قوله تعالى : { يوم نطوي السماء } قرأ أبو جعفر : تطوى السماء بالتاء ، وضمها وفتح الواو والسماء رفع على المجهول ، وقرأ العامة بالنون وفتحها وكسر الواو ، والسماء نصب ، { كطي السجل للكتب } قرأ حمزة و الكسائي وحفص عن عاصم : للكتب على الجمع ، وقرأ الآخرون : للكتاب على الواحد ، واختلفوا في السجل ، فقال السدي : السجل ملك يكتب أعمال العباد ، واللام زائدة ، أي كطي السجل الكتب كقوله ( ردف لكم ) اللام فيه زائدة ، وقال ابن عباس ومجاهد والأكثرون : السجل الصحيفة للكتب أي لأجل ما كتب معناه : كطي الصحيفة على مكتوبها ، والسجل اسم مشتق من المساجلة وهي المكاتبة ، والطي هو الدرج الذي هو ضد النشر ، { كما بدأنا أول خلق نعيده } أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة ، نظيره قوله تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنكم محشورون حفاة عراة غرلا } ثم قرأ : { كما بدأنا أول خلق نعيده } . { وعدا علينا إنا كنا فاعلين } يعني الإعادة والبعث .
{ 104 - 105 } { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات - على عظمها واتساعها - كما يطوي الكاتب للسجل أي : الورقة المكتوب فيها ، فتنثر نجومها ، ويكور شمسها وقمرها ، وتزول عن أماكنها { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } أي : إعادتنا للخلق ، مثل ابتدائنا لخلقهم ، فكما ابتدأنا خلقهم ، ولم يكونوا شيئا ، كذلك نعيدهم بعد موتهم .
{ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } ننفذ ما وعدنا ، لكمال قدرته ، وأنه لا تمتنع منه الأشياء .
ثم ختم - سبحانه - سورة الأنبياء ببيان جانب من أحوال هذا الكون يوم القيامة ، وببيان سننه فى خلقه ، وببيان نعمه على عباده ، وببيان ما أمر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى - : { يَوْمَ نَطْوِي . . . } .
قوله - سبحانه - : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ . . } الظرف فيه منصوب بقوله - تعالى - قبل ذلك { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } أو بقوله - سحبانه - : { وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة } وقوله : { نَطْوِي } من الطى وهو ضد النشر . والسجل : الصحيفة التى يكتب فيها .
والمراد بالكتب : ما كتب فيها من الألفاظ والمعانى ، فالكتب بمعنى المكتوبات . واللام بمعنى على .
والمعنى : إن الملائكة تتلقى هؤلاء الأخيار الذين سبقت لهم من الله - تعالى - الحسنى بالفرح والسرور ، يوم يطوى - سبحانه - السماء طيا مثل طى الصحيفة على ما فيها من كتابات .
وفى هذا التشبيه إشعار بأن هذا الطى بالنسبة لقدرته - تعالى - فى منتهى السهولة واليسر ، حيث شبه طيه السماء بطى الصحيفة على ما فيها .
وقيل : إن لفظ { السجل } اسم لملك من الملائكة ، وهو الذى يطوى كتب أعمال الناس بعد موتهم .
والإضافة فى قوله { كَطَيِّ السجل } من إضافة المصدر إلى مفعوله ، والجار والمجرور صفة لمصدر مقدر . أى : نطوى السماء طيا كطى الرجل أو الملك الصحيفة على ما كتب فيها .
وقرأ أكثر القراء السبعة : ( للكتاب ) بالإفراد . ومعنى القراءتين واحد لأن المراد به الجنس فيشمل كل الكتب .
وقوله - تعالى - : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } بيان لصحة الإعادة قياسا على البدء ، إذ الكل داخل تحت قدرته - عز وجل - .
أى : نعيد أول خلق إعادة مثل بدئنا إياه ، دون أن ينالنا تعب أو يمسنا لغوب ، لأن قدرتنا لا يعجزها شىء : قال - تعالى - : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } قال صاحب الكشاف : " وما أول الخلق حت يعيده كما بدأه ؟ قلت : أوله إيجاده من العدم ، فكما أوجده أولا عن عدم . يعيده ثانيا عن عدم " .
