قوله تعالى : { وإن منكم لمن ليبطئن } نزلت في المنافقين . وإنما قال { منكم } لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسب ، وإظهار الإسلام ، لا في الحقيقة الإيمان .
{ ليبطئن } أي : ليتأخرن ، وليتثاقلن عن الجهاد ، وهو عبد الله بن أبي المنافق ، واللام في { ليبطئن } لام القسم ، والتبطئة : التأخر عن الأمر ، يقال : ما أبطأ بك ؟ أي : ما أخرك عنا ؟ ويقال : أبطأ ، إبطاءً ، وبطأ يبطئ تبطئة .
قوله تعالى : { فإن أصابتكم مصيبة } أي : قتل وهزيمة .
قوله تعالى : { قال قد أنعم الله علي } بالقعود .
قوله تعالى : { إذ لم أكن معهم شهيداً } ، أي : حاضراً في تلك الغزاة فيصيبني ما أصابهم .
ثم أخبر عن ضعفاء الإيمان المتكاسلين عن الجهاد فقال : { وَإِنَّ مِنْكُمْ } أي : أيها المؤمنون { لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } أي : يتثاقل عن الجهاد في سبيل الله ضعفا وخورا وجبنا ، هذا الصحيح .
وقيل معناه : ليبطئن غيرَه أي : يزهده عن القتال ، وهؤلاء هم المنافقون ، ولكن الأول أَولى لوجهين :
أحدهما : قوله { مِنْكُمْ } والخطاب للمؤمنين .
والثاني : قوله في آخر الآية : { كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } فإن الكفار من المشركين والمنافقين قد قطع الله بينهم وبين المؤمنين المودة . وأيضا فإن هذا هو الواقع ، فإن المؤمنين على قسمين :
صادقون في إيمانهم أوجب لهم ذلك كمال التصديق والجهاد .
وضعفاء دخلوا في الإسلام فصار معهم إيمان ضعيف لا يقوى على الجهاد .
كما قال تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى آخر الآيات . ثم ذكر غايات هؤلاء المتثاقلين ونهاية مقاصدهم ، وأن معظم قصدهم الدنيا وحطامها فقال : { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } أي : هزيمة وقتل ، وظفر الأعداء عليكم في بعض الأحوال لما لله في ذلك من الحكم . { قَالَ } ذلك المتخلف { قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } رأى من ضعف عقله وإيمانه أن التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك المصيبة نعمة . ولم يدر أن النعمة الحقيقية هي التوفيق لهذه الطاعة الكبيرة ، التي بها يقوى الإيمان ، ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران ، ويحصل له فيها عظيم الثواب ورضا الكريم الوهاب .
وأما القعود فإنه وإن استراح قليلاً ، فإنه يعقبه تعب طويل وآلام عظيمة ، ويفوته ما يحصل للمجاهدين .
ثم كشف - سبحانه - عن فساد المنافقين وضعاف الإِيمان فقال : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } أى : ليتأخرن وليتثاقلن عن الجهاد . من " بطأ " - بالتشديد - بمعنى أبطأ فهو فعل لازم . وقد يستعمل أبطأ وبطأ - بالتشديد - متعديين ، وعليه يكون المفعول هنا محذوف أى : ليبطئن غيره ويثبطه عن الخروج للجهاد فى سبيل الله .
وقد جمع المنافقون وضعاف الإِيمان بين الأمرين : فقد كانوا يتخلفون عن الجهاد فى سبيل الله وينتحلون المعاذير الكاذبة لتخلفهم ، ولا يكتفون بذلك بل يحاولون منع غيرهم عن الخروج للجهاد .
والتعبير بقوله { لَّيُبَطِّئَنَّ } تعبير فى أسمى درجات البلاغة والروعة ، لأنه يصور الحركة النفسية للمنافقين وضعاف الإِيمان وهم يشدون أنفسهم شدا ، ويقدمون رجلا ويؤخرون أخرى عندما يدعوهم داعى الجهاد إلى الخروج من أجل إعلاء كلمة الله .
وقد اشتملت الجملة الكريمة على جملة مؤكدات ، للاشعار بأن هؤلاء المنافقين لا يتركون فرصة تمردون أن يبثوا سمومهم بنشاط وإصرار ، وأنهم حريصون كل الحرص على توهين عزائم المجاهدين ، وحملهم على أن يكونوا مع القاعدين كما هو شأن المنافقين .
والمراد بقوله { مِنْكُمْ } أى من جنسكم وممن يعيشون معكم ويساكنونكم ، ويرتبطون معكم برباط القرابة ، ويتظاهرون بالإِسلام ، فلقد كان المنافقون فى المدينة تربطهم روابط متعددة بالمؤمنين الصادقين ، كما هو معروف فى التاريخ الإِسلامى .
فمثلا عبد الله بن أبى بن سلول - زعيم المنافين - كان أحد أبنائه من المؤمنين الصادقين .
وقد وجه القرآن الخطاب إلى المؤمنين لكى يكشف لهم عن المنافقين المندسين فى صفوفهم لكى يحذروهم .
