قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه } راجعاً إليه مستغيثاً به . { ثم إذا خوله نعمةً منه } أعطاه نعمة منه . { نسي } ترك . { ما كان يدعو إليه من قبل } أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه . { وجعل لله أندادا } يعني : الأوثان . { ليضل عن سبيله } ليزل عن دين الله . { قل } لهذا الكافر { تمتع بكفرك قليلاً } في الدنيا إلى أجلك . { إنك من أصحاب النار } قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة ، وقال مقاتل : نزلت في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي ، وقيل : عام في كل كافر .
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } : يخبر تعالى عن كرمه بعبده وإحسانه وبره ، وقلة شكر عبده ، وأنه حين يمسه الضر ، من مرض أو فقر ، أو وقوع في كربة بَحْرٍ أو غيره ، أنه يعلم أنه لا ينجيه في هذه الحال إلا اللّه ، فيدعوه متضرعا منيبا ، ويستغيث به في كشف ما نزل به ويلح في ذلك .
{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ } اللّه { نِعْمَةً مِنْهُ } بأن كشف ما به من الضر والكربة ، { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ } أي : نسي ذلك الضر الذي دعا اللّه لأجله ، ومر كأنه ما أصابه ضر ، واستمر على شركه .
{ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ } أي : ليضل بنفسه ، ويضل غيره ، لأن الإضلال فرع عن الضلال ، فأتى بالملزوم ليدل على اللازم .
{ قُلْ } لهذا العاتي ، الذي بدل نعمة اللّه كفرا : { تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } فلا يغنيك ما تتمتع به إذا كان المآل النار .
{ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ }
{ الإنسان } في هذه الآية يراد به الكافر بدلالة ما وصفه به آخراً من اتخاذ الأنداد لله تعالى ، وقوله : { تمتع بكفرك قليلاً } وهذه آية بين تعالى بها على الكفار أنهم على كل حال يلجؤون في حال الضرورات إليه وإن كان ذلك عن غير يقين منهم ولا إيمان فلذلك ليس بمعتد به . و { منيباً } معناه مقارباً مراجعاً بصيرته .
وقوله تعالى : { ثم إذا خوله نعمة } يحتمل أن يريد النعمة في كشف المذكور ، ويحتمل أن يريد نعمة أي نعمة كانت ، واللفظ يعم الوجهين : و { خوله } معناه ملكه وحكمه فيها ابتداء لا مجازاة ، ولا يقال في الجزاء خول ، ومنه الخول ، ومنه قول زهير :
هنالك أن يستخولوا المال يخولوا*** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذه الرواية الواحدة ، ويروى يستخبلوا .
وقوله تعالى : { نسي ما كان يدعو إليه من قبل } قالت فرقة : { مصدرية } ، والمعنى نسي دعاءه إليه في حال الضرر ورجع إلى كفره . وقالت فرقة : بمعنى الذي ، والمراد بها الله تعالى ، وهذا كنحو قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } [ الكافرون : 3 - 5 ] وقد تقع «ما » مكان «من » فيما لا يحصى كثرة من كلامهم ، ويحتمل أن تكون { ما } نافية ، ويكون قوله : { نسي } كلاماً تاماً ، ثم نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصاً لله ومقصوداً به من قبل النعمة ، أي في حال الضرر ، ويحتمل أن تكون { ما } نافية ويكون قوله : { من قبل } يريد به : من قبل الضرر ، فكأنه يقول : ولم يكن هذا الكافر يدعو في سائر زمنه قبل الضرر ، بل ألجأه ضرره إلى الدعاء . والأنداد : الأضداد التي تضاد وتزاحم وتعارض بعضها بعضاً . قال مجاهد : المراد من الرجال يطيعونهم في معصية الله تعالى . وقال غيره : المراد الأوثان .