وقوله - تالى - : { وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } تأكيد للإعادة . ولفظ " وعدا " منصوب بفعل محذوف . و " علينا " فى موضع الصفة له .
أى : هذه الإعادة وعدنا بها وعدا كائنا علينا باختيارنا وإرادتنا ، إنا كنا محققين هذا الوعد ، وقادرين عليه ، والعاقل من يقدم فى دنياه العلم الصالح الذى ينفعه عند بعثه للحساب .
يقول تعالى : هذا كائن يوم القيامة ، { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } كما قال تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر : 67 ] وقد قال البخاري :
حدثنا مُقَدم بن محمد ، حدثني عمي القاسم بن يحيى ، عن عُبَيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الله يقبض يوم القيامة الأرضَين ، وتكون السموات بيمينه " {[19897]} .
انفرد به من هذا الوجه البخاري ، رحمه الله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرَّقِّي ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن أبي الواصل{[19898]} ، عن أبي المليح الأزدي{[19899]} ، عن أبي الجوزاء الأزدي ، عن ابن عباس قال : يطوي الله{[19900]} السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة ، يطوي ذلك كله{[19901]} بيمينه ، يكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة .
وقوله : { كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قيل : المراد بالسجل [ الكتاب . وقيل : المراد بالسجل ]{[19902]} هاهنا : مَلَك من الملائكة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن يمان ، حدثنا أبو الوفاء الأشجعي ، عن أبيه ، عن ابن عمر في قوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قال : السجل : مَلَك ، فإذا صعد بالاستغفار قال : اكتبها نورًا .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن ابن يمان ، به .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي جعفر{[19903]} محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك .
وقال السدي في هذه الآية : السجل : مَلَك موكل بالصحف ، فإذا مات الإنسان رفع{[19904]} كتابُه إلى السجل فطواه ، ورفعه إلى يوم القيامة .
وقيل : المراد به اسم رجل صحابي ، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا نصر بن علي الجَهْضَميّ ، حدثنا نوح بن قيس ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس : [ { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ] {[19905]} ، قال : السجل : هو الرجل .
قال نوح : وأخبرني يزيد بن كعب - هو العَوْذي - عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : السجل كاتب{[19906]} للنبي صلى الله عليه وسلم .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة بن سعيد{[19907]} عن نوح بن قيس ، عن يزيد بن كعب ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : السجل كاتب{[19908]} للنبي صلى الله عليه وسلم{[19909]} .
ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي ، كما تقدم . ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النُّكْريّ عن أبيه ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : كان للنبي{[19910]} صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى{[19911]} السجل وهو قوله : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قال : كما يطوى السجل الكتاب ، كذلك نطوي السماء ، ثم قال : وهو غير محفوظ{[19912]} .
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه : أنبأنا أبو بكر البَرْقَاني ، أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي ، أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي ، أن حمدان بن سعيد حدثهم ، عن عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : السجلّ : كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم{[19913]} .
وهذا منكر جدًا من حديث نافع عن ابن عمر ، لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس ، من رواية أبي داود وغيره ، لا يصح أيضًا . وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه - وإن كان في سنن أبي داود - منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المِزِّي ، فَسَح الله في عمره ، ونَسَأ في أجله ، وختم له بصالح عمله ، وقد أفردت لهذا الحديث جزءًا على حدة{[19914]} ، ولله الحمد . وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث ، ورده أتم رد ، وقال : لا يُعَرف في الصحابة أحد{[19915]} اسمه السجِل ، وكُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون ، وليس فيهم أحد اسمه السجل ، وصَدَق رحمه الله في ذلك ، وهو من أقوى الأدلة على نَكَارة هذا الحديث . وأما مَنْ ذكر في أسماء الصحابة هذا ، فإنما اعتمد على هذا الحديث ، لا على غيره ، والله أعلم . والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة ، قاله علي بن أبي طلحة والعوفي ، عنه . ونص على ذلك مجاهد ، وقتادة ، وغير واحد . واختاره ابن جرير ؛ لأنه المعروف في اللغة ، فعلى هذا يكون معنى الكلام : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } أي : على [ هذا ]{[19916]} الكتاب ، بمعنى المكتوب ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ] ، أي : على الجبين ، وله نظائر في اللغة ، والله أعلم .
