قوله تعالى : { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه } ، قيل : أراد به في النوم ، يقول لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما ، { إلا نبأتكما بتأويله } ، في اليقظة . وقيل : أراد به في اليقظة ، يقول : لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه ، تطعمانه وتأكلانه ، إلا نبأتكما بتأويله بقدره ، وأوانه والوقت الذي يصل فيه إليكما . { قبل أن يأتيكما } ، قبل أن يصل إليكما ، وأي طعام أكلتم ؟ وكم أكلتم ؟ ومتى أكلتم ؟ فهذا مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال : { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [ آل عمران – 49 ] فقالا : هذا فعل العرافين والكهنة ، فمن أين لك هذا العلم ؟ فقال : ما أنا بكاهن وإنما { ذلكما } ، العلم ، { مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } ، وتكرار { هم } على التأكيد .
ف { قَالَ } لهما مجيبا لطلبتهما : { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } أي : فلتطمئن قلوبكما ، فإني سأبادر إلى تعبير رؤياكما ، فلا يأتيكما غداؤكما ، أو عشاؤكما ، أول ما يجيء إليكما ، إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما .
ولعل يوسف عليه الصلاة والسلام قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما إليه ، ليكون أنجع لدعوته ، وأقبل لهما .
ثم قال : { ذَلِكُمَا } التعبير الذي سأعبره لكما { مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي } أي : هذا من علم الله علمنيه وأحسن إليَّ به ، وذلك { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } والترك كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه ، يكون لمن لم يدخل فيه أصلًا .
وهذا ما كان من يوسف - عليه السلام - فقد بدأ في رده عليهما بقوله : { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا . . } .
أى : قال يوسف لرفيقيه في السجن اللذين سألاه أن يفسر لهما رؤياهما : " لاَ يَأْتِيكُمَا " أيها الرفيقان { طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } في سجنكما ، في حال من الأحوال ، إلا وأخبرتكما بما هيته وكيفيته وسائر أحواله قبل أن يصل إليكما .
وإنما قال لهما ذلك ليبرهن على صدقه فيما يقول ، فيستجيبا لدعوته لهما إلى وحدانية الله بعد ذلك .
وقوله { ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي } نفى لما قد يتبادر إلى ذهنهما من أن علمه مأخوذ عن الكهانة أو التنجيم أو غير ذلك مما لا يقره الدين .
أى : ذلك التفسير الصحيح للرؤيا ، والأخبار عن المغيبات ، كأخباركما عن أحوال طعامكما قبل أن يصل إليكما . .
ذلك كله إنما هو العلم الذي علمنى إياه ربى وخالقى ومالك أمرى ، وليس عن طريق الكهانة أو التنجيم كما يفعل غيرى .
وقوله : { مِمَّا عَلَّمَنِي ربي } فيه إشعار بأن ما أخبرهما به من مغيبات هو جزء من علوم كثيرة علمها إياه ربه - عز وجل - فضلا منه - سبحانه - وكرما .
ثم أضاف إلى ذلك قوله : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ } أى دين قوم { لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله } أى لا يدينون بالعبودية لله - تعالى - وحده الذي خلقهم ورزقهم ، وإنما يدينون بالعبودية لآلهة أخرى لا تنفع ولا تضر .
{ وَهُمْ بالآخرة } وما فيها من ثواب وعقاب { هُمْ كَافِرُونَ } جاحدون لما يجب الإِيمان به .
وفى هذه الجملة الكريمة تعريض بما كان عليه العزيز وقومه ، من إشراك وكفر ، ولم يواجه الفتيان بأنهما على دين قومهما ، وإنما ساق كلامه على سبيل العموم ، لكى يزيد في استمالتهما إليه ، وإقبالهما عليه . .
وهذا شأن الدعاة العقلاء ، يلتزمون في دعوتهم إلى الله الحكمة والموعظة الحسنة ، بدون إحراج أو تنفير .
{ قال لا يأتيكما طعام تُرزقانه إلا نبّأتكما بتأويله } أي بتأويل ما قصصتما علي ، أو بتأويل الطعام يعني بيان ماهيته وكيفيته فإنه يشبه تفسير المشكل ، كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الطريق القويم قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه كما هو طريقة الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء في الهداية والإرشاد ، فقدم ما يكون معجزة له من الإخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير . { قبل أن يأتيكما ذلكما } أي ذلك التأويل . { مما علّمني ربي } بالإلهام والوحي وليس من قبيل التكهن أو التنجيم . { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } تعليل لما قبله أي علمني ذلك لأني تركت ملة أولئك .
روي عن السدي وابن إسحاق : أن يوسف عليه السلام لما علم شدة تعبير منامه رأى الخبز وأنها تؤذن بقتله ، ذهب إلى غير ذلك من الحديث ، عسى ألا يطالباه بالتعبير ، فقال لهما - معلماً بعظيم علمه للتعبير- : إنه لا يجيئكما طعام في نومكما ، تريان أنكما رزقتماه إلا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام ، أي بما يؤول إليه أمره في اليقظة ، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به . فروي أنهما قالا : ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم ؟ فقال لهما : { ذلكما مما علمني ربي } ثم نهض ينحي لهما على الكفر ويحسن لهما الإيمان بالله : فروي أنه قصد في ذلك وجهين : أحدهما : تنسيتهما أمر تعبير ما سألا عنه - إذ في ذلك النذارة بقتل أحدهما - والآخر : الطماعية في إيمانهما . ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته . وقال ابن جريج : أراد يوسف عليه السلام : { لا يأتيكما طعام } في اليقظة { ترزقانه إلا نبأتكما } منه بعلم وبما يؤول إليه أمركما { قبل أن يأتيكما } ذلك المآل .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا إنما أعلمهم{[6684]} بأن يعلم مغيبات لا تعلق لها برؤيا . وقصد بذلك أحد الوجهين المتقدمين . وهذا على ما روي من أنه نبىء في السجن ، فإخباره كإخبار عيسى عليه السلام ، وقال ابن جريج : كانت عادة ذلك الملك إذا أراد قتل أحد ممن في سجنه بعث إليه طعاماً يجعله علامة لقتله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله لا يقتضيه اللفظ ولا ينهض به إسناد .
وقوله : { تركت } مع أنه لم يتشبث بها ، جائز صحيح ، وذلك أنه أخبر عن تجنبه من أول بالترك ، وساق لفظة الترك استجلاباً لهما عسى أن يتوكأ الترك الحقيقي الذي هو بعد أخذ في الشيء ، والقوم المتروكة ملتهم : الملك وأتباعه . وكرر قوله : { هم } على جهة التأكيد ، وحسن ذلك للفاصلة التي بينهما .