وقرأ الجمهور : «ليُضل » بضم الياء ، وقرأها الباقون : أبو عمرو وعيسى وابن كثير وشبل ( بفتحها ) ثم أمر تعالى نبيه أن يقول لهم على جهة التهديد قولاً يخاطب به واحداً منهم : { تمتع بكفرك } أي تلذذ به واصنع ما شئت " قليلا " ، وهو عمر هذا المخاطب ، ثم أخبره أنه { من أصحاب النار } ، أي من سكانها والمخلدين فيها .
{ وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ }
هذا مثال لتقلب المشركين بين إشراكهم مع الله غيره في العبادة ، وبين إظهار احتياجهم إليه ، فذلك عنوان على مبلغ كفرهم وأقصاه . والجملة معطوفة على جملة { ذلكم الله رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ } [ الزمر : 6 ] الآية لاشتراك الجملتين في الدلالة على أن الله منفرد بالتصرف مستوجب للشكر ، وعلى أن الكفر به قبيح ، وتَتَضمن الاستدلال على وحدانية إلهية بدليل من أحوال المشركين به فإنهم إذا مسهم الضر لجأوا إليه وحده ، وإذا أصابتهم نعمة أعرضوا عن شكره وجعلوا له شركاء .
فالتعريف في { الإنْسَانَ } تعريف الجنس ولكن عمومه هنا عموم عرفي لفريق من الإِنسان وهم أهل الشرك خاصة لأن قوله : { وجَعَلَ لله أندَاداً } لا يتفق مع حال المؤمنين .
والقول بأن المراد : انسان معيّن وأنه عتبة بن ربيعة ، أو أبو جهل ، خروج عن مهيع الكلام ، وإنما هذان وأمثالهما من جملة هذا الجنس . وذكر الإِنسان إظهار في مقام الإِضمار لأن المقصود به المخاطبون بقوله : { خلقكم من نفس واحدة إلى قوله : { فَيُنَبِئكم بما كُنتمُ تَعْمَلُون } [ الزمر : 6 ، 7 ] ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : وإذا مسكم الضر دعوتم ربكم الخ ، فعدل إلى الإِظهار لما في معنى الإِنسان من مراعاة ما في الإِنسانية من التقلب والاضطراب إلا من عصمه الله بالتوفيق كقوله تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } [ مريم : 66 ] ، وقوله : { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } [ القيامة : 3 ] وغير ذلك ولأن في اسم الإِنسان مناسبة مع النسيان الآتي في قوله : { نسي ما كان يدعو إليه من قبل } . وتقدم نظير لهذه الآية في قوله : { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه } في سورة [ الروم : 33 ] .
والتخويل : الإِعطاء والتمليك دون قصد عوض . وعينُه واو لا محالة . وهو مشتق من الخَوَل بفتحتين وهو اسم للعبيد والخدم ، ولا التفات إلى فعل خال بمعنى : افتخر ، فتلك مادة أخرى غير ما اشتق منه فعل خَوَّل .
والنسيان : ذهول الحافظة عن الأمر المعلوم سابقاً .
ومَا صْدَق { ما } في قوله : { مَا كَانَ يَدْعُوا إلَيْهِ مِن قَبْلُ } هو الضر ، أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه ، أي إلى كشفه عنه ، ومفعول { يَدْعُوا } محذوف دل عليه قوله : { دَعَا رَبَّهُ } ، وضمير { إلَيْهِ } عائد إلى { ما } ، أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه ، أي إلى كشفه . ويجوز أن يكون { ما } صادقاً على الدعاء كما تدل عليه الصلة ويكون الضمير المجرور ب ( إلى ) عائداً إلى { رَبَّهُ } ، أي نسي الدعاء ، وضُمّن الدعاء معنى الابتهال والتضرع فعُدي بحرف ( إلى ) . وعائد الصلة محذوف دل عليه فعل الصلة تفادياً من تكرر الضمائر . والمعنى : نسي عبادة الله والابتهال إليه .
والأنداد : جمع نِدّ بكسر النون ، وهو الكفء ، أي وزاد على نسيان ربه فجعل له شركاء .
واللام في قوله : { لّيُضِلَّ عن سبيلِهِ } لام العاقبة ، أي لام التعليل المجازي لأن الإِضلال لما كان نتيجة الجعل جاز تعليل الجعل به كأنه هو العلة للجاعل . والمعنى : وجعل لله أنداداً فَضل عن سبيل الله .
