قوله تعالى : { وسارعوا } . قرأ أهل المدينة والشام سارعوا بلا واو .
قوله تعالى : { إلى مغفرة من ربكم } . أي بادروا وسابقوا إلى الأعمال التي توجب المغفرة . قال ابن عباس رضي الله عنهما إلى الإسلام ، وروى عنه إلى التوبة ، وبه قال عكرمة ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أداء الفرائض ، وقال أبو العالية إلى الهجرة ، وقال الضحاك إلى الجهاد ، وقال مقاتل إلى الأعمال الصالحة . وروي عن انس بن مالك أنها التكبيرة الأولى .
قوله تعالى : { وجنة } . أي وإلى جنة .
قوله تعالى : { عرضها السماوات والأرض } . أي عرضها كعرض السماوات والأرض ، كما قال في سورة الحديد ( وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) أي سعتها ، وإنما ذكر العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأكثر والأغلب أكثر من عرضه ، يقول : هذه صفة عرضها فكيف طولها ؟ قال الزهري : إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله ، وهذا على التمثيل لا أنها كالسماوات والأرض لا غير . معناه كعرض السماوات السبع والأرضين السبع عند ظنكم ، كقوله تعالى ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) يعني عند ظنكم ، كقوله وإلا فهما زائلتان ، وروي عن طارق بن شهاب أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب وعنده أصحابه رضي الله عنهم قالوا : أرأيتم قوله ( وجنة عرضها السماوات والأرض ) فأين النار ؟ فقال عمر : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل ؟ فقالوا : إنها لمثلها في التوراة ، ومعناه أنه حيث يشاء الله . فإن قيل : قد قال الله تعالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) وأراد بالذي وعدنا الجنة ، فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضها السماوات والأرض ؟ قيل : إن باب الجنة في السماء وعرضها السماوات والأرض ، كما أخبر ، وسئل انس بن مالك رضي الله عنه عن الجنة أفي السماء أم في الأرض ؟ فقال أي أرض وسماء تسع الجنة ؟ فقيل :فأين هي ؟ قال فوق السماوات السبع تحت العرش . قال قتادة : كانوا يرون الجنة فوق السماوات السبع تحت العرش ، وأن جهنم تحت الأرضين السبع .
ثم أمرهم - سبحانه - بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة التى توصلهم إلى مغفرة الله ورضوانه فقال : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } .
قال الآلوسى : وسبب نزول هذه الآية على ما أخرجه عبد بن حميد وغيره عن عطاء بن أبى رباح : أن المسلمين قالوا : يا رسول الله . بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا ، كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة فى عتبة داره أجدع أنفك ، أجدع أذنك ، افعل كذا وكذا فسكت صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآيات إلى قوله { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } الآية فقال النبى صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بخير من ذلكم ثم تلاها عليهم " .
وقوله : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } من السرعة بمعنى المبادرة إلى الشىء بدون تأخير أو تردد . والكلام على حذف مضاف : أى سارعوا وبادروا إلى ما يوصلكم إلى ما به تظفرون بمغفرة ربكم ورحمته ورضوانه وجنته ، بأن تقوموا بأداء ما كلفكم به من واجبات ، وتنتهوا عما نهاكم عنه من محظورات .
ولقد قرأ نافع وابن عامر بغير واو ، وهى قراءة أهل المدينة والشام . والباقون بالواو ، وهى قراءة أهل مكة والعراق .
فمن قرأ بالواو ، جعل قوله - تعالى - { وسارعوا } معطوفا على قوله { وَأَطِيعُواْ } أى : أطيعوا الله والرسول وسارعوا إلى مغفرة من ربكم .
ومن قرأ بغير واو جعل قوله " سارعوا " مستأنفا ، إذ هو بمنزلة البيان أو بدل الاشتمال .
و { مِّن } فى قوله { مِّن رَّبِّكُمْ } ابتدائية ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة للمغفرة أى مغفرة كائنة من ربكم . .
