قوله : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء } الآية . في «يَوْمَ نَطْوِي » أوجه :
أحدهما : أنه{[29804]} منصوب ب «لاَ يَحْزُنْهُمْ »{[29805]} .
الثاني : أنه منصوب ب «تَتَلَقاهُم »{[29806]} .
الثالث : أنه منصوب بإضمار ( اذكر ) أو ( أعني ){[29807]} .
الرابع : أنه بدل من العائد المقدر تقديره : توعدونه يوم نطوي ، ف «يَوْمَ » بدل من الهاء ، ذكره أبو البقاء{[29808]} وفيه نظر ، إذ يلزم من ذلك خلو الجملة الموصول بها من عائد على الموصول ، ولذلك منعوا جاء الذي مررت به أبي عبد الله ، على أن يكون ( أبي عبد الله ) بدلاً من الهاء لما ذكر{[29809]} ، وإن كان في المسألة خلاف .
الخامس : منصوب بالفزع ، قاله الزمخشري{[29810]} ، وفيه نظر من حيث إنه أعمل المصدر الموصوف قبل أخذه معموله{[29811]} . وقد تقدم أن نافعاً يقرأ «يُحْزنُ » بضم الياء إلا هنا ، وأن شيخه ابن القعقاع يقرأ «يُحْزنُ » بضم الياء إلا هنا ، وأن شيخه ابن القعقاع يقرأ «يَحْزُنُ » بالفتح إلا هنا{[29812]} .
وقرأ العامة «نَطْوِي » بنون العظمة{[29813]} . وشيبة بن نصاح{[29814]} في آخرين «يَطوي » بياء الغيبة{[29815]} ، والفاعل هو الله تعالى{[29816]} . وقرأ أبو جعفر في آخرين «تُطْوَى » بضم التاء المثناة من فوق وفتح الواو مبنياً للمفعول{[29817]} . وقرأ العامة «السِّجِلِّ » بكسر السين والجيم وتشديد اللام كالطَّمرّ{[29818]} . وقرأ أبو هريرة وصاحبه أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير{[29819]} بضمهما{[29820]} واللام مشددة أيضاً بزنة «عُتُلٍّ »{[29821]} . ونقل أبو البقاء تخفيفها في هذه القراءة أيضاً فتكون بزنة عُنْقٍ{[29822]} . وأبو السمال وطلحة والأعمش بفتح السين . والحسن وعيسى بن عمر بكسرها . والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة{[29823]} .
قال أبو عمرو : قراءة أهل مكة مثل قراءة الحسن{[29824]} . والسِّجل الصحيفة مطلقاً{[29825]} وقيل : مخصوص بصحيفة العهد{[29826]} ، وهي من المساجلة وهي المكاتبة .
والسَّجْلُ : الدلو المَلأى{[29827]} . وقال بعضهم : هو فارسيّ معرب فلا اشتقاق له{[29828]} و «طَيّ » مصدر مضاف للمفعول ، والفاعل محذوف ، تقديره : كما يطوي الرجل الصحيفة ليكتب فيها ، أو لما يكتبه فيها من المعاني{[29829]} ، والفاعل يحذف مع المصدر باطراد{[29830]} والكلام في الكاف معروف{[29831]} أعني : كونها نعتاً لمصدر مقدر{[29832]} أو حالاً من ضميره . وأصل «طَيّ » طَوْي ، فأعلّ كنظائره{[29833]} . وروي عن علي وابن عباس : أنّ السجل اسم ملك يطوي كتب أعمال بني آدم{[29834]} . وروى أبو الجوزاء{[29835]} عن ابن عباس : أنّ السجل اسم رجل كان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم{[29836]} - . وعلى هذين القولين يكون المصدر مضافاً لفاعله{[29837]} ، والكتاب اسم الصحيفة المكتوبة . قال بعضهم{[29838]} : وهذا القول بعيد ، لأنّ كُتَّاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا معروفين وليس فيهم من سُمِّيَ بهذا{[29839]} .
قال أبو إسحاق الزجاج : السجل بلغة الحبشة{[29840]} .
وقال الزمخشري : كما يطوى الطُّومَار{[29841]} للكتابة ، أي : ليكتب فيه ، أو لما يكتب فيه ، لأنَّ الكتاب أصله المصدر كالبناء ، ثم يوقع على المكتوب{[29842]} . فقدره الزمخشري من الفعل المبني للمفعول ، وقد عرف ما فيه من الخلاف واللام في «الكتاب » إما مزيدة في المفعول إنْ قلنا : إنَّ المصدر مضاف لفاعله{[29843]} . وإما متعلقة ب " طيّ " إذا قلنا : المراد بالسجل الطومار ، فالمصدر وهو الطيّ مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف ، والتقدير : كطي الطاوي السجل وهذا قول الأكثرين{[29844]} . وقيل : اللام بمعنى ( على ){[29845]} ، وهاذ ينبغي أن لا يجوز لبعد معناه على كل قول .
والقراءات المذكورة في السجل كلها لغات فيه{[29846]} .
