معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ قُلُوبُكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (225)

قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } . اللغو كل مطرح من الكلام لا يعتد به ، واختلف أهل العلم في اللغو في اليمين المذكورة في الآية فقال قوم : هو ما يسبق إلى اللسان على عجلة لصلة الكلام ، من غير عقد وقصد ، كقول القائل : لا والله وبلى والله وكلا والله . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع أنا الشافعي أنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت : لغو اليمين قول الإنسان ، لا والله وبلى والله ، ورفعه بعضهم وإلى هذا ذهب الشعبي وعكرمة وبه قال الشافعي .

ويروى عن عائشة : أيمان اللغو ما كانت في الهزل والمراء والخصومة ، والحديث الذي لا يعقد عليه القلب ، وقال قوم : هو أن يحلف على شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك ، وهو قول الحسن ، والزهري وإبراهيم النخعي وقتادة ومكحول ، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه ، وقالوا : لا كفارة فيه ولا إثم ، وقال علي : هو اليمين على الغضب ، وبه قال طاووس وقال سعيد بن جبير : هو اليمين في المعصية لا يؤاخذه الله بالحنث فيها ، بل يحنث ويكفر . وقال مسروق : ليس عليه كفارة ، أيكفر خطوات الشيطان ؟ وقال الشعبي في الرجل يحلف على المعصية ، كفارته أن يتوب منها ، وكل يمين لا يحل لك أن تفي بها فليس فيها كفارة ولو أمرته بالكفارة لأمرته أن يتم ويستمر على قوله . وقال زيد بن أسلم : هو دعاء الرجل على نفسه تقول لإنسان أعمى الله بصري أن أفعل كذا ، فهذا كله لغو لا يؤاخذه الله به ولو آخذهم به لعجل لهم العقوبة ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ) ، وقال ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير ) .

قوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } . أي عزمتم وقصدتم إلى اليمين ، وكسب القلب العقد والنية .

قوله تعالى : { والله غفور رحيم } . واعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بالله أو باسم من أسمائه ، أو بصفة من صفاته : فاليمين بالله أن يقول : والذي أعبده ، والذي أصلي له ، والذي نفسي بيده ، ونحو ذلك ، واليمين بأسمائه كقوله : والله والرحمن ونحوه ، واليمين بصفاته كقوله : وعزة الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله ونحوها ، فإذا حلف بشيء منها على أمر في المستقبل فحنث يجب عليه الكفارة ، وإذا حلف على أمر ماض أنه كان ولم يكن ، أو على أنه لم يكن وقد كان ، إن كان عالماً به حالة ما حلف فهو اليمين الغموس ، وهو من الكبائر ، ويجب فيه الكفارة عند بعض أهل العلم ، عالماً كان أو جاهلاً ، وبه قال الشافعي ، ولا تجب عند بعضهم وهو قول أصحاب الرأي وقالوا إن كان عالماً فهو كبيرة ولا كفارة لها كما في سائر الكبائر ، وإن كان جاهلاً فهو يمين اللغو عندهم ، ومن حلف بغير الله مثلا ، مثل أن قال : والكعبة وبيت الله ونبي الله ، أو حلف بابيه ونحو ذلك ، فلا يكون يميناً ، فلا يجب عليه الكفارة إذا حلف ، وهي يمين مكروهة ، قال الشافعي : وأخشى أن يكون معصية .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ قُلُوبُكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (225)

ثم قال تعالى : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

أي : لا يؤاخذكم بما يجري على ألسنتكم من الأيمان اللاغية ، التي يتكلم بها العبد ، من غير قصد منه ولا كسب قلب ، ولكنها جرت على لسانه كقول الرجل في عرض كلامه : " لا والله " و " بلى والله " وكحلفه على أمر ماض ، يظن صدق نفسه ، وإنما المؤاخذة على ما قصده القلب .

وفي هذا دليل على اعتبار المقاصد في الأقوال ، كما هي معتبرة في الأفعال .

{ والله غفور } لمن تاب إليه ، { حليم } بمن عصاه ، حيث لم يعاجله بالعقوبة ، بل حلم عنه وستر ، وصفح مع قدرته عليه ، وكونه بين يديه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ قُلُوبُكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (225)

وقوله - تعالى - : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } استئناف بياني ، لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عن التسرع في الحلف ، أو عن اتخاذ الأيمان حاجزاً عن عمل الخير ، كانت نفوس السامعين مشوقة إلى حكم اليمين التي تجري على الألسنة بدون قصد .

