الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَوۡمَ نَطۡوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلۡكُتُبِۚ كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ} (104)

{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ } قرأ أبو جعفر تُطوى السماء بضم التاء والهمزة على المجهول ، وقرأ الباقون بالنون السماء نصب { كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } قرأ أهل الكوفة على الجمع ، غيرهم : للكتاب على الواحد واختلفوا في السجلّ ، فقال ابن عمر و السدىّ : السجل : ملك يكتب أعمال العباد فإذا صعد بالاستِغفار قال الله سبحانه : أُكتبها نوراً .

وقال ابن عباس ومجاهد : هو الصحيفة ، واللام في قوله للكتب بمعنى على تأويلها كطىّ الصحيفة على مكتوبها .

وروى أبو الجوزاء وعكرمة عن ابن عباس أنّ السجلّ اسم كاتب لرسول الله ، وهذا قول غير قوي لأنّ كتّاب رسول الله كانوا معروفين وقد ذكرتهم في كتاب «الربيع » ، والسجلّ اسم مشتقّ من المساجلة وهي المكاتبة ، وأصلها من السجل وهو الدلو ، يقال : سجلت الرجل إذا نزعت دلواً ونزع دلواً ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة ، قال الشاعر :

من يساجلني يساجل ماجداً *** يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ثم بنى هذا الاسم على فعل مثل طمر وقلز . والطي في هذه الآية يحتمل معنيين : أحدهما : الدرج الذي هو ضدّ النشر قال الله سبحانه

{ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] .

والثاني : الإخفاء والتعمية والمحو والطمس لأنّ الله سبحانه يمحو رسومها ويكدر نجومها ، قال الله سبحانه وتعالى

{ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ } [ التكوير : 1-2 ] تقول العرب : اطو عن فلان هذا الحديث أي استره وأخفه .

ثمَّ ابتدأ واستأنف الكلام فقال عزَّ من قائل { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } قال أكثر العلماء : كما بدأناهم في بطون أُمهاتهم حفاة عُزّلا كذلك نعيدهم يوم القيامة ، نظيرها قوله سبحانه

{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 94 ] وقوله

{ وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الكهف : 48 ] .

ودليل هذا التأويل ما روى ليث " عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنه قالت : دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي عجوز من بني عامر فقال : من هذه العجوز يا عائشة ؟ فقلت : إحدى خالاتي ، فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنّة فقال : إنّ الجنّة لا يدخلها العجّز ، فأخذ العجوز ما أخذها .

فقال ( عليه السلام ) : إنّ الله ينشئهنّ خلقاً غير خلقهن ، قال الله تعالى { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } [ الواقعة : 35 ] الآية ثمّ قال : يُحشرون يوم القيامة عراة حفاة غلفاً ، فأوّل مَنْ يكسى إبراهيم صلوات الله عليه " .

فقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها : واسوأتاه فلا تحتشم الناس بعضهم بعضاً ؟ قال : { لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] ، ثم قرأ رسول الله { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } كيوم ولدته أُمهُ " .

وقال ابن عباس : يقول : نهلك كلّ شيء كما كان أول مرّة ، وقيل : كما بدأناه من الماء نعيده من التراب .

{ وَعْداً عَلَيْنَآ } نصب على المصدر يعني وعدناه وعداً علينا { إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } يعني الإعادة والبعث .