وقوله : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } يعني : هذا كائن لا محالة ، يوم يعيد الله الخلائق خلقًا جديدًا ، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم{[19917]} ، وذلك واجب الوقوع ، لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل ، وهو القادر على ذلك . ولهذا قال : { إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع وابن جعفر المعنى{[19918]} ، قالا{[19919]} : حدثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : " إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غُرْلا كما بدأنا أول خلق نعيده ، وعدًا علينا إنا كنا فاعلين " ؛ وذكر تمام الحديث ، أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة . ورواه{[19920]} البخاري عند هذه الآية في كتابه{[19921]} .
وقد روى ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن عائشة عن النبي{[19922]} صلى الله عليه وسلم ، نحو ذلك .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } قال : نهلك كل شيء ، كما كان أول مرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي السّمَآءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنّا كُنّا فَاعِلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : لا يحزنهم الفزع الأكبر ، يوم نطوي السماء . ف «يوم » صلة من «يحزنهم » .
واختلف أهل التأويل في معنى السجلّ الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هو اسم ملَك من الملائكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا أبو الوفاء الأشجعيّ ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، في قوله : يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ كَطَيّ السّجلّ للْكِتَابِ قال : السجِلّ : مَلَك ، فإذا صعد بالاستغفار قال : اكتبها نورا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمع السديّ يقول ، في قوله : يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ كَطَيّ السّجِلّ قال : السجلّ : ملَك .
وقال آخرون : السجل : رجل كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، قال : حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس في هذه الاَية : يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ قال : كان ابن عباس يقول : هو الرجل .
قال : حدثنا نوح بن قيس ، قال : حدثنا يزيد بن كعب ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : السجلّ : كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل هو الصحيفة التي يُكتب فيها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كَطَيّ السّجِلّ للْكِتابِ يقول : كطيّ الصحيفة على الِكتاب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ كَطَيّ السّجِلّ للْكِتابِ يقول : كطيّ الصحف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : السّجلّ : الصحيفة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكِتابِ قال : السجل : الصحيفة .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : السجلّ في هذا الموضع الصحيفة لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، ولا يعرف لنبينا صلى الله عليه وسلم كاتب كان اسمه السجلّ ، ولا في الملائكة مَلك ذلك اسمه .
فإن قال قائل : وكيف تَطْوي الصحيفة بالكتاب إن كان السجلّ صحيفة ؟ قيل : ليس المعنى كذلك ، وإنما معناه : يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ على ما فيه من الكتاب ثم جعل «نطوِي » مصدرا ، فقيل : كَطَيّ السّجِلّ لِلْكِتابِ واللام في قوله «للكتاب » بمعنى «على » .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار ، سوى أبي جعفر القارىء : يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ بالنون . وقرأ ذلك أبو جعفر : «يَوْم تُطْوَي السّماءُ » بالتاء وضمها ، على وجه ما لم يُسمّ فاعله .
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار ، بالنون ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه . وأما السّجلّ فإنه في قراءة جميعهم بتشديد اللام . وأما الكتاب ، فإن قرّاء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة قرءوه بالتوحيد : «كطيّ السجلّ للكتاب » ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : للْكُتُبِ على الجماع .
