اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا} (72)

قوله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } " منكم " خبر مُقَدَّم ل " إنْ " واسمُها ، و " لمَنْ " دخلت اللام على الاسْم تأكِيداً لما فَصَلَ بَيْنَه وبَيْنَهَا بالخَبَر ، و " من " يجوزُ أن تكُونَ مَوْصُولة ، [ أو نكرة مَوْصُوفة ]{[43]} واللاّم في " ليبطئن " {[44]} فيها قَوْلان :

أصحهما : أنها جَوَابُ قَسَم مَحْذُوف ، تقديره أُقْسِمُ بالله لَيُبَطِّئنَّ ، والجُمْلَتَان - أعْنِي : القَسَم وجَوابُه - صِلَة ل " مَنْ " ، أو صِفَةٌ لَهَا على حَسَبِ القَوْلَيْن المُتَقَدِّمَيْن ، والعَائِدُ على كِلاَ التَّقْدِيرَيْن هو الضَّمِير المرفُوع ب " ليبطئن " ، والتَّقْدِير : وإنْ مِنْكُم لِلَّذِي ، أو لَفَرِيقاً واللَّه لَيُبَطِّئَنَّ .

واسْتَدَلَّ بعض النُّحَاة بهذه الآيَةِ على أنَّه يجوز وَصْلُ المَوْصُولِ بجملة القَسَمِ وجوابه [ إذا عَرِيَتْ جُمْلَةُ القَسَم من ضمير عَائِدٍ على الموصول نحو : " جاء الذي أحْلِفُ باللَّهِ لقد قام أبوه " وجعله ] ردَّا على قدماء النحاة ، حيث زَعَمُوا مَنْعَ ذلك [ ولا دلالة على ذلك ]{[45]} ، إذ لقائل أن يقُول : ذلك القَسَم المَحْذُوفُ لا أقَدِّرُهُ إلا مُشْتَمِلاً على ضَمِيرٍ يَعُود على المَوْصُول .

والقول الثاني : نقله ابن عَطِيَّة عن بَعْضِهِم : أنَّها لام التَّأكِيد بَعْدَ تأكيد ، وهذا خطَأٌ من قَائله ، والجُمْهُور على " ليبطئن " بتشديد الطَّاءِ .

ومُجَاهد{[46]} بالتَّخفيف . و [ على ]{[47]} كلتا القِرَاءَتيْن يُحْتَمل أن يكُون الفِعْل لازماً ومُتَعَدِّياً ، يقال : أبْطَأَ وبَطَّأ أي تَكَاسَلَ وتَثَبَّط ، والتَّبْطِئَة : التَّأخُّر عن الأمْرِ ، فهذان لزِمَان ، وإن قُدِّر أنهما مُتَعَدِّيانِ ، فمعُمُولُهُمَا مَحْذُوفٌ ، أي : ليُبَطِّئَنَّ{[48]} غَيْرَه ، أي : يُثَبِّطُه ويُجِبْنُه عن القَتَالِ ، و " إذ لم أكن " ظرف ، نَاصِبُهُ : " أنعم الله " .

فصل في تفسير " منكم "

قوله : " منكم " اختَلَفُوا فيه :

فقيل : المُرادَ منه : المُنافِقُون وهم عبدُ الله بن أبَيٍّ وأصحابه ، كانوا يُثَبِّطُونَ النَّاس عن الجِهَادِ مع رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم{[49]} .

فإن قيل : تَقْدِير الكَلاَمِ يأيُّهَا الَّذِين آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُم وأن مِنْكُم لمن ليُبَطِّئَنَّ ، فإذا كان هَذا المُبَطِّئ{[50]} مُنَافِقاً ، فكيف يُجْعَلُ قِسْماً من المُؤمِن في قوله " إن منكم " .

فالجواب : أنه جعل المُنافقين من المُؤمنين من حَيْثُ الجِنْسِ والنَّسَبِ والاخْتِلاَطِ ، أو من حيث الظَّاهِر ؛ لتشبههم بالمُؤمنين ، أو من حَيث زعمهم ودَعْواهُم ، كقوله : { يأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ } [ الحجر : 6 ] .

وقيل : المراد ضَعَفَهُ المؤمنين ، وهو اخْتِيَار جَمَاعَةٍ من المُفَسِّرين{[51]} ، قالُوا : والتَّبْطِئَةُ بمعنى الإبْطَاء ، وفَائِدة هذا التِّشْديد تَكَرُّر الفِعْلِ مِنْهُ .

حكى أهْل اللُّغَة أن العَرَبَ تَقُول : ما بَطأ بك يا فُلانُ عَنَّا ، وإدْخَالهم البَاء يَدُلُّ على أنَّه في نَفْسِهِ غير مُتَعَدٍّ{[52]} ، فَعَلَى هذا مَعْنَى الآية : أن فيهم من يُبطئُ عن هذا الفَرْضِ ويتثاقل عن الجِهَادِ ، وإذا ظَفِر المسْلِمُون ، تَمنَّوْا أن يكُونُوا مَعَهُم ليَأخُذُوا الغَنِيمَة .

