البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا} (72)

البطء التثبط عن الشيء .

يقال : أبطأ وبطؤ مثل أسرع وسرع مقابله ، وبطآن اسم فعل بمعنى بطؤ .

{ وإن منكم لمن ليبطئنّ } الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جريج وابن زيد في آخرين : لمن ليبطئن هم المنافقون ، وجعلوا من المؤمنين باعتبار الجنس ، أو النسب ، أو الانتماء إلى الإيمان ظاهراً .

وقال الكلبي : نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه .

وقيل : هم ضعفة المؤمنين .

ويبعد هذا القول قوله : عند مصيبة المؤمنين { قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً } وقوله : { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } ومثل هذا لا يصدر عن مؤمن ، إنما يصدر عن منافق .

واللام في ليبطئن لام قسم محذوف التقدير : للذي والله ليبطئن .

والجملتان من القسم وجوابه صلة لمن ، والعائد الضمير المستكن في ليبطئن .

قالوا : وفي هذه الآية رد على من زعم من قدماء النحاة أنه لا يجوز وصل الموصول بالقسم وجوابه إذا كانت جملة القسم قد عريت من ضمير ، فلا يجوز جاءني الذي أقسم بالله لقد قام أبوه ، ولا حجة فيها لأنّ جملة القسم محذوفة ، فاحتمل أن يكون فيها ضمير يعود على الموصول ، واحتمل أنْ لا يكون .

وما كان يحتمل وجهين لا حجة فيه على تعيين أحدهما ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم } في قراءة من نصب كلا وخفف ميم لما أي : وأن كلا للذي ليوفينهم على أحسن التخاريج .

وقال ابن عطية : اللام في ليبطئن لام قسم عند الجمهور .

وقيل : هي لام تأكيد بعد تأكيد انتهى .

وهذا القول الثاني خطأ .

وقرأ الجمهور : ليبطئن ، بالتشديد .

وقرأ مجاهد : ليبطئن بالتخفيف .

والقراءتان يحتمل أن يكون الفعل فيهما لازماً ، لأنهم يقولون : أبطأ وبطأ في معنى بطؤ ، ويحتمل أن يكون متعدياً بالهمزة أو التضعيف من بطؤ ، فعل اللزوم المعنى أنه يتثاقل ويثبط عن الخروج للجهاد ، وعلى التعدّي يكون قد ثبط غيره وأشار له بالقعود ، وعلى التعدي أكثر المفسرين .

{ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّّ إذ لم أكن معهم شهيداً } المصيبة : الهزيمة .

سميت بذلك لما يلحق الإنسان من العتب بتولية الإدبار وعدم الثبات .

ومن العرب من يختار الموت على الهزيمة وقد قال الشاعر :

إن كنت صادقة كما حدثتني *** فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل عنهم *** ونجا برأس طمره ولجام

عيره بالانهزام وبالفرار عن الأحبة .

وقال آخر في المدح على الثبات في الحرب والقتل فيه :

وقد كان فوت الموت سهلاً فرده *** إليه الحفاظ المرء والخلق الوعر

فأثبت في مستنقع الموت رجله *** وقال لها من تحت أخمصك الحشر

وقيل : المصيبة القتل في سبيل الله ، سموا ذلك مصيبة على اعتقادهم الفاسد ، أو على أن الموت كله مصيبة كما سماه الله تعالى .

وقيل : المصيبة الهزيمة والقتل .

والشهيد هنا الحاضر معهم في معترك الحرب ، أو المقتول في سبيل الله ، يقوله المنافق استهزاء ، لأنه لا يعتقد حقيقة المشهادة في سبيل الله .