وقرأ الجمهور { لّيُضِلَّ } بضم الياء ، أي ليضل الناس بعد أن أضل نفسه إذ لا يضل الناس إلا ضَالّ . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بفتح الياء ، أي ليَضل هو ، أي الجاعل وهو إذا ضلّ أضل الناس .
{ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار } .
استئناف بياني لأن ذكر حالة الإِنسان الكافر المعرض عن شكر ربه يثير وصفها سؤال السامع عن عاقبة هذا الكافر ، أي قل يا محمد للإِنسان الذي جعل لله أنداداً ، أي قل لكل واحد من ذلك الجنس ، أو روعي في الإِفراد لفظُ الإِنسان . والتقدير : قل تمتعوا بكفركم قليلاً إنكم من أصحاب النار . وعلى مثل هذين الاعتبارين جاء إفراد كاف الخطاب بعد الخبر عن الإِنسان في قوله تعالى : { يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر } في سورة [ القيامة : 10 - 12 ] .
والتمتع : الانتفاع الموقّت ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } في سورة [ الأعراف : 24 ] .
( والباء في { بِكُفْرِكَ } ظرفية أو للملابسة وليست لتعدية فعل التمتع . ومتعلِّق التمتع محذوف دل عليه سياق التهديد . والتقدير : تمتع بالسلامة من العذاب في زمن كفرك أو متكسباً بكفرك تمتعاً قليلاً فأنت آئل إلى العذاب لأنك من أصحاب النار .
ووصف التمتع بالقليل لأن مدة الحياة الدنيا قليل بالنسبة إلى العذاب في الآخرة ، وهذا كقوله تعالى : { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } [ التوبة : 38 ] . وصيغة الأمر في قوله : { تَمَتَّعْ } مستعملة في الإِمهال المراد منه الإِنذار والوعيد .
وجملة { إنَّكَ من أصحاب النَّارِ } بيان للمقصود من جملة { تَمَتَّع بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } وهو الإِنذار بالمصير إلى النار بعد مدة الحياة . و { من } للتبعيض لأن المشركين بعض الأمم والطوائف المحكوم عليها بالخلود في النار .
وأصحاب النار : هم الذين لا يفارقونها فإن الصحبة تشعر بالملازمة ، فأصحاب النار : المخلّدون فيها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا مسّ الإنسان بلاء في جسده من مرض، أو عاهة، أو شدّة في معيشته، وجهد وضيق "دَعا رَبّهُ "يقول: استغاث بربه الذي خلقه من شدّة ذلك، ورغب إليه في كشف ما نزل به من شدّة ذلك. وقوله: "مُنِيبا إلَيْهِ" يقول: تائبا إليه مما كان من قبل ذلك عليه من الكفر به، وإشراك الآلهة والأوثان به في عبادته، راجعا إلى طاعته... عن قتادة، قوله: "وَإذَا مَسّ الإنْسانَ ضُرّ": قال: الوجع والبلاء والشدّة "دَعا رَبّهُ مُنِيبا إلَيْهِ" قال: مستغيثا به.
وقوله: "ثُمّ إذَا خَوّلَهُ نَعْمَةً مِنْهُ": يقول تعالى ذكره: ثم إذا منحه ربه نعمة منه، يعني عافية، فكشف عنه ضرّه، وأبدله بالسقم صحة، وبالشدة رخاء. والعرب تقول لكلّ من أعطى غيره من مال أو غيره: قد خوّله... عن السديّ: "ثُمّ إذَا خَوّلَهُ نِعْمَةً مِنْه": إذا أصابته عافية أو خير.
وقوله: "نَسِيَ ما كانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ قَبْلُ": يقول: ترك دعاءه الذي كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ.
"وَجَعَلِ لِلّهِ أنْدَادا" يعني: شركاء... وقوله: "وَجَعَلَ لِلّهِ أنْدَادا" يقول: وجعل لله أمثالاً وأشباها.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي جعلوها فيه له أندادا؛
قال بعضهم: جعلوها له أندادا في طاعتهم إياه [لعل الصواب: إياها] في معاصي الله...
