قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما حرم الله الربا أباح السلم ، وقال : أشهد أن السلم المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله تعالى في كتابه ، وأذن فيه ، ثم قرأ : ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) . قوله : ( إذا تداينتم ) . أي تعاملتم بالدين ، يقال : داينته إذا عاملته بالدين ، وإنما قال بدين بعد قوله تداينتم ، لأن المداينة قد تكون مجازاة ، وتكون معاطاة فقيّده بالدين ليعرف المراد من اللفظ ، وقيل : ذكره تأكيداً كقوله تعالى : ( ولا طائر يطير بجناحيه إلى أجل مسمى ) الأجل : مدة معلومة الأول والآخر ، والأجل : يلزم في الثمن ، والمبيع في السلم ، حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قيل محله ، وفي القرض لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم ( فاكتبوه ) أي اكتبوا الذي تداينتم به ، بيعاً كان أو سلماً أو قرضاً . واختلفوا في هذه الكتابة : فقال بعضهم : هي واجبة ، والأكثرون على أنه أمر استحباب ، فإن ترك فلا بأس ، كقوله تعالى ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) .
وقال بعضهم : كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ الكل بقوله : ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) وهو قول الشعبي ثم بين كيفية الكتابة فقال جل ذكره :
قوله تعالى : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } . أي ليكتب كتاب الدين بين الطالب والمطلوب كاتب بالعدل ، أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخير .
قوله تعالى : { ولا يأب } . أي لا يمتنع .
قوله تعالى : { كاتب أن يكتب } . واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد ، فذهب قوم إلى وجوبها إذا طولب وهو قول مجاهد ، وقال الحسن : يجب إذا لم يكن كاتب غيره ، وقال قوم : هو على الندب والاستحباب ، وقال الضحاك : كانت عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله تعالى ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) .
قوله تعالى : { كما علمه الله } . أي كما شرعه الله وأمره .
قوله تعالى : { فليكتب وليملل الذي عليه الحق } . يعني : المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه ، والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد جاء بهما القرآن ، فالإملال هنا ، والإملاء ، قوله تعالى : ( فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ) .
قوله تعالى : { وليتق الله ربه } . يعني المملي .
قوله تعالى : { ولا يبخس منه شيئا } . أي ولا ينقص منه أي من الحق الذي عليه شيئاً .
قوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } . أي جاهلاً بالإملاء ، قاله مجاهد ، وقال الضحاك والسدي : طفلاً صغيراً ، وقال الشافعي _ السفيه : المبذر المفسد لماله أو في دينه .
قوله تعالى : { أو ضعيفا } . أي شيخاً كبيراً وقيل هو ضعيف العقل لعته أو جنون .
قوله تعالى : { أو لا يستطيع أن يمل هو } . لخرس أو عمي أو عجمة أو حبس أو غيبة لا يمكنه حضور الكتابة ، أو جهل بما له وعليه .
قوله تعالى : { فليملل وليه } . أي قيمة .
قوله تعالى : { بالعدل } . أي بالصدق والحق ، وقال ابن عباس رضي الله عنه ومقاتل : أراد بالولي صاحب الحق ، يعني إن عجز من عليه الحق من الإملال فليملل ولي الحق ، وصاحب الدين بالعدل لأنه أعلم بالحق .
قوله تعالى : { واستشهدوا } . أي وأشهدوا .
قوله تعالى : { شهيدين } . أي شاهدين .
قوله تعالى : { من رجالكم } . يعني الأحرار المسلمين ، دون العبيد والصبيان ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد .
قوله تعالى : { فإن لم يكونا رجلين } . أي لم يكن الشاهدان رجلين .
قوله تعالى : { فرجل وامرأتان } . أي فليشهد رجل وامرأتان . وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين . واختلفوا في غير الأموال ، فذهب جماعة إلى أنه يجوز شهادتين مع الرجال في غير العقوبات ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي ، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين ، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها يثبت بشهادة رجل وامرأتين ، وبشهادة أربع نسوة ، واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة في العقوبات .
قوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } . يعني من كان مرضياً في ديانته وأمانته ، وشرائط قبول الشهادة سبعة : الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة ، فشهادة الكافر مردودة لأن المعروفين بالكذب عند الناس لا تجوز شهادتهم ، فالذي يكذب على الله تعالى أولى أن يكون مردود الشهادة ، وجوز أصحاب الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ، ولا تقبل شهادة العبيد ، وأجازها شريح وابن سيرين وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه ، ولا قول للمجنون حتى يكون له شهادة ، ولا يجوز شهادة الصبيان . سئل ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك ؟ فقال : لا يجوز ، لأن الله تعالى يقول : ( ممن ترضون من الشهداء ) والعدالة شرط ، وهي أن يكون الشاهد مجتنباً للكبائر غير مصر على الصغائر ، والمروءة شرط ، وهي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء ، وهي حسن الهيئة ، والسيرة والعشرة والصناعة ، فإن كان الرجل يظهر من نفسه في شيء منها ما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته ، وانتفاء التهمة شرط ، حتى لا تقبل شهادة العدو على العدو وإن كان مقبول الشهادة على غيره ، لأنه متهم في حق عدوه ، ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وإن كان مقبول الشهادة عليهما ، ولا يقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعاً ، كالوارث يشهد على رجل بقتل مورثه ، أو يدفع عن نفسه بشهادته ضرراً كالمشهود عليه يشهد بجرح من يشهد عليه لتمكن التهمة في شهادته .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج القطان ، أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان ، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي ، أخبرنا أبو عبيد القاسم ابن سلام أخبرنا مروان الفزاري عن شيخ من أهل الحيرة يقال له يزيد بن زياد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ترفعه " لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع مع أهل البيت " .
قوله تعالى : { أن تضل إحداهما } . قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف .
قوله تعالى : { فتذكر } . برفع الراء ، ومعناه الجزاء والابتداء ، وموضع تضل جزم بالجزاء ، إلا أنه لا نسق بالتضعيف ، فتذكر رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ ، وقراءة العامة بفتح الألف ونصب الراء على الاتصال بالكلام الأول ، و " تضل " محله نصب " بأن " فتذكر منسوق عليه ، ومعنى الآية : فرجل وامرأتان كي تذكر .
قوله تعالى : { إحداهما الأخرى } . ومعنى تضل : أي تنسى ، يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها ، تذكرها الأخرى فتقول : ألسنا حضرنا مجلس كذا ؟ وسمعنا كذا ؟ قرأ ابن كثير وأهل البصرة : فتذكر مخففاً ، وقرأ الباقون مشدداً ، وذكر واذكر بمعنى واحد ، وهما متعديان من الذكر الذي هو ضد النسيان ، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال : هو من الذكر ، أي تجعل إحداهما الأخرى ذكراً ، أي تصير شهادتهما كشهادة ذكر ، والأول أصح لأنه معطوف على النسيان .
قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } . قيل : أراد به إذا ما دعوا لتحمل الشهادة ، سماهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء وهو أمر إيجاب عند بعضهم ، وقال قوم : تجب الإجابة إذا لم يكن غيرهم ، فإن وجد غيرهم فهم مخيرون وهو قول الحسن ، وقال قوم : هو أمر ندب وهو مخير في جميع الأحوال ، وقال بعضهم : هذا في إقامة الشهادة وأدائها فمعنى الآية ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لأداء الشهادة التي تحملوها ، وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير ، وقال الشعبي : الشاهد بالخيار ما لم يشهده ، وقال الحسن : الآية في الأمرين جميعاً ، في التحمل والإقامة إذا كان فارغاً .
قوله تعالى : { ولا تسأموا } . أي ولا تملوا .
قوله تعالى : { أن تكتبوه } . والهاء راجعة إلى الحق .
قوله تعالى : { صغيراً } . كان الحق .
قوله تعالى : { أو كبيراً } . قليلاً كان أو كثيراً .
قوله تعالى : { إلى أجله } . إلى محل الحق .
قوله تعالى : { ذلكم } . أي الكتاب .
قوله تعالى : { أقسط } . أعدل .
قوله تعالى : { عند الله } . لأنه أمر به ، واتباع أمره أعدل من تركه .
قوله تعالى : { وأقوم للشهادة } . لأن الكتابة تذكر الشهود .
قوله تعالى : { وأدنى } . وأحرى وأقرب إلى .
قوله تعالى : { أن لا ترتابوا } . تشكوا في الشهادة .
قوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة حاضرة } . قرأهما عاصم بالنصب على خبر كان ، وأضمر الاسم مجازا ، إلا أن تكون التجارة تجارة ، أو المبايعة تجارة ، وقرأ الباقون بالرفع ، وله وجهان : أحدهما : أن يجعل الكون بمعنى الوقوع معناه إلا أن تقع تجارة . والثاني : أن تجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل .
قوله تعالى : { تديرونها بينكم } . تقديره إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم ، ومعنى الآية إلا أن تكون تجارة حاضرة يداً بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل .
قوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } . يعني التجارة .
قوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } . قال الضحاك : هو عزم والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره ، نقداً أو نسئه ، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : الأمر فيه إلى الأمانة ، كقوله تعالى ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) الآية ، وقال الآخرون هو أمر ندب .
قوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } . هذا نهي للغائب ، وأصله يضاور ، فأدغمت إحدى الراءين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين ، واختلفوا فيه فمنهم من قال : أصله يضارر بكسر الراء الأولى ، وجعل الفعل للكاتب والشهيد ، معناه : لا يضارر الكاتب فيأبى أن يكتب ، ولا الشهيد فيأبى أن يشهد ، ولا يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه ولا الشهيد فيشهد بما لم يستشهد عليه ، وهذا قول طاووس والحسن وقتادة ، وقال قوم : أصله " يضارر " بفتح الراء على الفعل المجهول ، وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين ، ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب أو الشاهد وهما على شغل مهم ، فيقولان : نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا ، فيقول الداعي إن الله أمركما أن تجيبا ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما ، فنهي عن ذلك وأمر بطلب غيرهما .
قوله تعالى : { وإن تفعلوا } . ما نهيتكم عنه من الضرر .
قوله تعالى : { فإنه فسوق بكم } . أي معصية وخروج عن الأمر .
قوله تعالى : { واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم } .
{ 282 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
هذه آية الدين ، وهي أطول آيات القرآن ، وقد اشتملت على أحكام عظيمة جليلة المنفعة والمقدار ، أحدها : أنه تجوز جميع أنواع المداينات من سلم وغيره ، لأن الله أخبر عن المداينة التي عليها المؤمنون إخبار مقرر لها ذاكرا أحكامها ، وذلك يدل على الجواز ، الثاني والثالث أنه لا بد للسلم من أجل وأنه لا بد أن يكون معينا معلوما فلا يصح حالا ولا إلى أجل مجهول ، الرابع : الأمر بكتابة جميع عقود المداينات إما وجوبا وإما استحبابا لشدة الحاجة إلى كتابتها ، لأنها بدون الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم ، الخامس : أمر الكاتب أن يكتب ، السادس : أن يكون عدلا في نفسه لأجل اعتبار كتابته ، لأن الفاسق لا يعتبر قوله ولا كتابته ، السابع أنه يجب عليه العدل بينهما ، فلا يميل لأحدهما لقرابة أو صداقة أو غير ذلك ، الثامن : أن يكون الكاتب عارفا بكتابة الوثائق وما يلزم فيها كل واحد منهما ، وما يحصل به التوثق ، لأنه لا سبيل إلى العدل إلا بذلك ، وهذا مأخوذ من قوله : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } التاسع : أنه إذا وجدت وثيقة بخط المعروف بالعدالة المذكورة يعمل بها ، ولو كان هو والشهود قد ماتوا ، العاشر : قوله : { ولا يأب كاتب أن يكتب } أي : لا يمتنع من منَّ الله عليه بتعليمه الكتابة أن يكتب بين المتداينين ، فكما أحسن الله إليه بتعليمه ، فليحسن إلى عباد الله المحتاجين إلى كتابته ، ولا يمتنع من الكتابة لهم ، الحادي عشر : أمر الكاتب أن لا يكتب إلا ما أملاه من عليه الحق ، الثاني عشر : أن الذي يملي من المتعاقدين من عليه الدين ، الثالث عشر : أمره أن يبين جميع الحق الذي عليه ولا يبخس منه شيئا ، الرابع عشر : أن إقرار الإنسان على نفسه مقبول ، لأن الله أمر من عليه الحق أن يمل على الكاتب ، فإذا كتب إقراره بذلك ثبت موجبه ومضمونه ، وهو ما أقر به على نفسه ، ولو ادعى بعد ذلك غلطا أو سهوا ، الخامس عشر : أن من عليه حقا من الحقوق التي البينة{[151]} على مقدارها وصفتها من كثرة وقلة وتعجيل وتأجيل ، أن قوله هو المقبول دون قول من له الحق ، لأنه تعالى لم ينهه عن بخس الحق الذي عليه ، إلا أن قوله مقبول على ما يقوله من مقدار الحق وصفته ، السادس عشر : أنه يحرم على من عليه حق من الحقوق أن يبخس وينقص شيئا من مقداره ، أو طيبه وحسنه ، أو أجله أو غير ذلك من توابعه ولواحقه ، السابع عشر : أن من لا يقدر على إملاء الحق لصغره أو سفهه أو خرسه ، أو نحو ذلك ، فإنه ينوب وليه منابه في الإملاء والإقرار ، الثامن عشر : أنه يلزم الولي من العدل ما يلزم من عليه الحق من العدل ، وعدم البخس لقوله { بالعدل } التاسع عشر : أنه يشترط عدالة الولي ، لأن الإملاء بالعدل المذكور لا يكون من فاسق ، العشرون : ثبوت الولاية في الأموال ، الحادي والعشرون : أن الحق يكون على الصغير والسفيه والمجنون والضعيف ، لا على وليهم ، الثاني والعشرون : أن إقرار الصغير والسفيه والمجنون والمعتوه ونحوهم وتصرفهم غير صحيح ، لأن الله جعل الإملاء لوليهم ، ولم يجعل لهم منه شيئا لطفا بهم ورحمة ، خوفا من تلاف أموالهم ، الثالث والعشرون : صحة تصرف الولي في مال من ذكر ، الرابع والعشرون : فيه مشروعية كون الإنسان يتعلم الأمور التي يتوثق بها المتداينون كل واحد من صاحبه ، لأن المقصود من ذلك التوثق والعدل ، وما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع ، الخامس والعشرون : أن تعلم الكتابة مشروع ، بل هو فرض كفاية ، لأن الله أمر بكتابة الديون وغيرها ، ولا يحصل ذلك إلا بالتعلم ، السادس والعشرون : أنه مأمور بالإشهاد على العقود ، وذلك على وجه الندب ، لأن المقصود من ذلك الإرشاد إلى ما يحفظ الحقوق ، فهو عائد لمصلحة المكلفين ، نعم إن كان المتصرف ولي يتيم أو وقف ونحو ذلك مما يجب حفظه تعين أن يكون الإشهاد الذي به يحفظ الحق واجبا ، السابع والعشرون : أن نصاب الشهادة في الأموال ونحوها رجلان أو رجل وامرأتان ، ودلت السنة أيضا أنه يقبل الشاهد مع يمين المدعي ، الثامن والعشرون : أن شهادة الصبيان غير مقبولة لمفهوم لفظ الرجل ، التاسع والعشرون : أن شهادة النساء منفردات في الأموال ونحوها لا تقبل ، لأن الله لم يقبلهن إلا مع الرجل ، وقد يقال إن الله أقام المرأتين مقام رجل للحكمة التي ذكرها وهي موجودة سواء كن مع رجل أو منفردات والله أعلم . الثلاثون : أن شهادة العبد البالغ مقبولة كشهادة الحر لعموم قوله : { فاستشهدوا شهيدين من رجالكم } والعبد البالغ من رجالنا ، الحادي والثلاثون : أن شهادة الكفار ذكورا كانوا أو نساء غير مقبولة ، لأنهم ليسوا منا ، ولأن مبنى الشهادة على العدالة وهو غير عدل ، الثاني والثلاثون : فيه فضيلة الرجل على المرأة ، وأن الواحد في مقابلة المرأتين لقوة حفظه ونقص حفظها ، الثالث والثلاثون : أن من نسي شهادته ثم ذكرها فذكر فشهادته مقبولة لقوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } الرابع والثلاثون : يؤخذ من المعنى أن الشاهد إذا خاف نسيان شهادته في الحقوق الواجبة وجب عليه كتابتها ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، والخامس والثلاثون : أنه يجب على الشاهد إذا دعي للشهادة وهو غير معذور ، لا يجوز له أن يأبى لقوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } السادس والثلاثون : أن من لم يتصف بصفة الشهداء المقبولة شهادتهم ، لم يجب عليه الإجابة لعدم الفائدة بها ولأنه ليس من الشهداء ، السابع والثلاثون : النهي عن السآمة والضجر من كتابة الديون كلها من صغير وكبير وصفة الأجل وجميع ما احتوى عليه العقد من الشروط والقيود ، الثامن والثلاثون : بيان الحكمة في مشروعية الكتابة والإشهاد في العقود ، وأنه { أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا } فإنها متضمنة للعدل الذي به قوام العباد والبلاد ، والشهادة المقترنة بالكتابة تكون أقوم وأكمل وأبعد من الشك والريب والتنازع والتشاجر ، التاسع والثلاثون : يؤخذ من ذلك أن من اشتبه وشك في شهادته لم يجز له الإقدام عليها بل لا بد من اليقين ، الأربعون : قوله : { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } فيه الرخصة في ترك الكتابة إذا كانت التجارة حاضرا بحاضر ، لعدم شدة الحاجة إلى الكتابة ، الحادي والأربعون : أنه وإن رخص في ترك الكتابة في التجارة الحاضرة ، فإنه يشرع الإشهاد لقوله : { وأشهدوا إذا تبايعتم } الثاني والأربعون : النهي عن مضارة الكاتب بأن يدعى وقت اشتغال وحصول مشقة عليه ، الثالث والأربعون : النهي عن مضارة الشهيد أيضا بأن يدعى إلى تحمل الشهادة أو أدائها في مرض أو شغل يشق عليه ، أو غير ذلك هذا على جعل قوله : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } مبنيا للمجهول ، وأما على جعلها مبنيا للفاعل ففيه نهي الشاهد والكاتب أن يضارا صاحب الحق بالامتناع أو طلب أجرة شاقة ونحو ذلك ، وهذان هما الرابع والأربعون والخامس والأربعون والسادس والأربعون أن ارتكاب هذه المحرمات من خصال الفسق لقوله : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } السابع والأربعون أن الأوصاف كالفسق والإيمان والنفاق والعداوة والولاية ونحو ذلك تتجزأ في الإنسان ، فتكون فيه مادة فسق وغيرها ، وكذلك مادة إيمان وكفر لقوله : { فإنه فسوق بكم } ولم يقل فأنتم فاسقون أو فُسّاق . الثامن والأربعون : - وحقه أن يتقدم على ما هنا لتقدم موضعه- اشتراط العدالة في الشاهد لقوله : { ممن ترضون من الشهداء } التاسع والأربعون : أن العدالة يشترط فيها العرف في كل مكان وزمان ، فكل من كان مرضيا معتبرا عند الناس قبلت شهادته ، الخمسون : يؤخذ منها عدم قبول شهادة المجهول حتى يزكى ، فهذه الأحكام مما يستنبط من هذه الآية الكريمة على حسب الحال الحاضرة والفهم القاصر ، ولله في كلامه حكم وأسرار يخص بها من يشاء من عباده .
وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين أن يسارعوا في التصدق على المحتاجين ، وأن يجتنبوا الربا والمرابين ، وبين لهم أن أموالهم تزكو وتنمو بالإِنفاق في وجوه الخير ، وتمحق وتذهب بتعاطي الربا ، بعد أن وضح كل ذلك ساق لهم آية جامعة ، متى اتبعوا توجيهاتها استطاعوا أن يحفظوا أموالهم بأفضل طريق ، وأشرف وسيلة ، وأن يصونوها عن الهلاك والضياع عندما يعطي أحدهم أخاه شيئا من المال على سبيل الدين أو القرض الحسن المنزه عن الربا . استمع إلى القرآن وهو يتكلم عن أحكام الدين وعن أحكام بعض المعاملات التجارية الحاضرة فيقول :
{ ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم . . . }
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 282 )
قال ابن كثير : قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } هذا إرشاد منه - تعالى - لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها ، وقد نبه على ذلك في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا } وروى البخاري عن ابن عباس أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله وأذن فيه ثم قرأ { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم } . الآية . وثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " .
ومعنى { تَدَايَنتُم } : تعاملتم بالدين وداين بعضكم بعضا . وحقيقة الدين - كما يقول القرطبي - " عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان غائبا " .
والأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإِنسان هو الوقت المحدد لانقضاء عمره . وأجل الدين هو الوقت المعين لأدائه في المستقبل . وأصله من التأخير ، يقال : أجل الشيء يأجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا إذا عامل بعضكم بعضا بالدين إلى وقت معين فاكتبوا هذا الدين ، لأن في هذه الكتابة حفظاً له ، وضبطاً لمقداره ، ومنعاً للتنازع من أن يقع بينكم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل : إذا تدانيتم إلى أجل مسمى ، وأي حاجة إلى ذكر الدين ؟ قلت : ذكر - لفظ الدين - ليرجع الضمير إليه في قوله : { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال . فإن قلت : ما فائدة قوله : { مُّسَمًّى } قلت : ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام . ولو قال : إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج لم يجز لعدم التسمية " .
وجمهور العلماء على أن الأمر في قوله " فاكتبوه " للندب ، ولأن الله - تعالى - قد قال بعد ذلك { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الدائنين بكتابه ديونهم ، ولا المدنيني بأن يكتبوها .
وقال الظاهرية : إن الأمر هنا للوجوب ، ومن لم يفعل ذلك كان آتماً ، لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب . .
وقوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها عقب الأمر بها على سبيل الإِجمال .
أي : عليكم أيها المؤمنون إذا تعاملتم بالدين إلى أجل معين أن تكتبوا هذا الدين ، وليتول الكتابة بينكم شخص يجيدها وعنده فقهها وعلمها ، بأن يكون على معرفة بشروط العقود وتوثيقها ، وما يكون من الشروط موافقاً لشريعة الإِسلام وما يكون منها غير موافق ، وعلى هذا الكاتب أن يلتزم الحق مع الدائن والمدين في كتابته ، لأن الله - تعالى - يقول : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } فالجملة الكريمة تحض المتعاملين بالدين أن يختاروا لكتابته شخصاً تتوفر فيه إجادة الكتابة ، والخبرة بشروط العقود وتوثيقها ، كما تتوفر فيه الاستقامة وتحري الحق . ومفعول ( يكتب ) محذوف ثقة بانفهامه أي وليكتب بينكم الكتابة كاتب بالعدل . والتقييد بالظرف بينكم للإِيذان بأنه ينبغي للكاتب ألا يسمح لنفسه بأن ينفرد به أحد المتعاقدين ، لأن في هذا الانفراد تهمة يجب أن يربأ بنفسه عنها .
والجار والمجرور وهو ( بالعدل ) متعلق بمحذوف صفة لكاتب أي : وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين . أو متعلق بالفعل يكتب . أي : وليكتب بالحق .
ثم نهى الله - تعالى - من كان قادراً على الكتابة عن الامتناع متى دعى إليها فقال :
{ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ } .
أي : ولا يمتنع كاتب من أن يكتب للمتداينين ديونهما بالطريقة التي علمه الله إياها أن يتحرى بالعدل والحق في كتابته ، وأن يلتزم فيها ما تقتضيه أحكام الشريعة الإِسلامية .
فالكاف في قوله - تعالى - : { كَمَا عَلَّمَهُ الله } نعت لمصدر محذوف والتقدير : فليكتب كتابة مثل ما علمه الله - تعالى - بمعنى أن يلتزم الحق والعدل فيها .
ويجوز أن تكون الكاف للتعليل فيكون المعنى : لا يمتنع عن الكتابة لأنه كما علمه الله إياها ويسرها له ونفعه بها ، فعليه أن ينفع غيره بها ، فهو كقوله - تعالى - : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } وفي الحديث الشريف " إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق " وفي حديث آخر : " من كتم علماً يعلمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " .
وقوله : ( فليكتب ) تفريع على قوله " ولا يأب كاتب " أي : فليكتب الكتابة التي علمه الله إياها فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } . ويجوز أن يكون توكيداً للأمر الصريح في قوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } .
قال القرطبي : واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد . فقال الطبريك : واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب . وقال الحسن : ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع ، فإن كان كذلك فهو فريضة ، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام بها غيره " .
وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد قررت مبدأ الكتابة في الدين ، وبينت كيفية الكتابة ، وأشارت إلى إجادة الكاتب لها ، ونهته عن الامتناع عنها إذا دعى إليها . ثم انتقلت الآية بعد ذلك إلى بيان من يتولى الإِملاء فقال - تعالى - : { وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } .
والإِملالل معناه الإِملاء . فهما لغتان معناهما واحد . وقد جاء القرآن باللغتين قال - تعالى - : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : وعلى المدين الذي عليه الدين وقد التزم بأدائه أن يمل على الكاتب هذا الدين ، وذلك ليكون إملاؤه إقراراً به وبالحقوق التي عليه الوفاء بها . وعليه كذلك أن يراقب الله - تعالى - في إملائه فلا ينقص من الدين الذي عليه شيئاً ، لأن هذا الإِنقاص ظلم حرمه الله - تعالى - .
وقد أمر الله - تعالى - بأن يكون الذي يملي على الكاتب هو المدين لأنه هو المكلف بأداء مضمون الكتابة ، ولأنه بإملائه يكون قد أقر على نفسه بما عليه ، ولأنه لو أفلس الدائن فربما يزيد في الدين ، أو يملي شيئاً ليس محل اتفاق بينه وبين المدين ، ولأن المدين في الغالب في موقف ضعيف فأعطاه الله - تعالى - حق الإِملاء على الكاتب حتى لا يغبن من الدائن .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد مكن المدين من الإِملاء على الكاتب حتى تكون الكتابة تحت سمعه وبصره وباختياره ، ولكنه في الوقت نفسه أوجب عليه أمرين : تقوى الله وعدم الانقاص من الدين الذي عليه ، وإن ذلك لتشريع عادل حكيم لا ظلم فيه لا للدائن ولا للمدين .
ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا كان الذي عليه الدين لا يحسن الإِملاء فقال - تعالى - : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق } وهو المدين { سَفِيهاً } أي جاهلا بالإِملاء أو ناقص العقل ، أو متلافاً مبذراً لا يحسن تدبير أمره " .
{ أَوْ ضَعِيفاً } بأن يكون صبياً أو شيخاً تقدمتبه الشيخوخة .
{ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } بأن يكون عيياً أو أخرس أو لا خبرة له بإملاء أمثال هذه المكاتبات .
{ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } أي فعلى ولي أمره أو من يهمه شأنه ولا يرضى له أن يضيع حقه أن يتولى الإِملاء الحق والعدل فيما يكلف به .
وبعد هذا البيان الحكيم عن الكتابة وأحكامها في شأن الديون ، انتقل القرآن إلى الحديث عن الإِشهاد فقال - تعالى - : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } أي : اطلبوا شاهدين عدلين من الرجال ليشهدوا على ما يجري بينكم من معاملات مؤجلة ، لأن هذا الإِشهاد يعطي الديون والكتابة توثيقاً وتثبيتاً ، والسين التاء في قوله : " واستشهدوا " للطلب .
قال الآلوسي : " وفي اختيار صيغة المبالغة في { شَهِيدَيْنِ } للإِيماء إلى من تكررت منه الشهادة ، فهو علام بها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزاً إلى العدالة ، لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك . والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف على ذلك .
وقوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } متعلق بقوله : { واستشهدوا } ومن لابتداء الغاية ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف صفة لشهيدين ومن للتبعيض ، أي من رجالكم المسلمين الأحرار فإن الكلام في معاملتهم .
ثم بين - سبحانه - الحكم إذا لم يتيسر شاهدان من الرجال فقال : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } .
وقوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ } متعلق بمحذوف على أنه صفة لرجل وامرأتان . أي فإن لم يتيسر رجلان للشهادة فليشهد رجل وامرأتان كائنون مرضيون عندكم بعدالتهم .
وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود إلا أنه ذكر هنا للتشديد في اعتباره ، لأن اتصاف النساء به قد لا يتوفر كثيراً .
وقوله : { مِنَ الشهدآء } متلعق بمحذوف حال من الضمير المفعول المقدر في { تَرْضَوْنَ } العائد إلى الموصول : أي فليشهد رجل وامرأتان ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم ، وثقتكم بهم .
وقوله - تعالى - : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } أدق في الدالالة على صدق الشهادة من العدالة ، لأن الإِنسان العدل قد يكون مرضياً في دينه وخلقه ولكنه قد يتأثر بالمشاهد المؤثرة فتخونه ذاكرته في وقت الحاجة إليها ، أو قد يكون ممن يمنعه منصبه وجاهه ومقامه في الناس من الكذب إلا أنه قد يرتكب بعض المعاصي ، فجاء - سبحانه - بهذه الجملة الحكيمة لكي يقول للناس . اختاروا الشهداء من الذين يرتضي قولهم ، ويقيمون الشهادة على وجهها الحق بدون التأثر بأي نوع من أنواع المؤثرات .
هذا ، وشهادة النساء مع الرجال تجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة وكل شيء إلا الحدود والقصاص . وعند المالكية تجوز في الأموال وتوابعها خاصة ، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة .
ثم بين - سبحانه - العلة في أن المرأتين تقومان مقام الرجل في الشهادة فقال : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } .
وقال القرطبي : معنى تضل تنسي ، والضلال عن الشهادة فإنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضلالا " .
والمعنى : جعلنا المرأتين بدل رجل واحد في الشهادة ، خشية أن تنسى إحداهما فتذكر كل واحدة منهما الأخرى : إذ المرأة لقوة عاطفتها ، وشدة انفعالها بالحوادث ، قد تتوهم ما لم تر ، فكان من الحكمة أن يكون مع المرأة أخرى في الشهادة بحيث يتذكران الحق فيما بينهما .
والعلة في الحقيقة هي التذكير ، ولكن الضلال لما كان سبباص في التذكير ، نزل منزلة العلة .
وذلك كأن تقول : أعددت السلاح خشية أن يجيء العدو فأدفعه ، فإن العلة هي الدفاع عن النفس ، ولكن لما كان مجئ العدو سبباً فيه نزل منزلته .
وكما أمر الله - سبحانه - الكتاب في أول الآية بعدم الامتناع عن الكتابة أمر الشهود أيضاً بعدم الامتناع عن الشهادة فقال - تعالى - : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } أي : ولا يمتنع الشهود عن أداء الشهادة وتحملها متى دعوا إليها ، لأن الامتناع عن تحمل الشهادة وأدائها قد يؤدي إلى ضياع الحقوق . والله - تعالى - قد شرع الشهادة لإِحقاق الحق ، ونشر العدل بين الناس ، فعلى من اشتهروا بالعدالة ووثق الناس بهم أن يؤدوا الشهادة كما أمرهم الله - تعالى- .
ثم أمر - سبحانه - بكتابه الدين سواء أكبر الدين أم صغر فقال : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ } .
السأم : الضجر والملل . يقال : سئمت الشيء أسأمه وسآمة أي مللته وضجرته .
والمعنى : وعليكم أيها المؤمنون أن لا تملوا من كتابة الدين إلى الوقت المحدد له سواء أكان هذا الدين كبيراً أم صغيراً ، لأن الكتابة في الحالتين أدعى إلى حفظ الحقوق وصيانتها ، وإلى عدم نشوب التنازع أو التخاصم بينكم ، ولأن الدين قد يكون صغيراً في نظر الغني المليء ، إلا أنه كبير في نظر الفقير المعسر ، ولأن التهاون في شأن الدين الصغير قد يؤدي إلى التهاون في شأن الدين الكبير ، لذا وجب عليكم أن تنقادوا لشرع الله وأن تكتبوا ما بينكم من ديون .
والضمير في قوله : { أَن تَكْتُبُوهُ } يعود إلى الدين أو إلى الحق ، وقولهك { صَغِيراً أَو كَبِيراً } حالان من الضمير . أي لا تسأموا أن تكتبوه على كل حال قليلا أو كثيراً ، وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى .
ثم بين - سبحانه - ثلاث فوائد تعود عليهم إذا ما امتثلوا ما أمرهم الله - تعالى - به ، فقال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله } .
واسم الإِشارة { ذَلِكُمْ } يعود إلى كل ما سبق ذكره في الآية من الكتابة والإِشهاد ومن عدم الامتناع عنهما ، ومن تحرى الحق والعدل .
و { أَقْسَطُ } بمعنى أعدل : يقال : أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط .
قال - تعالى - : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } ويقال : هو قاسط إذا جار وظلم . قال - تعالى - : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي : ذلكم الذي شرعناه لكم في أمر الديون من لكتابة والإِشهاد وغيرهما أعدل في علم الله - تعالى - ، وكل ما كان كذلك فهو الأعدل والأفضل والأحكم في ذاته ، لأنه - سبحانه - هو الأعلم بما فيه مصلحتكم فاستجيبوا له ، وتلك هي الفائدة الأولى .