ولقد عظم - سبحانه - بذلك شأن هذه المغفرة التى ينبغى طلبها بإسراع ومبادرة ، بأن جاء بها منكرة ، وبأن وصفها بأنها كائنة منه - سبحانه - هو الذى خلق الخلق بقدرته ، ورباهم برعايته .
ووصف - سبحانه - الجنة بأن عرضها السموات والأرض على طريقة التشبيه البليغ ، بدليل التصريح بحرف التشبيه فى قوله - تعالى - { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض } قال الفخر الرازى ما ملخصه : وفى معنى أن عرض الجنة مثل عرض السموات والأرض وجوه منها : أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا ، بحيث تكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذا غاية فى السعة لا يعلمها إلا الله .
ومنها أن المقصود المبالغة فى وصف السعة للجنة ، وذلك لأنه لا شىء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } فإن أطول الأشياء بقاء عندنا هو السموات والأرض ، فخوطبنا على وفق ما عرفناه ، فكذا هنا " .
وخص - سبحانه - العرض بالذكر ، ليكون أبلغ فى الدلالة على عظمها واتساع طولها ، لأنه إذا كان عرضها كذا ، فإن العقل يذهب كل مذهب فى تصور طولها " لأن العرض فى العادة أقل من الطول . وذلك كقوله - تعالى - فى صفة فرش الجنة { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } لأنه إذا كانت بطانة الفرش من الحرير فكيف يكون ما فوق البطانة مما تراه الأعين ؟ .
قال القفال : ليس المراد بالعرض ها هنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب : بلاد عريضى ، ويقال هذه دعوى عريضة أي واسعة عظيمة . والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ، وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة " .
قال ابن كثير : وقد روينا فى مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " إنك دعوتنى إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم : سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار " .
وعن أبى هريرة أن رجلا جاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أرايت قوله - تعالى - : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض } فأين النار قال : أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شىء فأين النهار ؟ قال : حيث شاء الله قال صلى الله عليه وسلم : " وكذلك النار تكون حيث شاء الله " " .
وقوله - تعالى - { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أى هيئت للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن محارم الله ، وجعلوا بينهم وبينها وقاية وساترا ، وخافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى .
ثم نَدَبهم إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات والمسارعة إلى نَيْل القُرُبات ، فقال : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي : كما أعدّت النار للكافرين . وقد قيل : إن معنى قوله : { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } تنبيها{[5670]} على اتساع طولها ، كما قال في صفة فرش الجنة : { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] أي : فما ظنك بالظهائر ؟ وقيل : بل عرضها كطولها ؛ لأنها قبة تحت العرش ، والشيء المُقَبَّب والمستدير عَرْضُه كطوله . وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح : " إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الجنة فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ " {[5671]} .
وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } الآية [ رقم21 ] .
وقد روينا في مسند الإمام أحمد : أنّ هِرَقْل كَتَبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إنك دَعَوْتني إلى جنة عَرْضُها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال النبي{[5672]} صلى الله عليه وسلم : " سُبْحَانَ اللهِ ! فأين{[5673]} الليل إذَا جَاءَ النَّهَارُ ؟ " {[5674]} .
وقد رواه ابنُ جرير فقال : حدثني يونس ، أنبأنا ابنُ وَهْب ، أخبرني مسلم بن خالد ، عن أبي خُثَيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مُرَّة{[5675]} قال : لَقِيت التَّنوخي رَسُولَ هِرَقْل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحِمْص ، شيخا كبيرا فَسَدَ ، قال : قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هِرَقْل ، فنَاول الصحيفة رَجُلا عن يساره . قال : قلت : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية . فإذا كتاب صاحبي : " إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين ، فأين النار ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سُبْحَانَ الله ! فأيْنَ اللَّيْلُ إذَا جَاءَ النَّهَارُ ؟ " {[5676]} .