وقال آخرون: عنى بذلك أنه عبد الأوثان، فجعلها لله أندادا في عبادتهم إياها.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عَنَى به أنه أطاع الشيطان في عبادة الأوثان، فجعل له الأوثان أندادا، لأن ذلك في سياق عتاب الله إياهم له على عبادتها.
وقوله: "لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِهِ": يقول: ليزيل من أراد أن يوحد الله ويؤمن به عن توحيده، والإقرار به، والدخول في الإسلام.
وقوله: "قُلْ تَمَتّعْ بكُفْرِكَ قَلِيلاً": يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لفاعل ذلك: تمتع بكفرك بالله قليلاً إلى أن تستوفَي أجلك، فتأتيك منيتك.
"إنّكَ مِنْ أصحَابِ النّارِ": أي إنك من أهل النار الماكثين فيها.
وقوله: "تَمَتّعْ بِكُفْرِكَ": وعيد من الله وتهدّدٌ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} يحتمل قوله: {نسي} ألا تملك الأصنام التي عبدوها دفع ذلك عنهم ولا كشفه، أو {نسي} ألا تنفع شفاعتهم إياهم ونحوه كقوله عز وجل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] أي نسوا ما عملوا من عجز الأصنام ونحوه...
{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} كأن الآية في الرؤساء منهم، جعلوا لله أندادا ليضلوا الناس عن سبيله. يدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} في الدنيا {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} لما علم أنه يختم على الكفر.
ثم الحكمة في ذكر هذا وأمثاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحتمل وجوها:
أحدها: يصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على سوء معاملتهم إياه؛ ليحلم كما حلم عن سوء معاملتهم، ولم يستأصلهم على إثر ذلك. وذلك أعظم في العقل. والثانيٍ: يخبر الأواخر عن سوء معاملتهم ربهم؛ ليحذروا عن مثل معاملتهم ربهم. والثالث: يخبر عن حلمه أن كيف حلم عنهم فاحلم أنت.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" ليضل عن سبيله "فمن ضم الياء أراد ليضل بذلك غيره عن سبيل الحق. ومن فتح الياء أراد ليضل هو عن ذلك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا مَسَّه ضُرٌّ خَشَعَ وخَضَع، وإلى قُرْبه فزع، وتملَّق بين يديه وتضرع. فإذا أزال عنه ضُرَه، وكفاه أمرَه، وأصلح شغْلَه، نَسِيَ ما كان يدعو إليه من قبل، وجعل لله أنداداً، فيعود إلى رأس كفرانه، وينهمك في كبائر عصيانه، ويُشْرِكَ بمعبوده، هذه صِفَتُه... فَسُحْقاً له وبُعْداً، ولِسَوف يَلْقى عذاباً وخِزْياً.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ} من باب الخذلان والتخلية، كأنه قيل له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك ألا تؤمر به بعد ذلك، وتؤمر بتركه: مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه؛ لأنه لا مبالغة في الخذلان؛ أشدّ من أن يبعث على عكس ما أمر به، ونظيره في المعنى قوله: {متاع قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّم} [آل عمران: 197]...
