فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا} (44)

{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( 44 ) } .

ثم بين سبحانه جلالة ملكه وعظمة سلطانه فقال : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } قال فيهن بضمير العقلاء لإسناده إليها التسبيح الذي هو فعل العقلاء ، وقد أخبر سبحانه عن السموات والأرض بأنها تسبحه ، وكذلك من فيها من مخلوقاته الذين لهم عقول وهم الملائكة من الإنس والجن وغيرهم من الأشياء التي لا تعقل .

ففيه دلالة على أن الأكوان بأسرها دالة شاهدة بتلك النزاهة ، ولكن المشركين لا يفهمون تسبيحها ، فالقصد من هذا توبيخهم وتقريعهم على اتباعهم الشركاء لله مع أن كل شيء ممن عداهم ينزهه عن كل نقص .

أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الرحمن بن قرظ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى كان جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فطارا به حتى بلغ السموات العلى ، فلما رجع قال : سمعت تسبيحا في السموات العلى مع تسبيح كثير ، سبحت السموات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى ) .

وأخرج ابن مردويه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو جالس مع أصحابه إذ سمع هدة فقال : ( أطت السماء ، ويحقها أن تئط ، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا فيه جبهة ملك ساجد يسبح الله بحمد ) {[1074]} .

ثم زاد ذلك تعميما وتأكيدا فقال : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ } متلبسا { بِحَمْدَهِ } فيشمل كل ما يسمى شيئا كائنا ما كان حتى صرير الباب ونقيض السقف وتسبيحها سبحان الله وبحمده . وقيل أنه يحمل قوله ومن فيهن على الملائكة والثقلين ويحمل قوله وإن من شيء على ما عدا ذلك من المخلوقات .

وقد اختلف أهل العلم في هذا العموم هل هو مخصوص أم لا ، فقالت طائفة ليس بمخصوص ، وحملوا التسبيح على تسبيح الدلالة لأن كل مخلوق يشهد على نفسه ويدل غيره بأن الله خالق قادر .

وقالت طائفة هذا التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره ، والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله هذا التسبيح الذي معناه التنزيه ، وإن كان البشر لا يسمعون ذلك لكونهم محجوبين عن سماعه ولا يفهمونه لكونه بغير لغاتهم .

وهذا يقتضي أن تسبيح الجماد بلسان المقال وهو الذي اختاره الخازن وأثبته بأحاديث متعددة ، قال في الجمل وهو قريب جدا ، ويؤيد هذا قوله سبحانه : { وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ } بالتاء والياء { تَسْبِيحَهُمْ } فإنه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمرا مفهوما لكل أحد .

وأجيب بأن المراد بقوله : { لاَّ تَفْقَهُونَ } الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار وقالت طائفة : هذا العموم مخصوص بالملائكة والثقلين دون الجمادات ، وقيل خاص بالأجسام النامية فيدخل النباتات ، كما روي هذا القول عن عكرمة والحسن وخص تسبيح النباتات بوقت نموها لا بعد قطعها .

وقد استدل لذلك بحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على قبرين وفيه ( ثم دعا بعسيب رطب فشقه بإثنين وقال إنه يخفف عنهما ما لم ييبسا ) {[1075]} ويؤيد حمل الآية على العموم قوله : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق } وقوله : { وإن منها لما يهبط من خشية الله } وقوله : { وتخر الجبال هدا } ونحو ذلك من الآيات .

وثبت في الصحيح أنهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام وهم يأكلون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم{[1076]} . وهكذا حديث حنين الجذع ، وحديث أن حجرا بمكة كان يسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكلها في الصحيح .

ومن ذلك تسبيح الحصا في كفه صلى الله عليه وآله وسلم ، ومدافعة عموم هذه الآية بمجرد الاستبعادات ، ليس دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده .

قال السدي : ما اصطيد حوت في البحر ولا طائر يطير إلا بما يضيع من تسبيح الله تعالى .

{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } فمن حمله الإمهال لكم وعدم إنزال عقوبته عليكم على غفلتكم وسوء نظركم وجهلكم بالتسبيح ، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم .

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه أن نوحا قال لابنه : يا بني آمرك أن تقول سبحان الله فإنها صلاة الخلائق وتسبيح الخلق وبها يرزق الخلق ) قال الله تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه من أجل نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبح ) {[1077]} .

وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر وقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الضفدع وقال : ( نقيقها تسبيح ) ( 2 ) {[1078]} وأخرج أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس قال : الزرع يسبح وأجره لصاحبه والثوب يسبح ويقول الوسخ إن كنت مؤمنا فاغسلني إذن ، وعنه قال : كل شيء يسبح إلا الكلب و الحمار أخرجه أبو الشيخ .

وعن الحسن قال : هذه الآية في التوراة كقدر ألف آية وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، قال : في التوراة تسبح له الجبال وتسبح له الشجر ويسبح له كذا وكذا ، وفي الباب أحاديث وروايات عن السلف فيها تصريح بتسبيح جميع المخلوقات .


[1074]:أخرجه أبو نعيم في الحلية 6 / 269 بهذا اللفظ وبسند ضعيف.
[1075]:مسلم 292 البخاري 164.
[1076]:البخاري كتاب المناقب باب 25 – الإمام أحمد 1 / 460.
[1077]:مسلم 2241 – البخاري 1434.
[1078]:صحيح الجامع الصغير 6848. بلفظ (نهى عن قتل الضفدع للدواء) - الروض النضير / 265.