وقال الأعمش ، وسفيان الثوري ، وشُعْبَة ، عن قيس بن مسلم{[5677]} عن طارق بن شهاب ، أن ناسا من اليهود سألوا عُمَرَ بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال عمر [ رضي الله عنه ]{[5678]} أرأيتم إذا جاء الليل أين النهار ؟ وإذا جاء النهار أين الليل ؟ فقالوا : لقد نزعت مثْلَها من التوراة .
رواه ابن جرير من الثلاثة الطرق{[5679]} {[5680]} ثم قال : حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا جعفر بن بُرْقَان ، أنبأنا يزيد بن الأصم : أن رجلا من أهل الكتاب قال : يقولون : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } فأين النار ؟ فقال ابن عباس : أين يكون الليل إذا جاء النهار ، وأين يكون النهار إذا جاء الليل ؟{[5681]} .
وقد رُوي هذا مرفوعا ، فقال البَزّار : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم ، عن عَمّه يزيد بن الأصَم ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت قوله تعالى : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } فأين النار ؟ قال : " أرَأيْتَ اللَّيْلَ إذا جَاءَ لَبسَ كُلَّ شَيْءٍ ، فَأيْنَ النَّهَار ؟ " قال : حيث شاء الله . قال : " وَكَذِلَكَ{[5682]} النَّارُ تكون حيث شاء الله عز وجل " {[5683]} .
أحدهما : أن يكون المعنى في ذلك : أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان ، وإن كنا لا نعلمه ، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل ، وهذا{[5684]} أظهر كما تقدم في{[5685]} حديث أبي هريرة ، عن{[5686]} البزار .
الثاني : أن يكون المعنى : أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب ، فإن الليل يكون من الجانب الآخر ، فكذلك الجنة في أعلى عليّين فوق السماوات تحت العرش ، وعرضها كما قال الله ، عز وجل : { كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [ الحديد : 21 ] والنار في أسفل سافلين . فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض ، وبين وجود النار ، والله أعلم .
قرأ نافع وابن عامر : «سارعوا » بغير واو ، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام ، وقرأ باقي السبعة بالواو ، قال أبو علي : كلا الأمرين شائع مستقيم ، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة ، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو ، وأمال الكسائي الألف من قوله { سارعوا } ومن قوله { يسارعون في الخيرات } [ المؤمنون : 61 ] و { ونسارع لهم في الخيرات }{[3520]} في كل ذلك ، قال أبو علي : والإمالة هنا حسنة لوقوع الراء المكسورة بعدها ، والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة ، إذ الناس كأن كل واحد يسرع ليصل قبل غيره ، فبينهم في ذلك مفاعلة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { فاستبقوا الخيرات }{[3521]} وقوله { إلى مغفرة } معناه : سارعوا بالتقوى والطاعة والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر الله لكم فيها ، أي يستر ذنوبكم بعفوه عنها وإزالة حكمها ، ويدخلكم جنة ، قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير { سارعوا إلى مغفرة } ، معناه : إلى تكبيرة الإحرام مع الإمام .