اعلم أن الله تعالى لما بين فساد القول بالشرك وبين أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد، بين في هذه الآية أن طريقة هؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام متناقضة وذلك؛ لأنهم إذا مسهم نوع من أنواع الضر لم يرجعوا في طلب دفعه إلا إلى الله، وإذا زال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة الأصنام ومعلوم أنهم إنما رجعوا إلى الله تعالى عند حصول الضر؛ لأنه هو القادر على إيصال الخير ودفع الضر، وإذا عرفوا أن الأمر كذلك في بعض الأحوال، كان الواجب عليهم أن يعترفوا به في كل الأحوال فثبت أن طريقتهم في هذا الباب متناقضة...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{قل تمتع بكفرك قليلا} أمر تهديد فيه إشعار بأن الكفر نوع تشه لا سند له، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله: {إنك من أصحاب النار} على سبيل الاستئناف للمبالغة...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
القصد بهذه الآية عتاب وإقامة حجة، فالعتاب على الكفر وترك دعاء الله، وإقامة الحجة على الإنسان بدعائه إلى الله في الشدائد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر سبحانه أنه المختص بالملك وحده، وأتبعه بما يرضيه وما يسخطه، أقام الدليل على ذلك الاختصاص مع أنه أوضح من الشمس بدليل وجداني لكل أحد، على وجه ذمهم فيه بالتناقض الذي هم أعظم البأس ذماً له، ونفرة منه وذماً به فقال: {وإذا} وهي -والله أعلم- حالية من واو {تصرفون} وكان الأصل: مسكم، ولكنه عمم ودل بلفت القول عن الخطاب على الوصف الموجب للنسيان فقال:
{مس الإنسان} أي هذا النوع الآنس بنفسه مؤمنه وكافره.
{ضر} أي ضر كان من جهة يتوقعها -بما أشار إليه الظرف بمطابقة لمقصود السورة مع تهديد آخر التي قبلها.
{دعا ربه} أي الحسن إليه الذي تقدم تنبيهكم من غفلتكم عليه بقوله "ذلكم الله ربكم "ذاكراً صفة إحسانه.
{منيباً} أي راجعاً رجوعاً عظيماً {إليه} بباطنه مخلصاً في ذلك عالماً أنه لا يكفيه أمره غيره ضرورة يجدها في نفسه؛ لأن الضر أزال عنه الأموية والحظوظ، معرضاً عما كان يزعم من الشركاء معرفاً لسان حاله أنه لا شريك له سبحانه كما هو الحق فتطابق في حال الضراء الحق والاعتقاد.
ولما كان الإنسان لما جبل عليه من الجزع واليأس إذا كان في ضر استبعد كل البعد أن يكشف عنه، لتقيده بالجزئيات وقصوره على التعلق بالأسباب، أشار إلى ذلك مع الإشارة إلى الوعد بتحقيق الفرج فقال: {ثم} أي بعد استبعاده جداً.
ولما كان الرخاء محققاً، وهو أكثر من الشدة، عبر بأداة التحقق، فقال منبهاً بالتعبير ب "خول" على أن عطاءه ابتداء فضل منه لا يستحق أحد عليه شيئاً، لأن التخويل لا يكون جزاء بل ابتداء: {إذا خوله} أي أعطاه عطاء متمكناً ابتداء، وجعله حسن القيام عليه قادراً على إجادة تعهده.
{نعمة منه} ومكنه فيها {نسي} أي مع دعائه أن يشكر على الإحسان، فكانت مدة تخويله ظرف نسيانه، فعلم أن صلاحه بالضراء.
{ما} أي الأمر الذي {كان يدعوا} ربه على وجه الإخلاص {إليه} أي إلى كشفه من ذلك الضر الذي كان، وأعلم بتقارب وقتي النسيان والإنابة بإثبات الجار فقال:
{من قبل} أي قبل حال التخويل {وجعل} زيادة على الكفران بنسيان الإحسان.
{لله} أي الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والعقل والسمع.
{أنداداً} أي لكونه يتألههم، فينزلهم بذلك منزلة من يكون قادراً على المعارضة والمعاندة، فقد علم من التعبير بالنسيان أنه عالم بربه، ولذلك دعاه في كشف ضره وأنه جعل علمه عند الإحسان إليه جهلاً، فكان كمن لا يعلم من سائر الحيوانات العجم.
ولما كان ذلك في غاية الضلال لكونه- مع أنه خطأ -موجباً لقطع الإحسان وعدم الإجابة في كشف الضر مرة أخرى وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس، وكان هذا الضلال في غاية الظهور، وكان العاقل لا يفعل شيئاً إلا لعلة، عظمهم تهكماً بهم عن أن يكونوا ضلوا هذا الضلال الظاهر من غير قصد إليه، فقال مشيراً إلى ذلك كله: {ليضل عن سبيله} أي الطريق الموصل إلى رضوانه، الموجب للفوز بإحسانه. ولما كان من المعلوم أنه لا بد من عقوبته في دار القرار، فقال تعالى مبيناً لأن هذا التمتع إنما هو سبب هذا الكفران استدراجاً مع الإعراض المؤذن بالغضب.