والمؤاخذة : مفاعلة من الأخذ بمعنى المحاسبة أو المعاقبة أو الإِلزام بالوفاء بها .

واللغو من الكلام : الساقط الذي لا يعتد به ولا يصدر عن فكر وروية مصدر لغا يلغو ويلغى .

والمعنى : لا يعاقبكم الله - تعالى - ولا يلزمكم بكفارة ما صدر عنكم من الإِيمان اللاغية فضلا منه - سبحانه - كرماً .

واليمين اللغو هو التي لا يقصدها الحالف ، بل تجري على لسانه عادة من غير قصد ، وقد ذكر العلماء صوراً لها منها - كما يقول ابن كثير :

ما رواه عطاء عن عائشة أنها قالت : " اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته كلا والله بلى والله " وفي رواية عن الزهري عن عروة عنها أنها قالت : " اللغو في اليمين هو ما يكون بين القوم يتدارءون في الأمر - أي يتناقشون ويتذاركون فيه - فيقول هذا لا والله وبلى والله وكلا والله لا تعقد عليه قلوبهم " أي تجري على ألسنتهم ألفاظ اليمين ولكن بدون قصد يمين : -

ومنها ما جاء عن عروة عنها أنها كانت تتأول هذه الآية يعني قوله - تعالى - : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } وتقول : هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه " .

ثم بين - سبحانه - اليمين التي هي موضع المحاسبة والمعاقبة فقال : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } .

أي : لا يؤاخذكم الله في اليمين التي لم تصدر عن روية ولكن يؤاخذكم أي يعاقبكم في الآخرة بما قصدته قلوبكم وتعمدتم فيه الكذب في اليمين ، بأن يحلف أحدكم على شيء كذب ليعتقد السامع صدقه ، وتلك هي اليمين الغموس - أي التي تغمس صاحبها في النار - ويدخل فيها الإِيمان التي يحلفها شهود الزور والكاذبون عند التقاضي ومن يشابههم في تعمد الكذب .

ويرى جمهور العلماء أن هذه اليمين لا كفارة فيها وإنما كفارتها التوبة الصادقة ورد الحقوق إلى أصحابها إن ترتب على اليمين الكاذبة ضياع حق أو حكم بباطل .

ويرى الإِمام الشافعي أنه يجب فيها فوق ذلك الكفارة .

والباء في قوله : { بِمَا } للسببية ، وما مصدرية أي ، لا يؤاخذكم باللغو ولكن يؤاخذكم بالكسب ، أو موصولة والعائد محذوف أي ولكن يؤاخذكم بالذي كسبته قلوبكم .

وقوله : { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } تذييل لتأكيد معنى عدم المؤاخذة في اللغو . أي والله غفور حيث لم يؤاخذكم باللغو حليم حيث لم يعاجل المخطئين بالعقوبة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ قُلُوبُكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (225)

{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام غيره ، ولغو اليمين مالا عقد معه كما سبق به اللسان ، أو تكلم به جاهلا لمعناه كقول العرب : لا والله وبلى والله ، لمجرد التأكيد لقوله : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } والمعنى لا يؤاخذكم الله بعقوبة ولا كفارة بما لا قصد معه ، ولكن يؤاخذكم بهما أو بأحدهما بما قصدتم من الإيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم . وقال أبو حنيفة : اللغو أن يحلف الرجل بناء على ظنه الكاذب ، والمعنى لا يعاقبكم بما أخطأتم فيه من الأيمان ، ولكن يعاقبكم بما تعمدتم الكذب فيه . { والله غفور } حيث لم يؤاخذ باللغو { حليم } حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد تربصا للتوبة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ قُلُوبُكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (225)

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 225 )

{ اللغو } سقط الكلام الذي لا حكم له ، ويستعمل في الهجر والرفث وما لا حكم له من الإيمان ، تشبيهاً بالسقط من القول ، يقال منه لغا يلغو لغواً ولغى يلغي لغياً ، ولغة القرآن بالواو( {[2137]} ) ، والمؤاخذة هي التناول بالعقوبة ، واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو( {[2138]} ) ، فقال ابن عباس وعائشة وعامر الشعبي وأبو صالح ومجاهد : لغو اليمين قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة : لا والله ، وبلى والله ، دون قصد لليمين( {[2139]} ) ، وروي أن قوماً تراجعوا القول بينهم وهم يرمون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فحلف أحدهم : لقد أصبت وأخطأت يا فلان ، فإذا الأمر بخلافه ، فقال رجل : حنث يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أيمان الرماة لغو لا إثم فيها ولا كفارة »( {[2140]} ) ، وقال أبو هريرة وابن عباس أيضاً والحسن ومالك بن أنس وجماعة من العلماء : لغو اليمين ما حلف به الرجل على يقينه فكشف الغيب خلاف ذلك .