قال الفقيه القاضي : هذا مثال حسن يحتذى عليه في كل طاعة ، وقوله تعالى : { عرضها السماوات والأرض } تقديره : كعرض السماوات والأرض ، وهذا كقوله تعالى : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة }{[3522]} أي كخلق نفس واحدة وبعثها ، فجاء هذا الاقتضاب المفهوم الفصيح ، ومنه قول الشاعر : [ ذو الخرق الطهوي ] : [ الوافر ] :
حسبتُ بغامَ راحلتي عنَاقا . . . وما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بِالعنَاقِ{[3523]}
كأنَّ غَدِيرَهُمْ بِجَنُوبِ سَلْيٍ . . . نعَامٌ فَاقَ فيَ بَلَدٍ قِفَارٍ{[3524]}
وأما معنى قوله تعالى : { عرضها السماوات والأرض } فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب ، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تقرن السماوات والأرضون بعضها إلى بعض كما يبسط الثوب ، فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا الله ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أن بين المصراعين من أبواب الجنة مسيرة أربعين سنة ، وسيأتي عليها يوم يزدحم الناس فيها كما تزدحم الإبل إذا وردت خمصاً ظماء »{[3525]} وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : «أن في الجنة شجرة يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام لا يقطعها »{[3526]} فهذا كله يقوي قول ابن عباس وهو قول الجمهور ، إن الجنة أكبر من هذه المخلوقات المذكورة وهي ممتدة عن السماء حيث شاء الله تعالى ، وذلك لا ينكر ، فإن في حديث النبي عليه السلام : «ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة من الأرض » ){[3527]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فهذه مخلوقات أعظم بكثير جداً من السماوات والأرض ، وقدرة الله تعالى أعظم من ذلك كله ،
«وروى يعلى بن أبي مرة{[3528]} قال : لقيت التنوخي{[3529]} رسول هرقل{[3530]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص ، شيخاً كبيراً قد فند{[3531]} فقال قدمت على النبي عليه السلام بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلاً عن يساره فقلت : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية ، فإذا كتاب هرقل : إنك كتبت إليَّ تدعوني إلى { جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } ، فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله ، فأين الليل إذا جاء النهار ؟ » {[3532]} وروى قيس بن مسلم{[3533]} عن طارق بن شهاب{[3534]} قال : جاء رجلان من اليهود من نجران إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال أحدهما : تقولون : { جنة عرضها السماوات والأرض } ، أين تكون النار ؟ فقال عمر رضي الله عنه أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل ؟ والليل إذا جاء أين يكون النهار ؟ فقال اليهودي : إنه لمثلها في التوراة فقال له صاحبه : لم أخبرته ؟ دعه إنه بكل موقن .
قال القاضي أبو محمد : فهذه الآثار كلها هي في طريق واحد ، من أن قدرة الله تتسع لهذا كله وخص العرض بالذكر لأنه يدل متى ذكر على الطول ، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض ، بل قد يكون الطويل يسير العرض كالخيط ونحوه ، ومن ذلك قول العرب بلاد عريضة ، وفلاة عريضة ، وقال قوم : قوله تعالى : { عرضها السماوات والأرض } معناه : كعرض السماوات والأرض ، كما هي طباقاً ، لا بأن تقرن كبسط الثياب ، فالجنة في السماء ، وعرضها كعرضها وعرض ما وراءها من الأرضين إلى السابعة ، وهذه الدلالة على العظم أغنت عن ذكر الطول ، وقال قوم : الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة ، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى ، حسنت العبارة عنها بعرضها السماوات والأرض ، كما تقول لرجل : هذا بحر ، ولشخص كبير من الحيوان : هذا جبل ، ولم تقصد الآية تحديد العرض .
قال القاضي أبو محمد : وجلب مكي هذا القول غير ملخص ، وأدخل حجة عليه قول العرب : أرض عريضة وليس قولهم ، أرض عريضة ، مثل قوله : { عرضها السماوات والأرض } إلا في دلالة ذكر العرض على الطول فقط ، وكذلك فعل النقاش وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفارين يوم أحد : لقد ذهبتم فيها عريضة{[3535]} ، وقال ابن فورك : الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال : إن الجنة لم تخلق بعد ، وكذلك النار ، وهو قول ضعيف ، وجمهور العلماء على أنهما قد خلقتا ، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله ، { أعدت للمتقين } و { أعدت للكافرين }{[3536]} وغير ذلك ، وهو نص في الأحاديث كحديث الإسراء{[3537]} وغيره ، مما يقتضي أن ثم جنة قد خلقت ، وأما من يقول : يزاد فيهما فلا ترد عليه الأحاديث ، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر ، و { أعدت } معناه : يسرت وانتظروا بها .