{قل} أي يا أحب خلقنا إلينا المستحق للإقبال عليه بالخطاب، لهذا الذي قد حكم بكفره مهدداً له بما يقوته بلذيذ عيشه في الدنيا من الفيض من الجناب الأقدس ويؤول إليه أمره من العذاب الأكبر: {تمتع} أي في هذه الدنيا التي هي وكل ما فيها- مع كونه زائلاً -يفيض إلى الله، فهو من جملة المقت إلا لمن صرفه في طاعة الله.
ولما ذكر تمتيعه بالخسيس، ذكر سببه الخسيس تعظيماً لأجور المؤمنين لانصرافهم عن الكفر مع علمهم بأنه من أسباب التمتيع وبياناً لذوي الهمم العوال من غيرهم فقال: {بكفرك} ثم أشار إلى قلة زمن الدنيا وما فيها في جنب الآخرة فقال: {قليلاً} ثم علل ذلك بما إذا غمس في عذابه أنعم أهل الدنيا غمسة واحدة قال: ما رأيت نعيماً قط، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم بالنار، ودفعاً لما استقر في نفوسهم أن تنعيمهم في الدنيا إنما هو لقربهم من الله ومحبته لهم، وأن ذلك يتصل بنعيم الآخرة على تقدير كونها: {إنك} وهذا الأمر هنا يراد به الزجر تقديره: إن تمتعت هكذا كنت {من أصحاب النار} أي الذين لم يخلقوا إلا لها {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن فطرة الإنسان تبرز عارية حين يمسه الضر؛ ويسقط عنها الركام؛ وتزول عنها الحجب، وتتكشف عنها الأوهام؛ فتتجه إلى ربها، وتنيب إليه وحده؛ وهي تدرك أنه لا يكشف الضر غيره. وتعلم كذب ما تدعي من شركاء أو شفعاء. فأما حين يذهب الضر ويأتي الرخاء، ويخوله الله نعمة منه، ويرفع عنه البلاء. فإن هذا الإنسان الذي تعرت فطرته عند مس الضر يعود فيضع عليها الركام، وينسى تضرعه وإنابته وتوحيده لربه. وتطلعه إليه في المحنة وحده، حين لم يكن غيره يملك أن يدفع عنه محنته.. ينسى هذا كله ويذهب يجعل لله أنداداً. إما آلهة يعبدها كما كان في جاهليته الأولى؛ وإما قيماً وأشخاصاً وأوضاعاً يجعل لها في نفسه شركة مع الله، كما يفعل في جاهلياته الكثيرة! فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله وأولاده وحكامه وكبراءه كما يعبد الله أو أخلص عبادة؛ ويحبها كما يحب الله أو أشد حباً!
والشرك ألوان: فيها الخفي الذي لا يحسبه الناس شركاً؛ لأنه لا يأخذ شكل الشرك المعروف، وإنما هو من الشرك في الصميم. وتكون العاقبة هي الضلال عن سبيل الله. فسبيل الله واحد لا يتعدد. وإفراده بالعبادة والتوجه والحب هو وحده الطريق إليه. والعقيدة في الله لا تحتمل شركة في القلب. لا تحتمل شركة من مال ولا ولد ولا وطن ولا أرض ولا صديق ولا قريب، فأيما شركة قامت في القلب من هذا وأمثاله فهي اتخاذ أنداد لله، وضلال عن سبيل الله، منته إلى النار بعد قليل من المتاع في هذه الأرض... وكل متاع في هذه الأرض قليل مهما طال. وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عمر. بل إن حياة الجنس البشري كله على الأرض لمتاع قليل، حين يقاس إلى أيام الله!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا مثال لتقلب المشركين بين إشراكهم مع الله غيره في العبادة، وبين إظهار احتياجهم إليه، فذلك عنوان على مبلغ كفرهم وأقصاه. والجملة معطوفة على جملة {ذلكم الله رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ} [الزمر: 6] الآية لاشتراك الجملتين في الدلالة على أن الله منفرد بالتصرف مستوجب للشكر، وعلى أن الكفر به قبيح، وتَتَضمن الاستدلال على وحدانية إلهية بدليل من أحوال المشركين به فإنهم إذا مسهم الضر لجأوا إليه وحده، وإذا أصابتهم نعمة أعرضوا عن شكره وجعلوا له شركاء...