قال القاضي أبو محمد : وهذا اليقين هو غلبة ظن أطلق الفقهاء عليه لفظة اليقين تجوزاً ، قال مالك : «مثله أن يرى الرجل على بعد فيعتقد أنه فلان لا يشك ، فيحلف ، ثم يجيء غير المحلوف عليه » ، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبد الله وعروة ابنا الزبير : لغو اليمين الحلف في المعاصي كالذي يحلف ليشربن الخمر أو ليقطعن الحرم ، فبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه ، وقال سعيد بن جبير مثله ، إلا أنه قال : يكفر ، فأشبه قوله بالكفارة قول من لا يراها لغواً ، وقال ابن عباس أيضاً وطاوس : لغو اليمين الحلف في حال الغضب ، وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا يمين في غضب »( {[2141]} ) ، وقال مكحول الدمشقي وجماعة من العلماء : لغو اليمين أن يحرم الرجل على نفسه ما أحل الله فيقول مالي عليّ حرام إن فعلت كذا ، أو الحلال عليَّ حرام ، وقال بهذا القول مالك بن أنس إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه( {[2142]} ) ، وقال زيد بن أسلم وابنه : لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه أعمى الله بصره ، أذهب الله ماله ، هو يهودي ، هو مشرك ، هو لغِيَة( {[2143]} ) إن فعل كذا ، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك : لغو اليمين هو المكفرة( {[2144]} ) ، أي إذا كفرت اليمين فحينئذ سقطت وصارت لغواً ، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير ، وقال إبراهيم النخعي : «لغو اليمين ما حنث فيه الرجل ناسياً »( {[2145]} ) ، وحكى ابن عبد البر قولاً إن اللغو أيمان المكره .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وطريقة النظر أن يتأمل لفظة اللغو ولفظة الكسب ، ويحكم موقعهما في اللغة ، فكسب المرء ما قصده ونواه ، واللغو ما لم يتعمده أو ما حقه لهجنته أن يسقط ، فيقوى على هذه الطريقة بعض الأقوال المتقدمة ويضعف بعضها ، وقد رفع الله عز وجل المؤاخذاة بالإطلاق في اللغو ، فحقيقته ما لا إثم فيه ولا كفارة ، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة ، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة ، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة ، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة ، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها ، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم .

وقوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } قال ابن عباس والنخعي وغيرهما : ما كسب القلب هي اليمين الكاذبة الغموس ، فهذه فيها المؤاخذة في الآخرة ، والكفارة إنما هي فيما يكون لغواً إذا كفر ، وقال مالك وجماعة من العلماء : الغموس لا تكفر ، هي أعظم ذنباً من ذلك ، وقال الشافعي وقتادة وعطاء والربيع : اليمين الغموس تكفر ، والكفارة مؤاخذة ، والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب ، وكذلك اليمين المصبورة : المعنى فيهما واحد ، ولكن الغموس سميت بذلك لأنها غمست صاحبها في الإثم ، المصبورة سميت بذلك لأنها صبرها مغالبة وقوة عليها ، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي( {[2146]} ) ، وقال زيد بن أسلم : قوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } هو في الرجل يقول هو مشرك إن فعل ، أي هذا لغو إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويكسبه ، و { غفور حليم } صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة ، إذ هو باب رفق وتوسعة .