وأولى القراءتين عندنا في ذلك بالصواب : قراءة من قرأه على التوحيد للكتاب لما ذكرنا من معناه ، فإِن المراد منه : كطيّ السجلّ على ما فيه مكتوب . فلا وجه إذ كان ذلك معناه لجميع الكتب إلا وجه نتبعه من معروف كلام العرب ، وعند قوله : كَطَيّ السّجِلّ انقضاء الخبر عن صلة قوله : لا يَحْزُنهُمُ الْفَزَعُ الأْكْبَرُ ، ثم ابتدأ الخبر عما الله فاعل بخلقه يومئذ فقال تعالى ذكره : كمَا بَدَأْنا أوّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ فالكاف التي في قوله : «كمَا » من صلة «نعيد » ، تقدّمت قبلها ومعنى الكلام : نعيد الخلق عُراة حُفاة غُرْلاً يوم القيامة ، كما بدأناهم أوّل مرّة في حال خلقناهم في بطون أمهَاتهم ، على اختلاف من أهل التأويل في تأويل ذلك .
وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل ، وبه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك اخترت القول به على غيره . ذكر من قال ذلك والأثر الذي جاء فيه :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ قال : حُفاة عُراة غُرْلاً .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : أوّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ قال : حُفاة غُلْفا . قال ابن جُرَيج أخبرني إبراهيم بن ميسرة ، أنه سمع مجاهدا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحدى نسائه : «يَأْتُونَهُ حُفاةً عُرَاةً غُلْفا » فاسْتَترَتْ بِكُمّ دِرْعِها ، وَقالَتْ وَاسَوأتاهُ قال ابن جُرَيج : أخبرت أنها عائشة قالت : يا نبيّ الله ، لا يحتشمُ الناس بعضهم بعضا ؟ قال : «لكُلّ امُرِىءٍ يَوْمِئِذٍ شأْنٌ يُغْنِيهِ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «يُحْشَرُ النّاسُ حُفاةً عُرَاةً غُرْلاً ، فَأوّلَ مَنْ يُكْسَى إبراهِيمُ » ثم قرأ : كمَا بَدأْنا أوّلَ خَلْقٍ نُعِيدُه وَعْدا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلِينَ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة » فذكره نحوه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان النَخَعِيّ ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم » فذكره نحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة ، قال : حدثنا المغيرة بن النعمان النخَعيّ ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، نحوه .
حدثنا عيسى بن يوسف بن الطباع أبو يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : «إنّكُمْ مُلاقُو اللّهِ مُشاةً غُرْلاً » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عائشة ، قالت : دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي عجوز من بني عامر ، فقال : «مَنْ هَذه العَجُوزُ يا عائِشَةُ ؟ » فقلت : إحدى خالاتي . فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة فقال : «إنّ الجَنّةَ لا يَدْخُلُها العَجَزةُ » . قالت : فأخذ العجوزَ ما أخذها ، فقال : «إنّ اللّهَ يُنْشِئُهُنّ خَلْقا غيرَ خَلْقِهِنّ » ، ثم قال : «يُحْشَرُونَ حُفاةً عُرَاةً غُلْقا » . فقالت : حاش لله من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَلى إنّ اللّهَ قالَ : كمَا بَدأْنا أوّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنا . . . إلى آخر الاَية ، فأوّلُ مَنْ يُكْسَى إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الله » .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عطاء ، عن عقبة بن عامر الجهني ، قال : يجمع الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي ، حفاة عراة ، كما خُلقوا أوّل يوم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني عباد بن العوّام ، عن هلال بن حبان ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، ( عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال : «يحشر الناس يوم القيامة حُفاة عراة مشاة غرلاً » . قلت : يا أبا عبد الله ما الغُرْل ؟ قال : الغُلْف . فقال بعض أزواجه : يا رسول الله ، أينظر بعضنا إلى بعض إلى عورته ؟ فقال «لِكُلّ امْرىءٍ منهم يَوْمَئِذٍ ما يَشْغَلُهُ عَن النّظَر إلى عَوْرَة أخِيهِ » . قال هلال : قال سعيد بن جُبير : وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرَادَى كمَا خَلَقْناكُمْ أوّلَ مَرّةٍ قال : كيوم ولدته أمه ، يردّ عليه كل شيءٍ انتقص منه مثل يوم وُلد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كما كنا ولا شيء غيرنا قبل أن نخلق شيئا ، كذلك نهلك الأشياء فنعيدها فانية ، حتى لا يكون شيء سوانا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : كمَا بَدأْنا أوّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ . . . الاَية ، قال : نهلك كل شيء كما كان أوّل مرّة .
