قوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } ، الاستفهام إذا دخل على النفي قرره ، فصار المعنى : قد شرحنا ، ولذلك عطف عليه الماضي ، ومثله : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ } [ الشعراء : 18 ] ، والعامة : على جزم الحاء ب «لَمْ » .
وقرأ أبو جعفر{[60441]} المنصور : بفتحها .
فقال الزمخشري{[60442]} : وقالوا : لعلَّهُ بين الحاء ، وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها .
وقال ابن عطية{[60443]} : إن الأصل : «ألَمْ نَشْرحَنْ » بالنون الخفية ، ثم أبدلها ألفاً ثم حذفها تخفيفاً كما أنشد أبو زيد : [ الرجز ]
5245- مِنْ أيِّ يَوميَّ مِنَ المَوْتِ أَفِرْ *** أيَوْمَ لَمْ يقْدرَ أمْ يَوْمَ قُدِرْ{[60444]}
بفتح راء : «يقدر » وكقوله : [ المنسرح ]
5246- اِضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارقهَا*** ضَرْبكَ بالسَّيْفِ قَوْنسَ الفَرسِ{[60445]}
بفتح باء «اضرب » انتهى . وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم ب «لم » ، وهو قليل جداً ، كقوله : [ الرجز ]
5247- يَحْسبهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا*** شَيْخاً عَلى كُرْسيِّهِ مُعَمَّمَا{[60446]}
فتتركب هذه القراءة من ثلاثة أصول كلها ضعيفة ، لأن توكيد المجزوم ب «لَمْ » ضعيف ، وإبدالها ألفاً إنما هو في الوقف ، فإجراء الوصل مجرى الوقف خلاف الأصل ، وحذف الألف ضعيف ؛ لأنه خلاف الأصل .
وخرجه أبو حيان{[60447]} على لغة خرجها اللحياني في «نوادره » عن بعض العرب ، وهو أن الجزم ب «لَنْ » والنصب ب «لَمْ » عكس المعروف عند الناس ، وجعله أحسن مما تقدم .
وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار تطلب ثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما وعن بقية الصحابة أجمعين : [ البسيط ]
5248- قَدْ كَان سُمْكُ الهُدَى يَنْهَدُّ قَائمهُ *** حتَّى أبِيحَ لهُ المُختارُ فانْغَمَدَا
فِي كُلِّ ما هَمَّ أمْضَى رأيهُ قُدُماً *** ولَمْ يُشاوِرَ في إقْدامهِ أحَدَا{[60448]}
[ بنصب راء «يشاور » ، وجعله محتملا للتخريجين . وشرح الصدر : فتحه ؛ أي ألم نفتح صدرك للإسلام .
وقال ابن عباس : ألم نلين قلبك . وعن الحسن في قوله : ألم نشرح ، وقال مكي : حلماً وعلماً ]{[60449]} .
وشرح الصدر : فتحه : روي أن جبريل - عليه السلام - أتاه وشق صدره ، وأخرج قلبه ، وغسله وأنقاه من المعاصي ، ثم ملأه علماً ، وإيماناً ، ووضعه في صدره ، وطعن القاضي{[60450]} في هذه الرواية من وجوه :
أحدها : أن هذه الواقعة إنما وقعت حال صغرهِ صلى الله عليه وسلم وذلك من المعجزات فلا يجوز أن يتقدم بثبوته .
وثانيها : أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام ، والمعاصي ليست بأجرام فلم يؤثر الغسل فيها .
وثالثها : أنه لا يصح أن يملأ القلب علماً ، بل الله تبارك وتعالى يخلق فيه العلوم .
وأجيب عن الأول : بأن تقديم المعجزات على زمان البعثة جائز ، وهو المسمى بالإرهاص ، ومثله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كثير .
وعن الثاني ، والثالث : لا يبعد أن يكون حصول ذلك الدم الأسود الذي غسلوه من قلب الرسول - عليه الصلاة والسلام - ميل القلب إلى المعاصي وإحجامه عن الطاعات ، فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة لمواظبة صاحبه على الطاعات ، واحترازه عن السيئات ، فكان ذلك ، كالعلامة للملائكة على عصمة صاحبه .
وأيضاً فإن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .
روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنهم قالوا : «يا رسول الله ، أينشرح الصدر ؟
قال : «نعم وينفسح » ، قالوا : يا رسول الله ، وهل لذلك علامة ؟
قال :«نعم ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاعتداد للموت قبل نزول الموت »{[60451]} .
قال القرطبيُّ{[60452]} : معنى { أَلَمْ نَشْرَحْ } قد شرحنا ، و «لَمْ » جحد ، وفي الاستفهام طرف من الجحد وإذا وقع جحد ، رجع إلى التحقيق ، كقوله تعالى : { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } [ التين : 8 ] ، ومعناه : الله أحكم الحاكمين ، وكذا { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] ، ومنه قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان : [ الوافر ]
5249- ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايَا*** وأنْدَى العَالمِينَ بُطُونَ رَاحِ{[60453]}
فإن قيل : لم قال عز وجل : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } فذكر الصدر ولم يذكر القلب ؟ .
فالجوابُ : لأن محلَّ الوسوسة هو الصَّدر على ما قال تعالى : { يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس } [ الناس : 5 ] فإبدال تلك الوسوسة بدواعي الخير هو الشرح ، فلذلك خص الشرح بالصدر دون القلب .
وقيل : الصدر حضن القلب ، فيقصده الشيطان ، فإن وجد مسلكاً أغار فيه ، وبث جنده فيه وبث فيه الغموم والهموم والحرص ، فيقسو القلب حينئذ ، ولا يجد للطاعة لذة ، ولا للإسلام حلاوةً ، فإذا طرد في الابتداء حصل الأمن ، وانشرح الصدر .
فإن قيل : لِمَ قال : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } ولم يقل : «ألَمْ نَشْرَحْ صَدْرَك » ؟ .
فالجوابُ : كأنه تعالى يقول : لام بلام ، فأنت إنما تفعل الطاعات لأجلي ، وأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك .
فصل فيمن اعتبر «والضحى » ، و«ألم نشرح » سورة واحدة
روي عن طاوس ، وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقرآن : «والضُّحَى » ، و{ أَلَمْ نَشْرَحْ } سورة واحدة ، وكانا يقرآنها في ركعة واحدة ، ولا يفصلان بينهما ب «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ » ، وذلك لأنهما رأيا أن أولهما يشبه قوله تعالى : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } . وليس كذلك ، لأن حالة اغتمامه صلى الله عليه وسلم بإيذاء الكفار ، فهي حالة محنةٍ وضيق ، وهذه حالة انشراح الصدر ، وطيب القلبِ فكيف يجتمعان ؟
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.