 5 ] فإبدال تلك الوسوسة بدواعي الخير هو الشرح ، فلذلك خص الشرح بالصدر دون القلب .

وقيل : الصدر حضن القلب ، فيقصده الشيطان ، فإن وجد مسلكاً أغار فيه ، وبث جنده فيه وبث فيه الغموم والهموم والحرص ، فيقسو القلب حينئذ ، ولا يجد للطاعة لذة ، ولا للإسلام حلاوةً ، فإذا طرد في الابتداء حصل الأمن ، وانشرح الصدر .

فإن قيل : لِمَ قال : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } ولم يقل : «ألَمْ نَشْرَحْ صَدْرَك » ؟ .

فالجوابُ : كأنه تعالى يقول : لام بلام ، فأنت إنما تفعل الطاعات لأجلي ، وأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك .

فصل فيمن اعتبر «والضحى » ، و«ألم نشرح » سورة واحدة

روي عن طاوس ، وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقرآن : «والضُّحَى » ، و{ أَلَمْ نَشْرَحْ } سورة واحدة ، وكانا يقرآنها في ركعة واحدة ، ولا يفصلان بينهما ب «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ » ، وذلك لأنهما رأيا أن أولهما يشبه قوله تعالى : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } . وليس كذلك ، لأن حالة اغتمامه صلى الله عليه وسلم بإيذاء الكفار ، فهي حالة محنةٍ وضيق ، وهذه حالة انشراح الصدر ، وطيب القلبِ فكيف يجتمعان ؟


[60441]:ينظر: الكشاف 4/770، والمحرر الوجيز 5/496، والبحر المحيط 8/483، والدر المصون 6/540.
[60442]:الكشاف 4/770.
[60443]:المحرر الوجيز 5/496.
[60444]:تقدم.
[60445]:البيت لطرفة بن العبد ينظر ملحق ديوانه ص 155، وخزانة الأدب 11/45، والدرر 5/174، وشرح شواهد المغني (2/933، وشرح المفصل 6/107، واللسان (قنس)، والمقاصد النحوية 4/337، ونوادر أبي زيد ص 13، والإنصاف 2/565، وجمهرة اللغة ص 852، 1176، والخصائص 1/126، وسر صناعة الإعراب 1/82، وشرح الأشموني 2/505، والمحتسب 2/367، ومغني اللبيب 2/643، والممتع في التصريف 1/323.
[60446]:نسب البيت للعجاج، ولأبي حيان الفقعسي، ولمساور العبسي، وللدبيري، ولعبد بني عبس. ينظر ملحق ديوان العجاج 2/331، وخزانة الأدب 11/409، 411، وشرح شواهد المغني 2/973، والمقاصد النحوية 4/80، والدرر 5/158، وشرح التصريح 2/205، وشرح أبيات سيبويه 2/266، والإنصاف 1/409، وأوضح المسالك 4/106، وخزانة الأدب 8/388، 451، ورصف المباني 33/335، وسر صناعة الإعراب 2/679، وشرح الأشموني 2/498، وشرح ابن عقيل 546، ومجالس ثعلب ص 620، ونوادر أبي زيد ص 132، وهمع الهوامع 2/78.
[60447]:ينظر البحر المحيط 8/483.
[60448]:البيتان لعائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد الثقفي. ينظر البحر 8/483 والدر المصون 6/541، وفتح القدير 5/461.
[60449]:سقط من ب.
[60450]:ينظر: الفخر الرازي 32/3.
[60451]:ذكره القرطبي في "تفسيره" 20/71.
[60452]:الجامع لأحكام القرآن 20/71.
[60453]:تقدم.