قوله تعالى : { تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن } ، قرأ أبو عمرو ، و حمزة ، والكسائي ، حفص ، و يعقوب : تسبح بالتاء وقرأ الآخرون بالياء للحائل بين الفعل والتأنيث . { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } ، روي عن ابن عباس أنه قال : وإن من شيء حي إلا يسبح بحمده . وقال قتادة : يعني الحيوانات والناميات . وقال عكرمة : الشجرة تسبح ، والأسطوانة لا تسبح . وعن المقدام بن معد يكرب قال : إن التراب يسبح ما لم يبتل ، فإذا ابتل ترك التسبيح ، وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها ، فإذا رفعت تركت التسبيح ، وإن الورقة لتسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت التسبيح ، وإن الثوب ليسبح ما دام جديداً فإذا وسخ ترك التسبيح ، وإن الماء يسبح مادام جارياً فإذا ركد ترك التسبيح ، وإن الوحش والطير تسبح إذا صاحت فإذا سكنت تركت التسبيح . وقال إبراهيم النخعي : وإن من شيء جماد وحي إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف . وقال مجاهد : كل الأشياء تسبح ، حياً كان أو ميتاً أو جماداً ، وتسبيحها سبحان الله وبحمده .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن المثنى ، أنبأنا أبو أحمد الزبير ، أنبأنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : " كنا نعد الآيات بركة ، وأنتم تعدونها تخويفاً ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال : اطلبوا فضلة من ماء ، فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل ، فأدخل يده في الإناء ثم قال : حي على الطهور المبارك ، والبركة من الله ، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل " . وقال بعض أهل المعاني : تسبح السماوات والأرض والجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ما دلت بلطيف تركيبها وعجيب هيئتها على خالقها ، فيصير ذلك بمنزلة التسبيح منها . والأول هو المنقول عن السلف . واعلم أن الله تعالى علماً في الجمادات لا يقف عليه غيره ، فينبغي أن يوكل علمه إليه . { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } أي لا تعلمون تسبيح ما عدا من يسبح بلغاتكم وألسنتكم ، { إنه كان حليماً غفوراً } .
{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ } من حيوان ناطق وغير ناطق ومن أشجار ونبات وجامد وحي وميت { إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } بلسان الحال ولسان المقال . { وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أي : تسبيح باقي المخلوقات التي على غير لغتكم بل يحيط بها علام الغيوب .
{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } حيث لم يعاجل بالعقوبة من قال فيه قولا تكاد السماوات والأرض تتفطر منه وتخر له الجبال ولكنه أمهلهم وأنعم عليهم وعافاهم ورزقهم ودعاهم إلى بابه ليتوبوا من هذا الذنب العظيم ليعطيهم الثواب الجزيل ويغفر لهم ذنبهم ، فلولا حلمه ومغفرته لسقطت السماوات على الأرض ولما ترك على ظهرها من دابة .
ثم بين - سبحانه - أن جميع الكائنات تسبح بحمده فقال - تعالى - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } .
والتسبيح : مأخوذ من السبح ، وهو المر السريع فى الماء أو فى الهواء ، فالمسبح مسرع فى تنزيه الله وتبرئته من السوء ، ومن كل ما لا يليق به - سبحانه - .
أى تنزه الله - تعالى - وتمجده السموات السبع ، والأرض ، ومن فيهن من الإِنس والجن والملائكة وغير ذلك ، وما من شئ من مخلوقاته التى لا تحصى إلا ويسبح بحمد خالقه - تعالى - ، ولكن أنتم يا بنى آدم { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } لأن تسبيحهم بخلاف لغتكم ، وفوق مستوى فهمكم ، وإنما الذى يعلم تسبيحهم هو خالقهم عز وجل ، وصدق - سبحانه - إذ يقول : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } والمتدبر فى هذه الآية الكريمة ، يراها تبعث فى النفوس الخشية والرهبة من الخالق - عز وجل - ، لأنها تصرح تصريحا بليغا بأن كل جماد ، وكل حيوان ، وكل طير ، وكل حشرة . . بل كل كائن فى هذا الوجود يسبح بحمده - تعالى - .
وهذا التصريح يحمل كل إنسان عاقل على طاعة الله ، وإخلاص العبادة له ، ومداومة ذكره . . حتى لا يكون - وهو الذى كرمه ربه وفضله - أقل من غيره طاعة لله - تعالى - .
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } تذييل قصد به بيان فضل الله - تعالى - ورحمته بعباده مع تقصيرهم فى تسبيحه وذكره .
أى : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماًً } لا يعاجل المقصر بالعقوبة ، بل يمهله لعله يرعوى وينزجر عن تقصيره ومعصيته ، { غفورا } لمن تاب وآمن وعمل صالحا واهتدى إلى صراطه المستقيم .
هذا ، ومن العلماء من يرى أن تسبيح هذه الكائنات بلسان الحال .
قال بعض العلماء تسبيح هذه الكائنات لله - تعالى - هو دلالتها - بإمكانها وحدوثها ، وتغير شئونها ، وبديع صنعها - على وجود مبدعها ، ووحدته وقدرته ، وتنزهه عن لوازم الإِمكان والحدوث ، كما يدل الأثر على المؤثر .
وقوله تعالى : { تسبح له السماوات } الآية ، المعنى ينزهه عن هذه المقالة التي لكم ، والاشتراك الذي أنتم بسبيله ، { السماوات السبع والأرض } ، ثم أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل ، وهو التسبيح ، وقوله { من فيهن } يريد الملائكة والإنس والجن ، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها ، في قوله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } أي ينزه الله ويحمده ويمجده ، واختلف أهل العلم في التسبيح ، فقالت فرقة هو تجوز ، ومعناه إن كل شيء تبدو فيه صنعة الصانع الدالة عليه فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر ، ومن حجة هذا التأويل قوله تعالى : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي }{[7583]} وقالت فرقة { من شيء } لفظ عموم ، ومعناه الخصوص في كل حي ونام ، وليس ذلك في الجمادات البحتة ، فمن هذا قول عكرمة : الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح ، وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام ، وقد قدم الخوان : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد ؟ فقال قد كان يسبح مرة ، يريد أن الشجرة في زمان نموها واغتذائها تسبح ، فمذ صارت خواناً مدهوناً أو نحوه صارت جماداً ، وقالت فرقة : هذا التسبيح حقيقة ، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحاً لا يسمعه البشر ولا يفقهه ، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون من أنه أثر الصنعة لكان أمراً مفقوهاً ، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه .
قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يراد بقوله { لا تفقهون } الكفار والغفلة ، أي إنهم يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله تعالى في الأشياء وقال الحسن : بلغني أن معنى هذه الآية في التوراة ذكر فيه ألف شيء مما يسبح سبحت له السماوات ، سبحت له الأرض ، سبح كذا ، سبح كذا ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر : «يسبح له » بالياء ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «تسبح » بالتاء ، والقراءتان حسنتان ، وقرأ عبد الله بن مسعود وطلحة والأعمش «سبحت له السماوات » ، وقوله { إنه كان حليماً غفوراً } فيه تنبيه على إملائه لهم وصفحه عنهم في الدنيا وإمهاله لهم مع شنيع هذه المقالة ، أي تقولون قولاً ينزهه عنه كل شيء من المخلوقات ، { إنه كان حليماً غفوراً } فلذلك أمهلكم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.