اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَا رَبَّهُۥ مُنِيبًا إِلَيۡهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُۥ نِعۡمَةٗ مِّنۡهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدۡعُوٓاْ إِلَيۡهِ مِن قَبۡلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادٗا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِۦۚ قُلۡ تَمَتَّعۡ بِكُفۡرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِ} (8)

قوله : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّه } لما بين فساد القول بالشِّركِ وبين أنه تعالى هو الذي يجب أن يعبد بين ههنا أن طريقة الكفار متناقضة لأنهم إذا مسهم الضر طلبوا دفعه من الله ، وإذا أزال ذلك الضر عنهم رَجَعُوا إلى عبادة غيره فكان الواجب عليهم أن يتعرفوا بالله تعالى في جميع الأحوال لأنه القادر على إيصال الخير ودفع الشر فظهر تناقض طريقهم . والمراد بالإنسان الكافر ، وقيل المراد : أقوام معينين كعُتْبَةَ بْنِ ربيعة وغيره . والمراد بالضر جميع المكاره سواء كان في جسمه أو ماله أو في أهله وولده ، لأن اللفظ مطلق فلا معنى لتقييده .

قوله : { مُنِيباً } حال من فاعل «دَعَا » و «إلَيْهِ » متعلق «بمُنِيباً » أي راجعاً إليه في إزالة ذلك الضر ، ولأن الإنابة الرجوع .

قوله : { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ } أعطاه «نعمة منهُ » أي أعطاها إياه ابتداء من غير مقتضٍ . ولا يستعمل في الجزاء بل في ابتداء العطيَّة ، قال زهير :

هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْوَلُوا المَالَ يُخْولوا*** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويروى : يُسْتَخْبَلُوا الماَل يُخْبِلوا ، وقال أبو النجم :

أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلِ*** كُومَ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوِّلِ

وحقيقة خول من أحد معنيين إما من قولهم : هو خائلُ مال إذا كان متعهِّداً له حسن القيام عليه ، وإما من خَالَ يَخُول إذا اخْتَالَ وافْتَخَر ، ومنه قول العرب : إن الغَنِيَّ طَويلُ الذَّيْلِ مَيَّاسُ الخَيْلِ ، وقد تقدم اشتقاق هذه المادة مُسْتَوْفًى في الأنْعَام .

قوله : «منه » يجوز أن يكون متعلقاً «بِخَوَّلَ » وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة : «لِنِعْمَةٍ » .

قوله : { نَسِيَ } أي تَركَ «مَا كاَن يَدْعُو إلَيْهِ » يجوز في «ما » هذه أربعة أوجه :

أحدها : أن تكون موصولة بمعنى الذي مراداً بها الضُّرّ أي نَسِيَ الشَّرَّ الذي يدعو إلى كَشفه أي ترك دعاءه كأنه ( لم ) يتضرع إلى ربه .

الثاني : أنها بمعنى الذي مراداً الباري تعالى أي نسي الله الذي كان يتضرع إليه . وهذا عند من يجيز وقوع «ما » على أولي العلم ، وقال ابن الخطيب : وما بمعنى «مَنْ » كقوله : { وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } [ الليل : 3 ] { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] .

الثالث : أن تكون «ما » مصدرية أي نَسِيَ كَوْنَهُ داعياَ .

الرابع : أن تكون ( ما ) نافية وعلى هذا فالكلام تام على قوله : «نَسِيَ » ثم استأنف إخباراً بجملة منفية ، والتقدير : نسي ما كان فيه لم يكن دعاء هذا الكافر خالصاً لله تعالى . وقوله : { مِن قَبْلُ } أي من قبل الضر على القول الأخير ، وأما على الأقوال قبله فالتقدير من قبل تحويل النَّعْمة .

قوله : { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } يعني الأوثان «لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لِيَضِلَّ » بفتح الياء أي ليفعل الضلالَ بنفسه ، والباقون بضمها فمفعوله محذوف ، وله نظائر تقدمتْ ، واللام يجوز أن تكون للعلة ، وأن تكون لام العاقبة كقوله : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .

ثم قال : قُلْ يَا مُحَمد لهذا الكافر «تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قِلِيلاً » في الدنيا أي إلى انقضاء أجلك ، وليس المراد منه الأمر بل المراد منه الزجرُ وأن يعرفه قلة تَمَتُّعِهِ في الدنيا ثم مصيره إلى النار ، قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة ، وقال مقاتل : نزلت في حُذَيْفَةَ بنِ المغيرة المَخْزُومِيّ ، وقيل : عامٌّ في كل كافر .