[2137]:- يعني أن هذه المادة جاءت في القرآن بالواو.
[2138]:- ذكر في تفسير يمين اللغو أقوالا عشرة.
[2139]:- يعني أن اللغو في اليمين هو ما يجري في الكلام على غير عقد، وقد أسند البخاري هذا عن عائشة رضي الله عنها، وقولها معقول ومقبول، لأنها قد شهدت التنزيل. ويقال اللغو أن تحلف على الشيء ترى أنه كذلك وليس كذلك، وهذا مذهب الإمام مالك، والحق أن كل ما لا قصد فيه ولا كسب للقلب فهو من لغو اليمين بأيِّ صورة كانت، وأي حالة وقعت، واليمين إما لغو لا حكم لها، وإما غموس، وهي اليمين الكاذبة التي تغمس صاحبها في النار، وإما منعقدة على البر أو الحنث.
[2140]:- رواه الطبراني في المعجم الصغير قال: حدثنا يوسف بن يعقوب بن عبد العزيز الثقفي قال: حدثني أبي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يرمون وهم يحلفون: أخطأت والله، أصبت والله، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسكوا. فقال: فذكره، قال الدارقطني: تفرد به يوسف بن يعقوب عن أبيه.
[2141]:- رواه الدارقطني في سننه، وفي القرطبي أن مسلما خرجه في صحيحه إلا أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف غاضبا ألا يحمل الأشعريين ثم حملهم وكفر عن يمينه. وقد نص المالكية أن يمين الغضب لازمة اتفاقا.
[2142]:- قال الشيخ خليل في مختصره: وتحريم الحلال في غير الزوجة لغو.
[2143]:- لغِيَة بكسر الغين وفتحها أي ولد زنية لا ولد رشدة، وولد الزنا شرّ الثلاثة كما في الحديث.
[2144]:- يمين اللغو لا مؤاخذة فيها إطلاقا. واليمين المكفَّرة فيها المؤاخذة بالكفارة، ويأتي لابن عطية رحمه الله تضعيف هذا القول من هذه الناحية.
[2145]:- قال الإمام ابن العربي: أما اليمين مع النسيان فلا شك في إلغائها لأنها جاءت على خلاف القصد فهي لغو محض ا هـ. ويشبهها في المعنى يمين الإكراه.
[2146]:- اليمين الغموس واليمين المصبورة عبارة عن يمين كاذبة، إلا أن اليمين المصبورة حُمل عليها قهراً من الحاكم الشرعي، وحُبس من أجلها لأنها توجهت عليه بمقتضى الشرع فحلفها وهو كاذب. وفي الحديث – كما رواه أبو داود - : (من حلف على يمين مصبورة كاذبا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ قُلُوبُكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (225)

استئناف بياني لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عن التسرع بالحلف إفادة صريحة أو التزامية ، كانت نفوس السامعين بحيث يهجس بها التفكر والتطلع إلى حكم اليمين التي تجري على الألسن . ومناسبته لما قبله ظاهرة لا سيما إن جعلتَ قوله : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } [ البقرة : 224 ] نهياً عن الحلف .

والمؤاخذة مفاعلة من الأَخذ بمعنى العد والمحاسبة ، يقال أخذه بكذا أي عده عليه ليعاتبه أو يعاقبه ، قال كعب بن زهير :

لا تأخُذَنِّي بأَقْوال الوْشاةِ ولم *** أُذْنِبْ وإِنْ كَثُرَتْ فيَّ الأَقَاوِيل

فالمفاعلة هنا للمبالغة في الأخذ ؛ إذ ليس فيه حصول الفعل من الجانبين . والمؤاخذة باليمين هي الإلزام بالوفاء بها وعدم الحنث ؛ ويترتب على ذلك أن يأثم إذا وقع الحنث ، إلاّ ما أذن الله في كفّارته ، كما في آية سورة العقود .

واللغو مصدر لغا إذا قال كلاماً خَطَئاً ، يقال : لغا يلغُو لغواً كسعا ، ولغا يلغْى لَغْياً كسَعى . ولغة القرآن بالواو . وفي « اللسان » : « أنه لا نظير له إلاّ قولهم أسوته أسواً وأَسى أصلحتُه » وفي الكواشي : « ولغا يلغو لغواً قال باطلاً » ، ويطلق اللغو أيضاً على الكلام الساقط ، الذي لا يعتد به ، وهو الخطأ ، وهو إطلاق شائع . وقد اقتصر عليه الزمخشري في « الأساس » ولم يجعله مجازاً ؛ واقتصر على التفسير به في « الكشاف » وتبعه متابعوه .

و ( في ) للظرفية المجازية المراد بها الملابسة ، وهي ظرف مستقر ، صفة اللغو أو حال منه ، وكذلك قدره الكواشي فيكون المعنى على جعل اللغو بمعنى المصدر ، وهو الأظهر : لا يؤاخذكم الله بأن تلغوا لغواً ملابساً للأيمان ، أي لا يؤاخذكم بالأيمان الصادرة صدور اللغو ، أي غير المقصود من القول . فإذا جعلتَ اللغو اسماً بمعنى الكلام الساقط الخاطىء ، لم تصح ظرفيته في الأيمان ، لأنه من الأيمان ، فالظرفية متعلقة بيؤاخذكم ، والمعنى لا يؤاخذكم الله في أيمانكم باللغو ، أي لا يؤاخذكم من بين أيمانكم باليمين اللغو .