وقوله : وَعْدا عَلَيْنا يقول : وعدناكم ذلك وعدا حقّا علينا أن نوفي بما وعدنا ، إنا كنا فاعلي ما وعدناكم من ذلك أيها الناس ، لأنه قد سبق في حكمنا وقضائنا أن نفعله ، على يقين بأن ذلك كائن ، واستعدوا وتأهبوا .
{ يوم نطوي السماء } مقدر باذكر أو ظرف ل { لا يحزنهم } أو { تتلقاهم } أو حال مقدرة من العائد المحذوف من { توعدون } ، والمراد بالطي ضد النشر أو المحو من قولك طوعني هذا الحديث ، وذلك لأنها نشرت مظلة لبني آدم فإذا انتقلوا قوضت عنهم ، وقرئ بالياء والبناء للمفعول { كطي السجل للكتاب } طيا كطي الطومار لأجل الكتابة أو لما يكتب أو يكتب أو كتب فيه ، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص على الجمع أي للمعاني الكثيرة المكتوبة فيه وقيل { السجل } ملك يطوي كتب الأعمال إذا رفعت إليه أو كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرئ { السجل } كالدلو و { السجل } كالعتل وهما لغتان فيه { كما بدأنا أول خلق نعيده } أي نعيد ما خلقناه مبتدأ إعادة مثل بدئنا إياه في كونهما إيجادا عن العدم ، أو جمعا بين الأجزاء المتبددة والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على الإبداء لشمول الإمكان الذاتي المصحح للمقدورية . وتناول القدرة القديمة لهما على السواء ، و " ما " كافة أو مصدرية وأول مفعول ل { بدأنا } أو لفعل يفسره { نعيده } أو موصولة والكاف متعلقة بمحذوف يفسره { نعيده } أي نعيد مثل الذي بدأنا وأول خلق ظرف ل { بدأنا } أو حال من ضمير الموصول المحذوف . { وعدا } مقدر بفعله تأكيدا ل { نعيده } أو منتصب به لأنه عدة بالإعادة . { علينا } أي علينا إنجازه . { إنا كنا فاعلين } ذلك لا محالة .
قرأت فرقة «نطوي » بنون العظمة ، وقرأت فرقة «يَطوي السماء » بياء مفتوحة على معنى يطوي الله تعالى ، وقرأ فرقة «تُطوى السماءُ » بتاء مضمومة ورفع «السماءُ » على ما لم يسم فاعله ، واختلف الناس في { السجل } فقالت فرقة هو ملك يطوي الصحف ، وقالت فرقة { السجل } رجل كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ع وهذا كله وما شاكله ضعيف ، وقالت فرقة { السجل } الصحيفة التي يكتب فيها ، والمعنى { كطي السجل } أي كما يطوي السجل من أجل الكتاب الذي فيه ، فالمصدر مضاف إلى المفعول ويحتمل أن يكون المصدر مضافاً إلى الفاعل ، أي كما يطوي السجل الكتاب الذي فيه ، فكأنه قال { يوم نطوي السماء } كالهيئة التي فيها طي السجل للكتاب ، ففي التشبيه تجوز ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «السّجْل » بشد السين وسكون الجيم وتخفيف اللام وفتح أبو السمال السين فقرأ «السَّجل » وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير «السُّجُل » بضم السين وشدها وضم الجيم ، وقرأ الجمهور «للكتاب » ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «للكتب » وقوله تعالى : { كما بدأنا أول خلق نعيده } يحتمل معنيين : أحدهما أن يكون خبراً عن البعث أي كما اخترعنا الخلق أولاً على غير مثال ذلك كذلك ننشئهم تارة أخرى فنبعثهم من القبور ، والثاني أن يكون خبراً عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا ، ويؤيد هذا التأويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده »{[8285]} وقوله تعالى : { كما بدأنا } الكاف متعلقة بقوله { نعيده } ، وقوله { إنا كنا فاعلين } تأكيد للأمر بمعنى أن الأمر واجب في ذلك .