أما الفائدة الثانية فهي قوله - سبحانه - : { وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } ومعنى { وَأَقْومُ } أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج .
أي : أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها .
وأما الفائدة الثالثة فهي قوله : { وأدنى أَلاَّ ترتابوا } أي : أقرب إلى زوال الشك والريبة أي أن الأوامر والنواهي السابقة إذا نفذت على وجهها كان تنفيذها أعدل في علم الله - تعالى - وأعون على إقامة الشهادة إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ ، وأقرب إلى عدم الشك في جنس الدين وقدره وأجله ، وإذا توفرت هذه الفوائد الثلاث في المعاملات ساد الوفاق والتعاون بين الناس ، أما إذا فقدت فإن الثقة تزول من بينهم ، ويحل محلها النزاع والشقاق .
ثم أباح - سبحانه - في التجارة الحاضرة عدم الكتابة فقال : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } .
والتجارة الحاضرة التي تدور بين التجار : هي التي تجري فيها التقابض في المجلس أو التي يتأخر فيها الأداء زمنا يسيرا . وسميت حاضرة ، لأن المبيع والثمن كلاهما حاضر .
والمعنى : أن الله - تعالى - يأمركم بكتابة الديون وبالإِشهاد عليها إلا أنه - سبحانه - رحمة بكم أباح لكم عدم الكتابة في التجارة الحاضرة التي تكثرون إدارتها والتعامل فيها ، لأنه لو كلفكم بذلك لشق الأمر عليكم ، وهو - سبحانه - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ولأن أمثال هذه التجارات التي يحصل فيها التقابض ويكثر تكرارها ، لا يتوقع فيها التنازع أن أو النسيان .
والاستثناء هنا منقطع لأنه ليس هناك دين حتى يكتب ، وليست التجارة الحاضرة من جنس التعامل بالديون فكأنه قيل : إذا تداينتم فتكاتبوا وأشهدوا لكن التجارة الحاضرة التي يجري فيها التقابض لا جناح عليكم في عدم كتابتها .
وقيل : الاستثناء متصل والجملة المستثناة في موضع نصب لأنه استثناء من الجنس ، لأنه أمر بالكتابة في كل معاملة واستثنى منها التجارة الحاضرة والتقدير : آمركم بالكتابة والإِشهاد فثي كل معاملة إلا في حال حضور التجارة فلا بأس من ترك الكتابة . { تِجَارَةً } قرأها الجمهور بالرفع على أنها اسم تكون ، والخبر جملة { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } . أو على أنها فاعل تكون إذا اعتبرناها تامة .
وقرأها عاصم بالنصب على أنها خبر تكون واسمها ضمير مستتر فيها يعود على التجارة .
أي : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة .
وقوله - تعالى - : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أمر منه - سبحانه - بالإِشهاد عند البيع ، وهذا الأمر للإِرشاد والتعليم عند جمهور العلماء . ويرى الظاهرية أنه للوجوب .
قال صاحب الكشاف : هذا أمر بالإِشهاد على التتابع مطلقا ناجزاً أو كالئا - أي مؤجلا - لأنه أحوط وأبعد مما عسى يعق من الاختلاف . ويجوز أن يراد : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع . يعني التجارة الحاضرة على أن الإِشهاد كاف فيه دون الكتابة ، وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل .
ثم نهى - سبحانه - عن المضارة فقال : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .
والمضارة : إدخال الضرر . والفعل ( يضار ) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل ، وأن أصله " لا يضارر - بكسر الراء - ويحتمل أن يكون مبنيا للمفعول . وأن أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى .
والمعنى على الأولى : نهى الكاتب والشاهد عن أن ينزلا ضرراص بأحد المتعاقدين ، بأن يبخس الكاتب أحدهما ، أو يشهد بغير الحق .
والمعنى على الثاني : وهو الظاهر - نهى الدائن والمدين عن أن ينزل أحدهما ضرراً بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق ، فإنهما أمينان ، والإِضرار بهما قد يحملهما على الخيانة وفي ذلك ضياع للأمانة وذهاب للثقة . ولذا قال - تعالى - بعد ذلك { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } .
أي : وإن تفعلوا ما نهيتم عنه أو تخالفوا ما أمرتم به ، فإنكم بذلك تكونون قد خرجتم عن طاعة الله ، وتلبستم بمعصيته ، وصرت مأهلا لعقوبته ، فعليكم أن تقفوا عند حدود الله حتى تتحقق لكم السعادة في دينكم ودنياكم .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالأمر بخشيته . وبتذكيرهم بنعمه فقال : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
أي : واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فهو - سبحانه - الذي يعلمكم ما يصلح لكم أمر دنياكم وما يصلح لكم أمر دينكم متى اتقيتموه واستجبتم له ، وهو - سبحانه - بكل شيء عليم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .
وبعد : فهذه هي آية الدين التي هي أطول آية في القرآن ، تقرؤها فتراها قد اشتملت على أدق التشريعات ، وأحكم التوجيهات ، وأنجع الإِرشادات التي تهدي إلى حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل .
تقرؤها فترى الدقة العجيبة في الصياغة بأن وضع كل لفظ في مكانه المناسب ، وترى الطلاوة في التعبير ، والعذوبة في الألفاظ بحيث لا تطغى دقة الصياغة على جمال العرض .
وترى الوفاء الكامل ، لكل الجوانب التشريعية والاحتراس التام من كل المؤثرات التي قد تؤثر على سلامة التعاقد ، والإِرشاد الجامع إلى كل ما يضمن وصول الحق والعدل إلى جميع الأطراف بدون محاباة أو غبن .
وترى قبل ذلك وبعد ذلك كيف يسوق القرآن تشريعاته بطريقة تغرس في النفوس الخوف من الله - تعالى - والمراقبة له ، والاستجابة لأوامره ، لا كطريقة البشر في قوانينهم التي صاغوها في قوالب صماء من الألفاظ لا تشعر معها بتأثير في النفس ، ولا باهتزاز في القلب .
ولو لم يكن في شريعة الله سوى هذا التأثير الذي تشعر به النفوس النقية الصافية عند تدبرها لكفاها ذلك دليلا على سموها وفضلها وعلى أنها من صنع الله - تعالى - ولو أن المسلمين أخذوا بها وبتوجيهاتها في سائر شئونهم لظفروا بالسعادتين : الدينية والدنيوية .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } أي إذا داين بعضكم بعضا ، تقول : داينته إذا عاملته نسيئة معطيا أو آخذا . وفائدة ذكر الدين أن لا يتوهم من التداين المجازاة ويعلم تنوعه إلى المؤجل والحال ، وأنه الباعث على الكتبة ويكون مرجع ضمير فاكتبوه { إلى أجل مسمى } معلوم الأيام والأشهر لا بالحصاد وقدوم الحاج . { فاكتبوه } لأنه أوثق وأدفع للنزاع ، والجمهور على أنه استحباب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن المراد به السلم وقال لما حرم الله الربا أباح السلم ) . { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } من يكتب السوية لا يزيد ولا ينقص ، وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبه موثوقا به معدلا بالشرع . { ولا يأب كاتب } ولا يمتنع أحد من الكتاب . { أن يكتب كما علمه الله } مثل ما علمه الله من كتبة الوثائق ، أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها كقوله : { وأحسن كما أحسن الله إليك } . { فليكتب } تلك الكتابة المعلمة . أمر بها بعد النهي عن الإباء عنها تأكيدا ، ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر فيكون النهي عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة . { وليملل الذي عليه الحق } وليكن المملي من عليه الحق لأنه المقر المشهود عليه ، والإملال والإملاء واحد . { وليتق الله ربه } أي المملي . أو الكاتب . { ولا يبخس } ولا ينقص . { منه شيئا } أي من الحق ، أو مما أملى عليه . { فإن كان الذي عليه الحق سفيها } ناقص العقل مبذرا . { أو ضعيفا } صبيا أو شيخا مختلا . { أو لا يستطيع أن يمل هو } أو غير مستطيع للإملال بنفسه لخرس أو جهل باللغة . { فليملل وليه بالعدل } أي الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم إن كان صبيا أو مختل العقل ، أو وكيل أو مترجم إن كان غير مستطيع . وهو دليل جريان النيابة في الإقرار ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل . { واستشهدوا شهيدين } واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان . { من رجالكم } من رجال المسلمين ، وهو دليل اشتراط إسلام الشهود وإليه ذهب عامة العلماء وقال أبو حنيفة : تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض { فإن لم يكونا رجلين } فإن لم يكن الشاهدان رجلين . { فرجل وامرأتان } فليشهد أو فليستشهد رجل وامرأتان ، وهذا مخصوص بالأموال عندنا وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة . { ممن ترضون من الشهداء } لعلمكم بعدالتهم . { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } علة اعتبار العدد أي لأجل أن إحداهما إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ذكرتها الأخرى ، والعلة في الحقيقة التذكير ولكن لما كان الضلال سببا له نزل منزلته كقولهم : أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه ، وكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ، وفيه إشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن . وقرأ حمزة { أن تضل } على الشرط فتذكر بالرفع . وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب { فتذكر } من الإذكار . { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } لأداء الشهادة أو التحمل . وسموا شهداء قبل التحمل تنزيلا لما يشارف منزلة الواقع و{ ما } مزيدة . { ولا تسأموا أن تكتبوه } ولا تملوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب . وقيل كنى بالسأم عن الكسل لأنه صفة المنافق ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " لا يقول المؤمن كسلت " { صغيرا أو كبيرا } صغيرا كان الحق أو كبيرا ، أو مختصرا كان الكتاب أو مشبعا . { إلى أجله } إلى وقت حلوله الذي أقر به المديون . { ذلكم } إشارة إلى أن تكتبوه . { أقسط عند الله } أكثر قسطا . { وأقوم للشهادة } وأثبت لها وأعون على إقامتها ، وهما مبنيان من أقسط وأقام على غير قياس ، أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم ، وإنما صحت الواو في { أقوم } كما صحت في التعجب لجموده . { وأدنى ألا ترتابوا } وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود ونحو ذلك . { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } استثناء من الأمر بالكتابة والتجارة الحاضرة تعم المبايعة بدين أو عين ، وإدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد أي : إلا أن تتبايعوا يدا بيد فلا بأس أن لا تكتبوا ، لبعده عن التنازع والنسيان . ونصب عاصم { تجارة } على أنه الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كقوله :
بني أسد هل تعلمون بلاءنا *** إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
ورفعها الباقون على أنها الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامة . { وأشهدوا إذا تبايعتم } هذا التبايع ، أو مطلقا لأنه أحوط . والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة . وقيل : إنها للوجوب ثم اختلف في إحكامها ونسخها . { ولا يضار كاتب ولا شهيد } يحتمل البناءين ، ويدل عليه أنه قرئ { ولا يضار } بالكسر والفتح . وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتحريف والتغيير في الكتب والشهادة ، أو النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهم ويكلفا الخروج عما حد لهما ، ولا يعطى الكاتب جعله ، والشهيد مؤنة مجيئه حيث كان . { وإن تفعلوا } الضرار أو ما نهيتم عنه . { فإنه فسوق بكم } خروج عن الطاعة لا حق بكم { واتقوا الله } في مخالفة أمره ونهيه . { ويعلمكم الله } أحكامه المتضمنة لمصالحكم . { والله بكل شيء عليم } كرر لفظه الله في الجمل الثلاث لاستقلالها ، فإن الأولى حث على التقوى ، والثانية وعد بإنعامه ، والثالثة تعظيم لشأنه . ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } قال ابن عباس رضي الله عنه نزلت هذه الآية في السلم خاصة .
قال القاضي أبو محمد : معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه الآية ، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعاً( {[2759]} ) ، وبين تعالى بقوله : { بدين } ما في قوله : { تداينتم } من الاشتراك ، إذ قد يقال في كلام العرب : تداينوا بمعنى جازى بعضهم بعضاً( {[2760]} ) . ووصفه الأجل بمسمى دليل على أن المجهلة لا تجوز ، فكأن الآية رفضتها ، وإذا لم تكن تسمية وحد فليس أجل ، وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها فرض بهذه الآية ، وذهب الربيع إلى أن ذلك وجب بهذه الألفاظ ، ثم خففه الله تعالى بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } [ البقرة : 283 ] وقال الشعبي : كانوا يرون أن قوله : { فإن أمن } ناسخ لأمره بالكتب ، وحكى نحوه ابن جريج ، وقاله ابن زيد ، وروي عن أبي سعيد الخدري ، وقال جمهور العلماء : الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب( {[2761]} ) ، وإذا كان الغريم تقياً فما يضره الكتاب وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف( {[2762]} ) في دينه وحاجة صاحب الحق ، وقال بعضهم : إن أشهدت فحزم ، وإن ائتمنت ففي حل وسعة ، وهذا هو القول الصحيح ، ولا يترتب نسخ في هذا لأن الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع ، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس ، ثم علم تعالى أنه سيقع الائتمان فقال إن وقع ذلك { فليؤد } [ البقرة : 283 ] الآية ، فهذه وصية للذين عليهم الديون ، ولم يجزم تعالى الأمر نصاً بأن لا يكتب إذا وقع الائتمان ، وأما الطبري رحمه الله فذهب إلى أن الأمر بالكتب فرض واجب وطول في الاحتجاج ، وظاهر قوله أنه يعتقد الأوامر على الوجوب حتى يقوم دليل على غير ذلك .
واختلف الناس في قوله تعالى : { وليكتب بينكم } فقال عطاء وغيره : واجب على الكاتب أن يكتب ، وقال الشعبي وعطاء أيضاً : إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب ، وقال السدي : هو واجب مع الفراغ ، وقوله تعالى : { بالعدل } معناه بالحق والمعدلة( {[2763]} ) ، والباء متعلقة بقوله تعالى : { وليكتب } ، وليست متعلقة ب { كاتب } لأنه كان يلزم أن لا كتب وثيقة إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبي والعبد والمسخوط إذا أقاموا فقهها ، أما أن المنتصبين لكتبها لا يتجوز للولاة ما أن يتركوهم إلا عدولاً مرضيين ، وقال مالك رحمه الله : لا يكتب الوثائق من الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون ، لقوله تعالى { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } ثم نهى الله تعالى الكتاب عن الإباية ، وأبى يأبى شاذ لم يجىء إلا قلى يقلى( {[2764]} ) وأبى يأبى ، ولا يجيء فعل يفعل بفتح العين في المضارع إلا إذا رده حرف حلق ، قال الزجّاج والقول في أبى أن الألف فيه أشبهت( {[2765]} ) الهمزة فلذلك جاء مضارعه يفعل بفتح العين ، وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله { ولا يأب } منسوخ بقوله
{ لا يضار كاتب ولا شهيد }( {[2766]} ) [ البقرة : 282 ] والكاف في قوله { كما علمه الله } متعلقة بقوله : { أن يكتب } المعنى كتباً كما علمه الله ، هذا قول بعضهم ، ويحتمل أن تكون { كما } متعلقة بما في قوله { ولا يأب } من المعنى أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل الله عليه( {[2767]} ) ، ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاماً عند قوله : { أن يكتب } ، ثم يكون قوله : { كما علمه الله } ابتداء كلام ، وتكون الكاف متعلقة بقوله { فليكتب }( {[2768]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وأما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على معين ، ولا وجوب الندب ، بل له الامتناع إلا إن استأجره( {[2769]} ) ، وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الحاضر( {[2770]} ) ، وأما الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى : { وافعلوا الخير }( {[2771]} ) [ الحج : 77 ] وهو من باب عون الضائع .
{ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ }
أمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء( {[2772]} ) ، لأن الشهادة إنما تكون بحسب إقراره ، وإذا كتبت الوثيقة وأقرّ بها فهو كإملاء له . وأمره الله بالتقوى فيما يملي ونهي عن أن { يبخس } شيئاً من الحق ، والبخس النقص بنوع من المخادعة والمدافعة ، وهؤلاء الذين أمروا بالإملاء هم المالكون لأنفسهم إذا حضروا ، ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمن .
فقال { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } وكون الحق يترتب في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك( {[2773]} ) ، والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها ، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج ، والسفه الخفة ، ومنه قول الشاعر وهو ذو الرمة : [ الطويل ] .