والأيمان جمع يمين ، واليمين القسم والحلف ، وهو ذكر اسم الله تعالى ، أو بعض صفاته ، أو بعض شؤونه العليا أو شعائره . فقد كانت العرب تحلف بالله ، وبرب الكعبة ، وبالهدي ، وبمناسك الحج . والقسم عندهم بحرف من حروف القسم الثلاثة : الواو والباء والتاء ، وربما ذكروا لفظ حلفت أو أقسمت ، وربما حلفوا بدماء البدن ، وربما قالوا والدماءِ ، وقد يدخلون لاماً على عَمْر الله ، يقال : لَعَمْرُ الله ، ويقولون : عمرَك الله ، ولم أر أنهم كانوا يحلفون بأسماء الأصنام . فهذا الحلف الذي يراد به التزام فعل ، أو براءة من حق . وقد يحلفون بأشياء عزيزة عندهم لقصد تأكيد الخبر أو الالتزام ، كقولهم وأبيك ولَعَمْرك ولعمري ، ويحلفون بآبائهم ، ولما جاء الإسلام نهى عن الحلف بغير الله . ومن عادة العرب في القسم أن بعض القسم يقسمون به على التزام فعل يفعله المقسِم ليُلجىء نفسه إلى عمله ولا يندم عنه ، وهو من قبيل قسم النذر ، فإذا أراد أحد أن يظهر عزمه على فعل لا محالة منه ، ولا مطمع لأحد في صرفه عنه ، أكده بالقسم ، قال بلعاء بن قيس :

وفارسٍ في غِمار المَوْت منغَمِس *** إذَا تَأَلَّى على مَكْروهَةٍ صَدَقَا

( أي إذا حلف على أن يقاتل أو يقتل أو نحو ذلك من المصاعب والأضرار ومنه سميت الحرب كريهة ) فصار نطقهم باليمين مؤذناً بالغرم ، وكثر ذلك في ألسنتهم في أغراض التأْكيد ونحوه ، حتى صار يجري ذلك على اللسان كما تجري الكلمات الدالة على المعاني من غير إرادة الحلف ، وصارت كثرته في الكلام لا تنحصر ، فكثر التحرج من ذلك في الإسلام قال كثيِّر :

قليل الألايى حافظ ليمينه *** وإن سبقت منه الأليَّة بَرَّتِ

فأشبهه جريانُ الحلف على اللسان اللغوَ من الكلام .

وقد اختلف العلماء في المراد من لغو اليمين في هذه الآية ، فذهب الجمهور إلى أن اللغو هو اليمين التي تجري على اللسان ، لم يقصد المتكلم بها الحلف ، ولكنها جرت مجرى التأكيد أو التنبيه ، كقول العرب : لا والله ، وبلى والله . وقول القائل : والله لقد سمعت من فلان كلاماً عجباً ، وغير هذا ليس بلغو ، وهذا قول عائشة ، رواه عنها في « الموطأ » و« الصِّحاح » ، وإليه ذهب الشعبي ، وأبو قِلابة ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبو صالح ، وأخذ به الشافعي ، والحجة له أن الله قد جعل اللغو قسيماً للتي كسبها القلب في هذه الآية ، وللتي عقد عليها الحالف اليمين في قوله : { ولكن يؤاخذكم بما } [ المائدة : 89 ] فما عقدتم الأيمان هو ما كسبته القلوب ؛ لأن ما كسبت قلوبكم مبيِّن ، فيحمل عليه مجمل { ما عقدتم } ، فتعين أن تكون اللغو هي التي لا قصد فيها إلى الحلف ، وهي التي تجري على اللسان دون قصد ، وعليه فمعنى نفي المؤاخذة نفي المؤاخذة بالإثم وبالكفارة ؛ لأن نفي الفعل يعم ، فاليمين التي لا قصد فيها لا إثم ولا كفارة عليها ، وغيرها تلزم فيه الكفارة للخروج من الإثم بدليل آية المائدة ؛ إذ فسر المؤاخذة فيها بقوله : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } [ المائدة : 89 ] فيكون في الغموس ، وفي يمين التعليق ، وفي اليمين على الظن ، ثم يتبين خلافه ، الكفارة في جميع ذلك .

