الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَوۡمَ نَطۡوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلۡكُتُبِۚ كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ} (104)

قوله : { يَوْمَ نَطْوِي } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه منصوبٌ ب " لا يَحْزُنُهم " . والثاني : أنه منصوبٌ ب " تتلقَّاهم " . الثالث أنه منصوبٌ بإضمار اذكر أو أعني . الرابع : أنه بدلٌ من العائدِ المقدرِ تقديرُه : تُوْعَدُونه/ يومَ نَطْوي ف " يومَ " بدل من الهاء . ذكره أبو البقاء . وفيه نظرٌ ؛ إذ يَلْزَمُ مِنْ ذلك خُلُوُّ الجملةِ الموصولِ بها من عائدٍ على الموصول ، ولذلك مَنَعُوا " جاء الذي مررتُ به أبي عبد الله " على أن يكونَ " أبي عبد الله " بدلاً من الهاء لِما ذكرْتُ ، وإن كان في المسألة خلاف . الخامس : أنه منصوبٌ بالفزع ، قاله الزمخشري ، وفيه نظر ؛ من حيث إنه أَعْمَلَ المصدرَ الموصوفَ قبل أَخْذِه معمولَه .

وقد تقدَّم أنَّ نافعاً يقرأ " يُحْزِنُ " بضم الياء إلاَّ هنا ، وأن شيخَه ابن َ القَعْقاع يَقْرأ " يَحْزُن " بالفتح إلاَّ هنا .

وقرأ العامَّة " نَطْوي " بنون العظمة وشيبة بن نصاح في آخرين " يطوي " بياء الغَيْبة ، والفاعلُ هو الله تعالى ، وقرأ أبو جعفر في آخرين " تُطْوَى " بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وفتحِ الواوِ مبنياً للمفعول .

وقرأ العامَّةُ " السِّجِلِّ " بكسر السينِ والجيمِ وتشديدِ اللامِ كالطِّمِرِّ . وقرأ أبو هريرة وصاحبُه أبو زرعةَ بن عمرو بن جرير بضمِّهما ، واللامُ مشددةٌ أيضاً بزنةِ " عُتُلّ " . ونقل أبو البقاء تخفيفَها في هذه القراءةِ أيضاً ، فتكونَ بزنةِ عُنُق ، وأبو السَّمَّال وطلحة والأعمش بفتح السين . والحسن وعيسى بن عمر [ بكسرِها ] . والجيمُ في هاتين القراءتين ساكنةٌ واللامُ مخففةٌ ، قال أبو عمرو : " قراءةُ أهلِ مكةً مثل قراءةِ الحسن " .

والسِّجِلُّ : الصحيفةُ مطلقاً . وقيل : بل هو مخصوصٌ بصحيفةِ العهد ، وهي من المساجلةِ ، والسَجْل : الدَلْوُ المَلأى . وقال بعضهم : هو فارسيٌّ معرَّب فلا اشتقاقَ له .

و " طَيّ " مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ . والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه : كما يطوي الرجلُ الصحيفةَ ليكتبَ فيها ، أَو لما يكتُبه فيها من المعاني ، والفاعلُ يُحْذف مع المصدرِ باطِّراد . والكلامُ في الكاف معروفٌ أعني كونَها نعتاً لمصدرٍ مقدرٍ أو حالاً مِنْ ضميرِه . وأصلُ طيّ : طَوْيٌ فأُعِلَّ كنظائره .

وقيل : السِّجِلُّ سامُ مَلَكٍ يَطْوي كتبَ أعمالِ بني آدم . وقيل : اسمُ رجلٍ كان يكتب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم . وعلى هذين القولين يكون المصدرُ مضافاً لفاعله . و " الكتاب " اسمٌ للصحيفةِ المكتوبِ فيها . وقال أبو إسحاق : " السِّجِلُّ : الرجلُ بلسان الحبشة " . وقال الزمخشري : كما يُطْوَى الطُّومارُ للكتابة ، أي : ليُكتبَ فيه ، أو لما يُكتب فيه ؛ لأن الكتابَ أصلُه المصدرُ كالبناء ثم يوقع على المكتوب " . فقدَّره الزمخشريُّ من الفعلِ المبنيِّ للمفعول .

وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف .

واللام في " للكتاب " : إمَّا مزيدةٌ في المفعولِ إنْ قلنا إنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعلِه ، وإمَّا متعلقةٌ بطَيّ ، وإمَّا بمعنى " على " . وهذا ينبغي أَنْ لا يجوزَ لبُعْدِ معناه على كل قولٍ . والقراءاتُ المذكورةُ في " السِّجِلْ " كلُّها لغات . وقرأ الأخَوان وحفص " للكتب " جمعاً ، والباقون " للكتاب " مفرداً ، والرسُم يحتملهما : فالإِفرادُ يُراد به الجنسُ ، والجمعُ للدلالةِ على الاختلافِ .