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ . . . أعالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّواسِمِ( {[2774]} )
وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب أو وصي ، وذلك هو وليه ، ثم قال : { أو ضعيفاً } والضعيف هو المدخول في عقله الناقص الفطرة ، وهذا أيضاً قد يكون وليه أباً أو وصياً ، الذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير ، و { وليه } وصيه أو أبوه والغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك من العذر ، و { وليه } وكيله ، وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء ، والأوْلى أنه ممن لا يستطيع ، فهذه أصناف تتميز ، ونجد من ينفرد بواحد واحد منها ، وقد يجتمع منها اثنان في شخص واحد ، وربما اجتمعت كلها في شخص ، وهذا الترتيب ينتزع من قول مالك وغيره من العلماء الحذاق ، وقال بعض الناس : السفيه الصبي الصغير ، وهذا خطأ ، وقال قوم الضعيف هو الكبير الأحمق ، وهذا قول الحسن ، وجاء الفعل مضاعفاً في قوله : { أن يمل } لأنه لو فك لتوالت حركات كثيرة ، والفك في هذا الفعل لغة قريش .
و { بالعدل } معناه بالحق وقصد الصواب ، وذهب الطبري إلى أن الضمير في { وليه } عائد على { الحق } ، وأسند في ذلك عن الربيع وعن ابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي شيء لا يصح عن ابن عباس ، وكيف تشهد على البينة على شيء وتدخل مالاً في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين ؟ هذا شيء ليس في الشريعة ، والقول ضعيف إلا أن يريد قائله أن الذي لا يستطيع { أن يمل } بمرضه إذا كان عاجزاً عن الإملاء فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز ، فإذا كمل الإملاء أقر به ، هذا معنى لم تعن( {[2775]} ) الآية إليه ، ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل بمرض .
{ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى }
الاستشهاد : طلب الشهادة( {[2776]} ) وعبر ببناء( {[2777]} ) مبالغة في { شهيدين } دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه ، فكأنها إشارة إلى العدالة : وقوله تعالى : { من رجالكم } نص في رفض الكفار والصبيان والنساء ، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم . واختلف العلماء فيهم فقال شريح وإسحاق بن راهويه( {[2778]} ) وأحمد بن حنبل : شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً ، وغلبوا لفظ الآية . وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء : لا تجوز شهادة العبد ، وغلبوا نقص الرق( {[2779]} ) ، واسم كان الضمير الذي في قوله { يكونا } .
والمعنى في قول الجمهور ، فإن لم يكن المستشهد رجلين أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما ، وقال قوم : بل المعنى فإن لم يوجد رجلان ، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال ، وهذا قول ضعيف ، ولفظ الآية لا يعطيه بل الظاهر منه قول الجمهور( {[2780]} ) ، وقوله : { فرجل وامرأتان } مرتفع بأحد ثلاثة أشياء ، إما أن يقدر( {[2781]} ) فليستشهد رجل وامرأتان ، وإما فليكن رجل وامرأتان ويصح أن تكون { يكونا } هذه التامة والناقصة ، ولكن التامة أشبه ، لأنه يقل الإضمار ، وإما فرجل وامرأتان يشهدون ، وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله : { أن تضل إحداهما } وروى حميد بن عبد الرحمن عن بعض أهل مكة أنهم قرؤوا «وامرأْتان » بهمز الألف ساكنة .
قال ابن جني : لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة على غير قياس وإنما خففوا الهمزة( {[2782]} ) فقرب من الساكن ، ثم بالغوا في ذلك فصارت الهمزة ألفاً ساكنة كما قال الشاعر : [ الطويل ] .
يقولون جهلاً لَيْسَ للشَّيخَ عَيِّلٌ . . . لَعَمْري لَقَدْ أعْيَلْتَ وَأن رَقُوب( {[2783]} )
يريد «وأنا » ، ثم بعد ذلك يدخلون الهمزة على هذه الألف كما هي . وهي ساكنة وهي هذا نظر ، ومنه قراءة ابن كثير «عن ساقيها »( {[2784]} ) وقولهم يا ذو خاتم قال أبو الفتح : فإن قيل شبهت الهمزة بالألف في أنها ساوتها في الجهر والزيادة والبدل والحذف وقرب المخرج وفي الخفاء فقول مخشوب( {[2785]} ) لا صنعة فيه ، ولا يكاد يقنع بمثله ، وقوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } رفع في موضع الصفة لقوله عز وجل : { فرجل وامرأتان }( {[2786]} ) .
قال أبو علي : ولا دخل في هذه الصفة قوله : { شهيدين } اختلاف الإعراب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حكم لفظي ، وأما المعنى فالرضى شرط في الشهيدين كما هو في الرجل والمرأتين .
قال ابن بكير وغيره : قوله { ممن ترضون } مخاطبة للحكام .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير نبيل ، إنما الخطاب لجميع الناس ، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام ، وهذا( {[2787]} ) كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض ، وفي قوله : { ممن ترضون } دليل على أن في الشهود من لا يرضى ، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا بمحمولين على العدالة حتى تثبت لهم . وقرأ حمزة وحده : «إن تَضِل » بكسر الألف وفتح التاء وكسر الضاد «فتذَكَرُ » بفتح الذال ورفع الراء وهي قراءة الأعمش ، وقراها الباقون «أن تضل » بفتح الألف «فتذكرَ » بنصب الراء . غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففا الذال والكاف ، وشددها الباقون( {[2788]} ) ، وقد تقدم القول فيما هو العامل في قوله : { أن تضل }( {[2789]} ) ، و { أن } مفعول من أجله( {[2790]} ) والشهادة لم تقع لأن تضل إحداهما . وإنما وقع إشهاد امرأتين لأن تذكر إحداهما إن ضلت الأخرى . قال سيبويه : وهذا كما تقول : أعددت هذه الخشبة أن يميل هذا الحائط فأدعمه( {[2791]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولما كانت النفوس مستشرقة إلى معرفة أسباب الحوادث ، قدم في هذه العبارة ذكر سبب الأمر المقصود أن يخبر به( {[2792]} ) ، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام بمرادها ، وهذا من أبرع أنواع الفصاحة ، إذ لو قال رجل لك : أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها الحائط ، لقال السامع : ولم تدعم حائطاً قائماً ؟ فيجب ذكر السبب فيقال : إذا مال . فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة . وقال أبو عبيد : معنى { تضل } تنسى .
قال القاضي أبو محمد : والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء . ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالاً ، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال : ضل فيها( {[2793]} ) ، فأما قراءة حمزة فجعل { أن } الجزاء ، والفاء في قوله { فتذكر } جواب الجزاء ، وموضع الشرط وجوابه رفع بكونه صفة للمذكور ، وهما المرأتان ، وارتفع «تذكر » كما ارتفع قوله تعالى :
{ ومن عاد فينتقم الله منه }( {[2794]} ) [ المائدة : 95 ] هذا قول سيبويه .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر( {[2795]} ) ، وأما نصب قوله «فتذكرَ » على قراءة الجماعة فعلى العطف على الفعل المنصوب ب { أن } ، وتخفيف الكاف على قراءة أبي عمرو وابن كثير هو بمعنى تثقيله من الذكر ، يقال : ذكروأذكر ُتعديه بالتضعيف أو بالهمز ، وروي عن أبي عمرو بن العلاء وسفيان بن عيينة( {[2796]} ) أنهما قالا : معنى قوله : «فتذكر » بتخفيف الكاف أي تردها ذكراً في الشهادة ، لأن شهادة امرأة نصف شهادة ، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر ، وهذا تأويل بعيد ، غير فصيح ، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر ، وذكرت بشد الكاف يتعدى إلى مفعولين ، وأحدهما في الآية محذوف ، تقديره فتذكر إحداهما الأخرى «الشهادة » ، التي ضلت عنها ، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر : «أن تُضَل » بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى ، هكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني ، وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة ، تقول : أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما ، وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد «فتذكِرُ » بتخفيف الكاف المكسورة ورفع الراء ، وتضمنت هذه الآية جواز شهادة امرأتين بشرط اقترانهما برجل( {[2797]} ) ، واختلف قول مالك في شهادتهما ، فروى عنه ابن وهب أن شهادة النساء لا تجوز إلا حيث ذكرها الله في الدين ، أو فيما يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك ، وروى عنه ابن القاسم أنها تجوز في الأموال والوكالات على الأموال وكل ما جر إلى مال ، وخالف في ذلك أشهب وغيره ، وكذلك إذا شهدن على ما يؤدي إلى غير مال ، ففيها قولان في المذهب .
{ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ }
قال قتادة والربيع وغيرهما : معنى الآية : إذا دعوا أن يشهدوا فيتقيد حق بشهادتهم ، وفي هذا المعنى نزلت ، لأنه كان يطوف الرجل في القوم الكثير يطلب من يشهد له فيتحرجون هم عن الشهادة فلا يقوم معه أحد ، فنزلت الآية في ذلك ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الآية جمعت أمرين : لا تأب إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة ، ولا إذا دعيت إلى أدائها ، وقاله ابن عباس ، وقال مجاهد : معنى الآية ، لا تأب إذا دعيت إلى أداء شهادة قد حصلت عندك ، وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا ، قال مجاهد : فأما إذا دعيت لتشهد أولاً ، فإن شئت فاذهب ، وإن شئت فلا تذهب( {[2798]} ) ، وقاله لاحق بن حميد( {[2799]} ) وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم .
قال القاضي أبو محمد : والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب ، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والامن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب ، وله أن يتخلف لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له ، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب ، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها ، لا سيما إن كانت محصلة ، وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الظرف آكد لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء ، { ولا تسأموا } معناه تملوا ، و { صغيراً أو كبيراً } حالان من الضمير في { تكتبوه } ، وقد الصغير اهتماماً به ، وهذا النهي الذي جاء عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم( {[2800]} ) ، فخيف عليهم أن يملوا الكتب( {[2801]} ) و { أقسط } معناه أعدل ، وهذا أفعل من الرباعي وفيه شذوذ( {[2802]} ) ، فانظر هل هو من قسُط بضم السين ؟ كما تقول : «أكرم » من «كرُم » يقال : { أقسط } بمعنى عدل وقسط بمعنى جار ، ومنه قوله تعالى :
{ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً }( {[2803]} ) [ الجن : 15 ] ومن قدر قوله تعالى : { وأقوم للشهادة } بمعنى وأشد إقامة فذلك أيضاً أفعل من الرباعي ، ومن قدرها من قام بمعنى اعتدل زال عن الشذوذ ، { وأدنى } معناه أقرب ، و { ترتابوا } معناه ، تشكوا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «يسأموا » و «يكتبوا » و «يرتابوا » كلها بالياء على الحكاية عن الغائب .
{ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
لما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد( {[2804]} ) ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه في كثير كالأملاك ونحوها . وقال السدي والضحاك : هذا فيما كان يداً بيد تأخذ وتعطي ، وأن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع ، وقول تعالى : { تديرونها بينكم } يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض ، ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا تقوى( {[2805]} ) البينونة به ولا يعاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك بمبايعة الدين وقرأ عاصم وحده «تجارةً » نصباً ، وقرأ الباقون «تجارةٌ » رفعاً ، قال أبو علي وأشك في ابن عامر ، وإذا أتت بمعنى حدث ووقع غنيت عن خبر ، وإذا خلع منها معنى الحدوث لزمها الخبر المنصوب ، فحجة من رفع تجارة إن كان بمعنى حدث ووقع ، وأما من نصب فعلى خبر كان ، والاسم مقدر تقديره عند أبي علي إما المبايعة التي دلت الآيات المتقدمة عليها ، وإما { إلا أن تكون } التجارة { تجارة } ، ويكون ذلك مثل قول الشاعر : [ الطويل ] .
فدىً لبني ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقتي . . . إذا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
قال القاضي أبو محمد : هكذا أنشد أبي علي البيت ، وكذلك أبو العباس المبرد ، وأنشده الطبري : [ الطويل ]
ولله قومي أيُّ قومٍ لحرّةٍ . . . إذَا كَان يوماً ذا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا( {[2806]} )
وأنشده سيبويه بالرفع إذا كان يوم ذو كواكب .
وقوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } قال الطبري معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره ، واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو على الندب ؟ فقال الحسن والشعبي وغيرهما : ذلك على الندب ، وقال ابن عمرو والضحاك : ذلك على الوجوب ، وكان ابن عمر يفعله في قليل الأشياء وكثيرها ، وقاله عطاء ورجح ذلك الطبري .
قال القاضي أبو محمد : والوجوب في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد ، وقد يكون عادة في بعض البلاد ، وقد يستحيي من العالم والرجل والكبير الموقر فلا يشهد عليه ، فيدخل ذلك كله في الائتمان ، ويبقى الأمر بالإشهاد ندباً لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا .
وحكى المهدي عن قوم أنهم قالوا : { وأشهدوا إذا تبايعتم } منسوخ بقوله { فإن أمن } [ البقرة : 283 ] ، وذكره مكي عن أبي سعيد الخدري .
واختلف الناس في معنى قوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شيهد } فقال الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم . المعنى ولا يضار الكاتب بأن يكتب ما لم يمل عليه ولا يضار الشاهد بأن يزيد في الشهادة أو ينقص منها ، وقال مثله ابن عباس ومجاهد وعطاء إلا أنهم قالوا : لا يضار الكاتب والشاهد بأن يمتنعا .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الضرر يعم هذا والقول الأول ، والأصل في يضار على هذين القولين «يضارِر » بكسر الراء ثم وقع الإدغام وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك والسدي وطاوس وغيرهم : معنى الآية { ولا يضار كاتب ولا شهيد } بأن يؤذيه طالب الكتبة أو الشهادة فيقول اكتب لي أو اشهد لي في وقت عذر أو شغل للكتب أو الشاهد فإذا اعتذرا بعذرهما حرج وآذاهما ، وقال خالفت أمر الله ونحو هذا من القول ، ولفظ المضارة إذا هو من اثنين يقتضي هذه المعاني كلها( {[2807]} ) ، والكاتب والشهيد على القول الأول رفع بفعلهما وفي القول الثاني رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأصل { يضار } على القول الثاني «يضارَر » بفتح الراء ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن مسعود ومجاهد أنهم كانوا يقرؤون «ولا يضارَر » بالفك وتفح الراء الأولى ، وهذا على معنى ، أن يبدأهما بالضرر طالب الكتبة والشهادة ، وذكر ذلك الطبري عنهم في ترجمة هذا القول وفسر القراءة بهذا المعنى فدل ذلك على أن الراء الأولى مفتوحة كما ذكرنا ، وحكى أبو عمرو الداني عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ومجاهد أن الراء الأولى مكسورة ، وحكى عنهم أيضاً فتحها ، وفك الفعل هي لغة أهل الحجاز والإدغام لغة تميم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وعمرو بن عبيد «ولا يضارْ » بجزم الراء ، قال أبو الفتح : تسكين الراء مع التشديد فيه نظر ، ولكن طريقه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وقرأ عكرمة «ولا يضارر » بكسر الراء الأولى «كاتباً ولا شهيداً » بالنصب أي لا يبدأهما صاحب الحق بضرر ، ووجوه المضارة لا تنحصر ، ورى مقسم( {[2808]} ) عن عكرمة أنه قرأ «ولا يضارُ » بالإدغام وكسر الراء للالتقاء ، وقرأ ابن محيصن «ولا يضارِ » برفع الراء مشددة ، قال ابن مجاهد( {[2809]} ) : ولا أدري ما هذه القراءة ؟
قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف ، وذلك على أن تجعل { لا } نفياً أي ليس ينبغي أن يضار كما قال الشاعر : [ الطويل ]
على الْحَكَم الْمَأْتِيّ يوماً إذَا انْقَضَى . . . قَضيَّتَهُ أَنْ لاَ يَجُوزَ وَيَقْصِدُ( {[2810]} )
فرفع ويقصد على إرادة وينبغي أن يقصد فكذلك يرتفع «ولا يضارُّ » على معنى وينبغي أن لا يضار ، قال : وإن شئت كان لفظ خبر على معنى النهي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قريب من النظر الأول .
وقوله تعالى : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } من جعل المضارة المنهي عنها زيادة الكاتب والشاهد فيما أملي عليهما أو نقصهما منه فالفسوق على عرفه في الشرع وهو مواقعة الكبائر ، لأن هذا من الكذب المؤذي في الأموال والأبشار ، وفيه إبطال الحق ، ومن جعل المضارة المنهي عنها أذى الكتاب والشاهد بأن يقال لهما : أجيبا ولا تخالفا أمر الله أو جعلها امتناعهما إذا دعيا ، فالفسوق على أصله في اللغة الذي هو الخروج من شيء كما يقال فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها ، وفسقت الرطبة( {[2811]} ) فكأن فاعل هذا فسق عن الصواب والحق في هذه النازلة ، ومن حيث خالف أمر الله في هذه الآية فيقرب الأمر من الفسوق العرفي في الشرع ، وقوله { بكم } تقديره فسوق حال بكم ، وباقي الآية موعظة وتعديد نعمه والله المستعان والمفضل لا رب غيره( {[2812]} ) ، وقيل إن معنى الآية الوعد بأن من اتقى علم الخير وألهمه( {[2813]} ) .