وقال مالك : « لغو اليمين أن يحلف على شيء يظنه كذلك ثم يتبيّن خلاف ظنه » قال في « الموطأ » : « وهذا أحسن ما سمعت إلى في ذلك » وهو مروي في غير « الموطأ » ، عن أبي هريرة ومن قال به الحسن وإبراهيم وقتادة والسدي ومكحول وابن أبي نجيح . ووجهه من الآية : أن الله تعالى جعل المؤاخذة على كسب القلب في اليمين ، ولا تكون المؤاخذة إلاّ على الحنث لا أصل القسم ؛ إذ لا مؤاخذة لأجل مجرد الحلف لا سيما مع البر ، فتعين أن يكون المراد من كسب القلب كسبه الحنث أي تعمده الحنث ، فهو الذي فيه المؤاخذة ، والمؤاخذة أجملت في هاته الآية ، وبينت في آية المائدة بالكفارة ، فالحالف على ظن يظهر بعد خلافه لا تعمد عنده للحنث ، فهو اللغو ، فلا مؤاخذة فيه ، أي لا كفارة وأما قول الرجل : لا والله وبلى والله ، وهو كاذب ، فهو عند مالك قسم ليس بلغو ، لأن اللغوية تتعلق بالحنث بعد اعتقاد الصدق ، والقائل : « لا والله » كاذباً ، لم يتبين حنثه له بعد اليمين ، بل هو غافل عن كونه حالفاً ، فإذا انتبه للحلف وجبت عليه الكفارة ، لأنه حلفها حين حلفها وهو حانث .

وإنما جعلنا تفسير ( ما كسبت قلوبكم ) كسب القلب للحنث ، لأن مساق الآية في الحنث لأن قوله : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } [ البقرة : 224 ] ، إما إذن في الحنث ، أو نهي عن الحلف خشية الحنث ، على الوجهين الماضيين ، وقوله : { لا يؤاخذكم الله } بيان وتعليل لذلك ، وحكم البيان حكم المبين ، لأنه عينه .

وقال جماعة : اللغو ما لم يقصد به الكذب ، فتشمل القسمين ، سواء كان بلا قصد كالتي تجري على الألسن في لا والله وبلى والله كان بقصد مع اعتقاد الصدق فتبين خلافه . وممن قال بهذا ابن عباس والشعبي وقال به أبو حنيفة ، فقال : اللغو لا كفارة فيها ولا إثم . واحتج لذلك بأن الله تعالى جعل اللغو هنا ، مقابلاً لما كسبته القلوب ، ونفى المؤاخذة عن اللغو وأثبتها لما كسبه القلب ، والمؤاخذة لا محالة على الحنث لا على أصل الحلف ، فاللغو هي التي لا حنث فيها ؛ ولم ير بين آية البقرة وآية المائدة تعارضاً حتى يحمل إحداهما على الأخرى بل قال : إن آية البقرة جعلت اللغو مقابلاً لما كسبه القلب ، وأثبت المؤاخذة لما كسبه القلب أي عزمت عليه النفس ، والمؤاخذة مطلقة تنصرف إلى أكمل أفرادها ، وهي العقوبة الأخروية فيتعين أنه ما كسبته القلوب ، أريد به الغموس ؛ وجعل في آية المائدة اللغو مقابلاً للأيمان المعقودة .

والعقد في الأصل : الربط ، وهو معناه لغة ، وقد أضافه إلى الأيمان ، فدل على أنها اليمين التي فيها تعليق ، وقد فسر المؤاخذة فيها بقوله : { فكفارته إطعام } [ المائدة : 89 ] الخ ، فظهر من الآيتين أن اللغو ما قابل الغموس ، والمنعقدة ، وهو نوعان لا محالة ، وظهر حكم الغموس ، وهي الحلف بتعمد الكذب ، فهو الإثم ، وحكم المنعقدة أنه الكفارة ، فوافق مالكاً في الغموس وخالفه في أحد نوعي اللغو ، وهذا تحقيق مذهبه . وفي اللغو غير هذه المذاهب مذاهب أنهاها ابن عطية إلى عشرة ، لا نطيل بها .

وقوله : { والله غفور حليم } تذييل لحكم نفي المؤاخذة ، ومناسبة اقتران وصف الغفور بالحليم هنا دون الرحيم ، لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى ، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم ، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه ، ولا يغضب للغفلة ، ويقبل المعذرة .