قوله : { كَمَا بَدَأْنَآ } في متعلِّقِ هذه الكافِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها متعلقةٌ ب " نُعِيده " ، و " ما " مصدريةٌ و " بدأنا " صلتُها ، فهي وما في حَيِّزِها في محلِّ جر بالكاف . و " أولَ خَلْقٍِ " مفعولُ " بَدَأْنا " ، والمعنى : نُعيد أولَ خَلْقٍ إعادةً مثلَ بَداءَتِنا له أي : كما أبْرَزْناه من العَدَمِ إلى الوجودِ نُعيده من العَدَمِ إلى الوجود . وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال : " الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : نُعيده عَوْداً مثلَ بَدْئه " وفي قولِه : " عَوْد " نظرٌ إذ الأحسنُ أَنْ يقولَ : إعادة .

والثاني : أنها تتعلَّقُ بفعلٍ مضمرٍ . قال الزمخشري : " ووجهٌ آخرُ : وهو أَنْ تَنْتَصِبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره " نُعيده " و " ما " موصولةٌ أي : نُعيد مثلَ الذي بَدَأْنا نُعيده ، و " أولَ خَلْقٍ " ظرف ل " بَدَأْناه " أي : أولَ ما خلق ، أو حالٌ من ضميرِ الموصولِ السَّاقط من اللفظِ الثابتِ في المعنى " .

قال الشيخ : " وفي تقديرِه تهيئةُ " بَدَأْنا " لأَنْ يَنْصِبَ " أولَ خَلْقٍ " على المفعوليةِ وقَطْعُه عنه ، من غيرِ ضرورةٍ تدعو إلى ذلك ، وارتكابُ إضمارٍ بعيدٍ مُفَسَّراً ب " نُعِيْدُه " ، وهذه عُجْمَةٌ في كتاب الله . وأمَّا قولُه " ووجهٌ آخرُ : وهو أن تنتصبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّرُه " نُعِيْدُه " فهو ضعيفٌ جداً ؛ لأنه مبنيٌّ على أن الكافَ اسمٌ لا حرفٌ ، وليس مذهبَ الجمهور ، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفشُ . وكونُها اسماً عند البصريين مخصوصٌ بالشعرِ " . قلت : كلُّ ما قَدَّره فهو جارٍ على القواعدِ المنضبطةِ ، وقادَه إلى ذلك المعنى الصحيحُ ، فلا مُؤَاخَذَةَ عليه . يظهرُ ذلك بالتأمُّلِ لغيرِ الفَطِنِ .

وأمَّا قوله : " ما " ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها مصدريةٌ . والثاني : أنَّها بمعنى الذي . وقد تقدَّم تقريرُ هذين ، والثالث : أنها كافةٌ للكافِ عن العملِ كما هي في قولِه :

3366 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كما الناسُ مَجْرُوْمٌ عليه وجارِمُ

فيمَنْ رفع " الناس " . قال الزمخشري : " أولَ خَلْقٍ " مفعولُ " نُعيد " الذي يُفَسِّره " نُعِيده " ، والكافُ مكفوفةٌ ب " ما " . والمعنى : نُعيد أولَ الخَلْقِ كما بَدَأْناه تَشْبيهاً للإِعادةِ بالابتداء في تناوُلِ/ القُدْرَةِ لهما على السَّواء .

فإنْ قلتَ : فما أولُ الخَلْقِ حتى يُعيدَه كما بدأه ؟ قلت : أوَّلُه إيجادُه عن العَدَمِ ، فكما أوجدَه أولاً عن عدمٍ يُعيده ثانياً عن عدمٍ " .

وأمَّا " أولَ خلق " فتَحصَّل فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مفعولُ " بَدَأْنا " . والثاني : أنه ظرفٌ ل " بَدَأْنا " . والثالث : أنه منصوبٌ على الحال مِنْ ضميرِ الموصولِ كما تقدَّم تقريرُ كل ذلك . والرابع : أنه حالٌ مِنْ مفعول " نُعيده " قاله أبو البقاء ، والمعنى : مثلَ أولِ خَلْقِه .

وأمَّا تنكيرُ " خَلْقِ " فللدلالةِ على التفصيلِ . قاله الزمخشري : " فإن قلتَ " ما بالُ " خَلْقٍ " منكَّراً ؟ قلت : هو كقولِك : " هو أولُ رجلٍ جاءني " تريد : أول الرجال . ولكنك وَحَّدْتَه ونَكَّرتَه إرادةَ تفصيلِهم رجلاً رجلاً ، وكذلك معنى " أولَ خَلْقٍ " بمعنى : أول الخلائق ؛ لأنَّ الخَلْقَ مصدرٌ لا يُجْمَعُ " .

قوله : { وَعْداً } منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة المتقدِّمة ، فناصبُه مضمرٌ أي : وَعَدْنا ذلك وَعْداً .