قال : هؤلاء هُمُ الَّذِين أرادَ اللَّه بقوله : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ } [ التوبة : 38 ] ، قال : ويَدُلُّ على أنَّ المُرَاد بقوله : " ليبطئن " {[53]} الإبْطَاء منهم لا تَثْبِيطَ غَيْرهم قوله : { يا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ } عند الغنِيمة ، ولو كان المُرادُ : تَثْبِيطَ الغَيْرِ ، لم يَكُن لِهَذا الكَلاَمِ مَعْنًى .

وطعن القَاضِي في هذا القَوْلِ : بأنه - تعالى - حَكَى أن هؤلاَء المُبَطِّئِين ، يقولون عن مصيبة المؤمنين : { قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } فيعدّ قُعُوده على القِتَالِ نِعْمة من اللَّه - تعالى - ، وهذا إنما يَلِيقُ بالمُنَافِقين ، وأيضاً لا يَليق بالمُؤمنين أن يُقال لهم : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ } ، يعني الرَّسُول " مودة " {[54]} ، ثم قال : وإن حُمِلَ " ليبطئن " على أنه من الإبْطَاءِ والتَّثَاقُل ، صح في المُنَافِقِين ، لأنهم كانوا يَثَاقَلُون .

قوله : { فإن أصابتكم [ مصيبة ] } {[55]} أي : قَتْل وهَزيمَة " قال قد أنعم الله علي " بالقعود ، و { إذ لم أكن معهم شهيداً } ، أي : شَاهِداً حاضراً في تلك الغَزْوَةِ ، فيُصِيبُنَي ما أصابَهُم ، و " إذا لم أكن " طرف نَاصِبُه : " أنعم الله " .


[43]:سقط في ب.
[44]:سقط في أ.
[45]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/151- 152) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/4) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير وذكره أبو حيان في "البحر المحيط (2/389) وانظر "التفسير الكبير" للفخر الرازي (7/154).
[46]:- البيت لابن خلكان القناني: ينظر إصلاح المنطق: ص 134، والمقاصد النحوية: 1/154، ولسان العرب: (سما)، وشرح المفصل: 1/42، وأوضح المسالك:1/34، والإنصاف: ص15، وأسرار العربية: ص9، والمغني: 1/154.
[47]:-البيت للأحوص ينظر: ديوانه: 193، القرطبي: 1/71، والدر المصون: 1/55..
[48]:-في أ: أنها ثبتت
[49]:- ينظر الفخر الرازي: 1/93.
[50]:-الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي، اليحمدي، أبو عبد الرحمن: ولد سنة 100هـ في البصرة، من أئمة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، وهو أستاذ سيبويه النحوي، عاش فقيرا صابرا. قال النضر بن شميل: ما رأى الراءون مثل الخليل، ولا رأى الخليل مثل نفسه، فكر في ابتكار طريقة في الحساب تسهله على العامة؛ فدخل المسجد وهو يعمل فكره؛ فصدمته سارية وهو غافل فكانت سبب موته سنة 170هـ بالبصرة. من كتبه: "العين" و "معاني الحروف" و"العروض" و"النغم". ينظر: وفيات الأعيان: 1/172، وإنباه الرواة1/341، ونزهة الجليس: 1/18، والأعلام: 2/314.
[51]:- في أ: فلو أنك.
[52]:- في أ: ولو.
[53]:- سقط في أ.
[54]:- علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء، الكوفي، أبو الحسن الكسائي: إمام في اللغة والنحو والقراءة، من تصانيفه: "معاني القرآن"، و"المصادر"، و"الحروف"، و"القراءات"، و"النوادر"، و"المتشابه في القرآن" و"ما يلحن فيه العوام". توفي بـ"الري" في العراق سنة 189 هـ انظر: ابن خلكان: 1/330، وتاريخ بغداد: 11/403، والأعلام: 4/283.
[55]:-عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي، أبو حفص الحافظ: أمير المؤمنين، عن أنس، وعبد الله بن جعفر، وابن المسيب، وعنه أيوب، وحميد، والزهري، وخلق. قال ميمون بن مهران: ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذة، ولي في سنة تسع وتسعين، ومات سنة إحدى ومائة. قال هشام بن حسان: لما جاء نعي عمر قال الحسن البصري. مات خير الناس. فضائله كثيرة –رضي الله عنه-. ينظر ترجمته في تهذيب الكمال: 2/1016، وتهذيب التهذيب: 7/475 (790)، وتقريب التهذيب: 2/59، 60، وخلاصة تهذيب الكمال: 2/274، والكاشف: 2/317، وتاريخ البخاري الكبير: 6/274، والجرح والتعديل: 1/663، والثقات: 5/151، وطبقات الحفاظ: 46، والحلية: 5/254، وتراجم الأحبار: 2/536، والبداية: 9/192، وطبقات ابن سعد 5/330، 9/142.