وقرأ الأخوان{[29847]} وحفص «لِلْكُتُبِ » جمعاً . والباقون «لِلْكِتَابِ » مفرداً{[29848]} . والرسم يحتملهما فالإفراد يراد به الجنس والجمع للدلالة على الاختلاف ، والمعنى المكتوبات ، أي : لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة . فيكون معنى طي السجل للكتابة ، كون السجل ساتراً{[29849]} لتلك الكتابة ومخفياً لها ، لأنّ الطي هو الدرج ضد النشر الذي يكشف . قوله : { كَمَا بَدَأْنَا } في متعلق هذه الكاف وجهان :
أحدهما : أنها متعلقة ب «نُعِيدُهُ » و «مَا » مصدرية ، و «بَدَأْنَا » صلتها ، فهي وما في حيزها في محل جر بالكاف . و «أَوَّلَ خَلْقٍ » مفعول «بَدَأْنَا » ، والمعنى : نعيد أوّل خلق إعادة مثل بدأتنا{[29850]} له ، أي : كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود{[29851]} وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال : الكاف نعت لمصدر محذوف أي : نعيده عوداً كمثل بدئه{[29852]} .
وفي قوله : عوداً نظر إذ الأحسن أن يقول : إعادة{[29853]} .
والثاني : أنّها تتعلق{[29854]} بفعل مضمر . قال الزمخشري : ووجه آخر ، وهو أنْ ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره «نُعِيدُهُ » و «ما » موصولة ، أي : نعيد مثل الذي بدأنا نعيده و «أَوَّلَ خَلْقٍ » ظرف ل «بَدَأْنَا » أي : أول ما خلق ، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى{[29855]} . قال أبو حيَّان : وفي تقديره{[29856]} تهيئة «بَدَأْنَا » لأنْ ينصب «أَوَّلَ خَلْقٍ » على المفعولية وقطعه عنه من غير ضرورة تدعو إلى ذلك ، وارتكاب إضمار ( نعيد ) مفسراً ب «نُعِيدُهُ » وهذه عجمة في كتاب الله ، وأما قوله : ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره «نُعِيدُهُ » فهو ضعيف جداً ، لأنه مبني على أن الكاف اسم لا حرف ، وليس مذهب الجمهور ، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفش ، وكونها اسماً عند البصريين مخصوص بالشعر{[29857]} .
قال شهاب الدين : كل ما قدره فهو جار{[29858]} على القواعد المنضبطة وقاده إلى ذلك المعنى الصحيح فلا مؤاخذة عليه ، ويظهر ذلك بالتأمل لغير الفطن{[29859]} وأما «ما » ففيها ثلاثة أوجه :
والثاني : أنها بمعنى الذي . وقد تقدم تقرير هذين{[29860]} .
والثالث : أنها كافة للكاف عن العمل كما في قوله :
3741- كَمَا النَّاسُ مَجْرومٌ عَلَيْهِ وجَارِم{[29861]} *** . . .
فيمن رفع ( النَّاس ) قال الزمخشري : «أوَّلَ خَلْق » مفعول نعيد الذي يفسره «نُعِيدُهُ »{[29862]} والكاف مكفوفة ب «ما » والمعنى : نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لها على السواء ، فإنْ قُلْتَ : ما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه قُلْتُ : أوله إيجاده من العدم ، فكما أوجده أولاً من يعدم يعيده ثانياً من عدم{[29863]} .
وأما «أَوَّلَ خَلق » فيحصل فيه أربعة أوجه : أحدها : أنه مفعول «بَدَأْنَا » .
والثاني : أنه ظرف ل «بَدَأْنَا » .
زالثالث : أنه منصوب على الحال من ضمير الموصول{[29864]} كما تقدم تقريره{[29865]} .
والرابع : أنه حال من مفعول «نُعِيدُهُ » قاله أبو البقاء{[29866]} ، والمعنى : مثل أول خلقه وأما تنكير «خَلقٍ » فدلالته على التفصيل ، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : ما بال «خَلْق » منكراً . قُلْتُ : هو كقولك : أول رجل جاءني ، تريد أول الرجال ، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً ، فكذلك معنى أول خلق بمعنى أول الخلائق ، لأنّ الخلق مصدر لا يجمع{[29867]} .
قوله : { وَعْداً } منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المتقدمة ، فناصبه مضمر ، أي : وعدنا ذلك وعداً{[29868]} .
فصل{[29869]}
اختلفوا في كيفية الإعادة فقيل : إن الله يفرق أجزاء الأجسام ولا يعدمها ثم إنه بعيد تركيبها فذلك هو الإعادة .
وقيل : إنه تعالى يعدمها بالكلية ، ثم إنه يوجدها بعينها مرة أخرى ، وهذه الآية دالة على هذا الوجه ؛ لأنه تعالى شبه الإعادة بالابتداء ، والابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة بل عن الوجود بعد العدم ، فوجب أنْ تكون الإعادة كذلك{[29870]} .
واحتج الأولون بقوله تعالى : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }{[29871]} فدلّ هذا على أنّ السموات حال كونها{[29872]} مطويات تكون موجودة . وبقوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض }{[29873]} وهذا يدلّ على أنَّ الأرض باقية لكنها جعلت غير الأرض .
قال المفسرون : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلاً{[29874]} كذلك نعيدهم يوم القيامة { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }{[29875]} . روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً » ثم قرأ{[29876]} { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }{[29877]} . يعني الإعادة والبعث . وقيل : المراد حقاً علينا بسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه وأن وقوع ما علم الله وقوعه واجب{[29878]} .