قال صاحب الكشاف : واللام فى قوله { لَمَن } للابتداء بمنزلتها فى قوله { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } وفى { لَّيُبَطِّئَنَّ } جواب قسم محذوف تقديره : وإن منكم لمن أقسم باللَّه ليبطئن وجوابه صلة من والضمير الراجع منها يعود إلى ما استكن فى { لَّيُبَطِّئَنَّ } . والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } بيان لما انطوت عليه نفوس المنافقين من فساد ، وما نطقت به ألسنتهم من سوء .
أى : وإن من المتظاهرين بأنهم منكم - يا معشر المؤمنين - لمن يتثاقلون عن التقال ويعملون على أن يكون غيرهم مثلهم ، { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ } يا معشر المؤمنين { مُّصِيبَةٌ } كهزيمة وقتية ، أو استشهاد جماعة منكم { قَالَ } هذا المنافق على سبيل الفرح والتشفى { قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ } أى : قد أكرمنى الله بالقعود { إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } أى حاضرا فى المعركة ، لأنى لو كنت حاضرا معهم لأصابنى ما أصابهم من القتل أو الجراح أو الآلام .
فالآية الكريمة تحكى عن المنافقين أنهم يعتبرون قعودهم عن الجهاد نعمة ، وإذا ما أصاب المؤمنين مصيبة عند قتالهم لأعدائهم .
{ وإن منكم لمن ليبطئن } الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين منهم والمنافقين والمبطئون منافقوهم تثاقلوا وتخلفوا عن الجهاد ، من بطأ بمعنى أبطأ وهو لازم أو ثبطوا غيرهم كما ثبط ابن أبي ناسا يوم أحد من بطأ منقولا من بطؤ كثقل من ثقل واللام الأولى للابتداء دخلت اسم إن للفصل بالخبر ، والثانية جواب قسم محذوف والقسم بجوابه صلة من والراجع إليه ما استكن في ليبطئن والتقدير : وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن . { فإن أصابتكم مصيبة } كقتل وهزيمة . { قال } أي المبطئ . { قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } حاضرا فيصيبني ما أصابهم .
وقوله : { وإنَّ مِنكم لمن ليبطّئنّ } أي من جماعتكم وعدادكم ، والخبر الوارد فيهم ظاهر منه أنَّهم ليسوا بمؤمنين في خلوتهم ، لأنّ المؤمن إن أبطأ عن الجهاد لا يقول : « قد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم شهيداً » ، فهؤلاء منافقون ، وقد أخبر الله عنهم بمثل هذا صراحة في آخر هذه السورة بقوله : { بشّر المنافقين بأنّ لهم عذاباً أليماً } إلى قوله : { الذين يتربّصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } [ النساء : 138 141 ] . وعلى كون المراد ب { من ليبطّئنّ } المنافقين حمَل الآية مجاهد ، وقتادة ، وابن جريج . وقيل : أريد بهم ضعفة المؤمنين يتثاقلون عن الخروج إلى أن يتّضح أمر النصر . قال الفخر « وهذا اختيار جماعة من المفسرين » وعلى هذا فمعنى و { منكم } أي من أهل دينكم . وعلى كلا القولين فقد أكّد الخبر بأقوى المؤكّدات لأنّ هذا الخبر من شأنه أن يتلقى بالاستغراب . وبَطَّأ بالتضعيف قاصر ، بمعنى تثاقل في نفسه عن أمر ، وهو الإبطاء عن الخروج إبطاء بداعي النفاق أو الجبْن . والإخبار بذلك يستتبع الإنكار عليه ، والتعريض به ، مع كون الخبر باقياً على حقيقته لأنّ مستتبعات التراكيب لا توصف بالمجاز .
قوله : { فإن أصابتكم مصيبة } تفريع عن { ليَبطّئنّ } ، إذ هذا الإبطاء تارة يجرّ له الابتهاج بالسلامة ، وتارة يجرّ له الحسرة والندامة .
و ( المصيبَة ) اسم لما أصاب الإنسان من شرّ ، والمراد هنا مصيبة الحرب أعني الهزيمة من قتل وأسر .
ومعنى { أنعم الله عليّ } الإنعام بالسلامة : فإن كان من المنافقين فوصف ذلك بالنعمة ظاهر ؛ لأنّ القتل عندهم مصيبة محْضة إذ لا يرجون منه ثواباً ؛ وإن كان من ضعفة المؤمنين فهو قد عَدَّ نعمة البقاء أولى من نعمة فضل الشهادة لشدّة الجبن ، وهذا من تغليب الداعي الجبليّ على الداعي الشرعي .
والشهيد على الوجه الأوّل : إمّا بمعنى الحاضر المشاهد للقتال ، وإمّا تهكّم منه على المؤمنين مثل قوله : { هم الذين يقولون لا تنفقوا على مَنْ عندَ رسول الله } [ المنافقون : 7 ] ؛ وعلى الوجه الثاني الشهيد بمعناه الشرعي وهو القتيل في الجهاد .