فالتعريف في {الإنْسَانَ} تعريف الجنس ولكن عمومه هنا عموم عرفي لفريق من الإِنسان وهم أهل الشرك خاصة؛ لأن قوله: {وجَعَلَ لله أندَاداً} لا يتفق مع حال المؤمنين. والقول بأن المراد: انسان معيّن وأنه عتبة بن ربيعة، أو أبو جهل، خروج عن مهيع الكلام، وإنما هذان وأمثالهما من جملة هذا الجنس. وذكر الإِنسان إظهار في مقام الإِضمار؛ لأن المقصود به المخاطبون بقوله: {خلقكم من نفس واحدة إلى قوله: {فَيُنَبِئكم بما كُنتمُ تَعْمَلُون} [الزمر: 6، 7]، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: وإذا مسكم الضر دعوتم ربكم الخ، فعدل إلى الإِظهار لما في معنى الإِنسان من مراعاة ما في الإِنسانية من التقلب والاضطراب إلا من عصمه الله بالتوفيق كقوله تعالى: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً} [مريم: 66]، وقوله:
{أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} [القيامة: 3] وغير ذلك؛ ولأن في اسم الإِنسان مناسبة مع النسيان الآتي في قوله: {نسي ما كان يدعو إليه من قبل}. وتقدم نظير لهذه الآية في قوله: {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه} في سورة [الروم: 33]...
والتخويل: الإِعطاء والتمليك دون قصد عوض، والنسيان: ذهول الحافظة عن الأمر المعلوم سابقاً...
{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار} استئناف بياني؛ لأن ذكر حالة الإِنسان الكافر المعرض عن شكر ربه يثير وصفها سؤال السامع عن عاقبة هذا الكافر، أي قل يا محمد للإِنسان الذي جعل لله أنداداً، أي قل لكل واحد من ذلك الجنس، أو روعي في الإِفراد لفظُ الإِنسان، والتقدير: قل تمتعوا بكفركم قليلاً إنكم من أصحاب النار، وعلى مثل هذين الاعتبارين جاء إفراد كاف الخطاب بعد الخبر عن الإِنسان في قوله تعالى: {يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر} في سورة [القيامة: 10 -12]...
والتمتع: الانتفاع الموقّت، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} في سورة [الأعراف: 24]...
وصيغة الأمر في قوله: {تَمَتَّعْ} مستعملة في الإِمهال المراد منه الإِنذار والوعيد...
وأصحاب النار: هم الذين لا يفارقونها فإن الصحبة تشعر بالملازمة، فأصحاب النار: المخلّدون فيها...
(الضُّر) هو ما يُخرِج الإنسان عن سلامته في نفسه، أو فيمَنْ يعول أو فيما يملك، والإنسان حينما يصيبه الضُّر يُفقِده ركيزة التعالي؛ لأنه لا يسلِّم نفسه بلا ثمن، ويعرف أنه لا أحدَ يرفع عنه ضُرَّه إلا الله، فيتوجه إليه وحده ولا يغشَّ نفسه...
كذلك الإنسان إذا مسَّه الضر وعزَّتْ عليه أسبابه لا يلجأ إلا إلى ربه بعد أنْ انهدَّتْ فيه حيثية {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ} [العلق: 6-7] وبعد أنْ سقط عنه قناع التعالي والغطرسة...
