فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَوۡمَ نَطۡوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلۡكُتُبِۚ كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ} (104)

{ يوم نطوي } بنون العظمة أي اذكر يوم نطوي { السماء كطي السجل للكتب } وقرئ تطوى بالفوقية ورفع السماء ، وبالتحتية على معنى يطوي الله السماء ، والأول أظهر وأوضح والطي في هذه الآية يحتمل معنيين :

أحدهما الذي هو ضد النشر ، ومنه قوله : { والسموات مطويات بيمينه } .

والثاني الإخفاء والتعمية والمحو ، لأن الله سبحانه يمحو ويطمس رسومها ، ويكدر نجومها ، والمراد بالسماء الجنس والسجل الصحيفة أي طيا كطي الطومار للكتابة ، وقيل السجل الصك وهو مشتق من المساجلة وهي المكاتبة وأصلها من السجل وهو الدلو ، يقال ساجلت الرجل ، إذا نزعت دلوا ونزع هو دلوا ؛ ثم استعيرت للمكاتبة والمراجعة في الكلام ، وقرئ السّجل بضم السين والجيم وتشديد اللام ، وقرئ السجل بفتح السين وإسكان الجيم ، وقيل السجل اسم ملك في السماء الثالثة ، وهو الذي يطوي كتب بني آدم .

وقيل هو اسم كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس أخرجه أبو داوود والنسائي ، وعن ابن عمر مثله ، قال ابن كثير : هذا منكر جدا ، وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه ، وإن كان في سنن أبي داوود منهم الحافظ المزي وقد أفرد الشوكاني لهذا الحديث جزءا على حدة ، وقد تصدى الإمام ابن جرير للإنكار على هذا الحديث ورده أتم رد ، وقال : ولا نعرف في الصحابة أحد اسمه سجل ، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا معروفين ، وليس فيهم أحد اسمه سجل انتهى ، وصدق رحمه الله في ذلك ، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث ، وأما من ذكر في أسماء الصحابة هذا فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم ، قال : والصحيح عن ابن عباس أن السجل هو الصحيفة ، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة ، قلت فالأولى التعويل على المعنى اللغوي ؛ والمصير إليه .

وأخرج النسائي عن ابن عباس قال : السجل هو الرجل أي بلغة الحبشة ، والأول أولى ، وقرئ للكتب جمعا ؛ وللكتاب وهو متعلق بمحذوف حال من السجل أي كطي السجل كائنا للكتب فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها فسجلها بعض أجزائها وبه يتعلق الطي حقيقة .

وأما على الثانية فالكتاب مصدر ، واللام للتعليل ، أي كما يطوى الطومار للكتابة أي ليكتب فيه أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة والأعمال المنتشرة وهذا على أن معنى الطي ضد النشر .

وعن علي قال : كطي السجل ملك ، وعن عطية وأبي جعفر مثله ، قال ابن عمر : السجل ملك ، فإذا صعد بالاستغفار قال : اكتبوها نورا .

{ كما بدأنا أول خلق نعيده } بعد إعدامه تشبيها للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم ، وأخرجناهم إلى الأرض حفاة عراة غرلا ، كذلك نعيدهم يوم القيامة ، وإنما خص أول الخلق بالذكر تصويرا للإيجاد عن العدم ، والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على المبدأ لشمول الإمكان الذاتي لهما ، وقيل معنى الآية نهلك كل نفس كما كان أول مرة ، قاله ابن عباس ، وقيل المعنى نغير السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها ، والأول أولى ؛ وهو مثل قوله : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } ثم قال سبحانه .

{ وعدا علينا } أي وعدنا وعدا علينا إنجازه والوفاء به وهو البعث والإعادة ثم أكد سبحانه ذلك بقوله : { إنا كنا فاعلين } أي محققين هذا الوعد فاستعدوا له وقدموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال ، قال الزجاج : معناه إنا كنا قادرين على ما نشاءه ، وقيل فاعلين ما وعدناكم ، ومثله قوله : { كان وعده مفعولا } .