فالإنسان ساعةَ يصيبه الضر، وهو يعلم أن الضر لا يرفعه إلا الله، ولا يصرفه إلا خالق السماوات والأرض، فإنه لا يتوجه إلا إليه، لمن تعتقد مواجيده أنه قادر على رَفْع هذا الضر، حتى لو كان كافراً بالله، غيرَ مؤمن به فإنه إذا مسَّه الضر يقول: يا رب، والعجيب أن الله يقبله ويغيثه ولا يرده {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوۤءَ} [النمل: 62].
ويكفيك أنك لم تجد إلا أنا ولا تقول إلا يا رب. لذلك قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] يعني: إنْ دعوتَ غير الله لا يستطيع الوصول، ويضل الطريق إليك، ولا يجيبك إلا الله.
ومعنى {مُنِيباً إِلَيْهِ} راجعاً إليه. {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ} [الزمر: 8] يعني: أعطاه {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} [الزمر: 8] أثار العلماءُ ضجة ومعركة حول الاسم الموصول (ما) هنا وقالوا: لماذا لم يقل نسي مَنْ لأن مَنْ تدل على العاقل، أما (مَا) فلغير العاقل، على معنى أن (مَا) هنا تعود إلى الله تعالى.
ونقول: القرآن يسير على غير هذا، واقرأ: {قُلْ يٰأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 1-3] فـ (ما) أطلقت على الله تعالى. إذن: (ما) هنا في معناها الصحيح، وإنْ غابت عنكم حكمة ذلك، نعم مَنْ للعاقل، وما لغير العاقل، لكن الحق سبحانه لم يصف نفسه بالعقل؛ لأن العقل صفتك أنت، فجاء بالصفة التي لا تمنع عدم وجود العقل، ولو قال مَنْ لأدخل الحق سبحانه فيمن يعقل، وهو سبحانه لم يصِف نفسه بأنه عاقل، إنما عالم وعلاَّم.
ويمكن تفادي هذا الإشكال لو وجَّهنا (ما) توجيهاً آخر، فيكون المعنى: نسي الضر الذي كان سبباً في رجوعه إلى الله، لا نسي مَنْ أنقذه، وكشف عنه ضُرَّه، وتكون مَا بمعناها اللغوي لغير العاقل.
وقوله: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} أنداد: جمع ند، وهو الشبيه أو المثيل والنظير، وهؤلاء الكفار رجعوا لله تعالى أنداداً مع علمهم أنه الإله الحق سبحانه، ومع علمهم أنه ضَلَّ مَنْ تدعون إلا إياه، ليرضوا في أنفسهم مواجيد الفطرة الإيمانية، فالواحد منهم يريد أنْ يكون له إله يعبده، لكن إله على هواه، إله ليس له تكاليف، وليس في عبادته مشقة على النفس، إله بلا منهج: لا افعل، ولا لا تفعل.
وقوله {لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} البعض قرأها بالفتح (ليَضل) ونقول: هو لم يفعل ذلك إلا لأنه ضَالٌّ في نفسه، فالأقرب بالضم (ليُضل) أي: يُضل غيره.
ثم يقول سبحانه (قُل) أي: رُدَّ يا محمد. وقُلْ: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} لكن ما وجه التمتُّع بالكفر؟ قلنا: أن يعبدَ إلهاً بلا منهج وبلا تكاليف، إلهاً لا يمنعه من شُرْب الخمر ولا يقيد شهوات نفسه إلهاً لا يأمره بالصدق ولا بالأمانة.. إلخ بل يتركه يربع في الكون يتمتع به كما يشاء.
وقال: {قَلِيلاً} لأن التمتُّع هنا موقوت بالدنيا ومدة بقائه فيها، وقلنا: إن الدنيا بالنسبة للإنسان هي مدة بقائه فيها لا مدتها منذ خَلْق آدم إلى قيام الساعة.
وكلمة {مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} الصحبة هنا تدل على التعارف والمودة الحميمة بين النار وأهلها؛ لذلك يقول تعالى في خطاب النار: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] يعني: هاتوا أحبابي وأصحابي، وإليَّ بالمزيد منهم.