قوله تعالى : { ولو بسط الله الرزق لعباده } قال خباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية ، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ، فتمنيناها . فأنزل الله عز وجل هذه الآية { ولو بسط الله الرزق } وسع الله الرزق لعباده { لبغوا } لطغوا أو عتوا ، { في الأرض } قال ابن عباس : بغيهم طلبهم منزلةً بعد منزلة ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس . { ولكن ينزل } أرزاقهم ، { بقدر ما يشاء } كما يشاء نظراً منه لعباده ، ولحكمته اقتضتها قدرته { إنه بعباده خبير بصير } . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو عمر بكر بن محمد المزني ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله حفيد العباس بن حمزة ، حدثنا الحسين بن الفضل البجلي ، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد الدمشقي ، حدثنا صدقة عن عبد الله ، حدثنا هشام الكناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عز وجل قال : " يقول الله عز وجل : من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد ، وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه ، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً ومؤيداً ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت ، وأنا أكره مساءته ولا بد له منه ، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير " .
ثم ذكر أن من لطفه بعباده ، أنه لا يوسع عليهم الدنيا سعة ، تضر بأديانهم فقال : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ }
أي : لغفلوا عن طاعة الله ، وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا ، فأوجبت لهم الإكباب على ما تشتهيه نفوسهم ، ولو كان معصية وظلما .
{ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } كما في بعض الآثار أن الله تعالى يقول : " إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أمرضته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ، إني خبير بصير "
ثم بين - سبحانه - جانبا مما اقتضته فى تدبير أمور عباده فقال : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } .
والبغى : تجاوز الحد فى كل شئ يقال : بغى الجرح ، إذا أظهر ما بداخله من دم أو غيره .
وبغى القوم ، إذا تجاوزوا حدودهم فى العدوان على غيرهم .
أى : ولو بسط الله - تعالى - الرزق لعباده ، بأن وسعه عليهم جميعا توسعة فوق حاجتهم ، { لَبَغَوْاْ فِي الأرض } أى : لتجاوزوا حدودهم ، ولتكبروا فيها ، ولطغوا وعتوا وتركوا الشكر لنا ، وقالوا ما قاله قارون : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } وقوله : { ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } بيان لما اقتضته حكمته - تعالى - أى : أن حكمته - تعالى - قد اقتضت عدم التوسعة فى الرزق لجميع عباده ، لأن هذه التوسعة تحملهم على التكبر والغرور والبطر ، لذا أنزل الله - تعالى - لهم الرزق بتقدير محدد اقتضته حكمته ومشيئته ، كما قال - سبحانه - : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } وقوله - تعالى - : { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } تعليل لتنزيله الرزق على عباده بتقدير وتحديد دقيق .
أى : فعل ما فعل - سبحانه - من إنزال الرزق على عباده بقدر ، لأنه - تعالى - خبير بخفايا أحوال عباده ، وبطوايا نفوسهم ، بصير بما يقولونه وبما يفعلونه .
قال صاحب الكشاف : أى أنه - تعالى - يعلم ما يؤول إليه حالهم ، فيقدر لهم ما هو أصلح لهم ، واقرب إلى جمع شملهم ، فيفقر ويغنى ، ويمنع ويعطى ، ويقبض ويبسط ، كما توجبه الحكمة الربانية ، ولو أغناهم جميعا لبغوا ، ولو أفقرهم لهكلوا .
ولا شبهة فى أن البغى مع الفقر أقل ، ومع البسط أكثر وأغلب ، وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغى والإِحجام عنه ، فلو عم البسط ، لغلب البغى حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما هو عليه الآن .
وفضل الله في الآخرة بلا حساب وبلا حدود ولا قيود . فأما رزقه لعباده في الأرض فهو مقيد محدود ؛ لما يعلمه - سبحانه - من أن هؤلاء البشر لا يطيقون - في الأرض - أن يتفتح عليهم فيض الله غير المحدود :
( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ، ولكن ينزل بقدر ما يشاء . إنه بعباده خبير بصير ) . .
وهذا يصور نزارة ما في هذه الحياة الدنيا من أرزاق - مهما كثرت - بالقياس إلى ما في الآخرة من فيض غزير . فالله يعلم أن عباده ، هؤلاء البشر ، لا يطيقون الغنى إلا بقدر ، وأنه لو بسط لهم في الرزق - من نوع ما يبسط في الآخرة - لبغوا وطغوا . إنهم صغار لا يملكون التوازن . ضعاف لا يحتملون إلا إلى حد . والله بعباده خبير بصير . ومن ثم جعل رزقهم في هذه الأرض مقدراً محدوداً ، بقدر ما يطيقون . واستبقى فيضه المبسوط لمن ينجحون في بلاء الأرض ، ويجتازون امتحانها ، ويصلون إلى الدار الباقية بسلام . ليتلقوا فيض الله المذخور لهم بلا حدود ولا قيود .
وقوله تعالى : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } قال عمرو بن حريث{[10143]} وغيره إنها نزلت لأن قوماً من أهل الصفة طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق ، فأعلمهم الله تعالى أنه لو جاء الرزق على اختيار البشر واقتراحهم لكان سبب بغيهم وإفسادهم ، ولكنه تعالى أعلم بالمصلحة في كل أحد ، وله بعبيده خبرة وبصر بأخلاقهم ومصالحهم ، فهو ينزل لهم من الرزق القدر الذي به صلاحهم ، فرب إنسان لا يصلح وتكتف عاديته إلا بالفقر ، وآخر بالغنى . وروى أنس بن مالك في هذا المعنى والتقسيم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال أنس : اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى ، فلا تفقرني{[10144]} . وقال خباب بن الأرتّ : فينا نزلت : { ولو بسط الله الرزق } الآية ، لأنا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع فتمنيناها{[10145]} فنزلت الآية .
عطف على جملة { ويزيدهم من فضله } [ الشورى : 26 ] أو على المجموع من جملة { ويستجيب الذين آمنوا } [ الشورى : 26 ] ومن جملة ويزيدهم من فضله .
وموقع معناها موقع الاستدراك والاحتراس فإنها تشير إلى جواب عن سؤال مقدر في نفس السامع إذا سمع أن الله يستجيب للذين آمنوا وأنه يزيدهم من فضله أن يتساءل في نفسه : أن مما يَسأل المؤمنون سعة الرّزق والبسطةَ فيه فقد كان المؤمنون أيام صدر الإسلام في حاجة وضيق رزق إذ منعهم المشركون أرزاقهم وقاطعوا معاملتهم ، فيجاب بأن الله لو بسط الرّزق للنّاس كلهم لكان بسطه مفسداً لهم لأن الذي يستغني يتطرقه نسيان الالتجاء إلى الله ، ويحمله على الاعتداء على الناس فكان من خير المؤمنينَ الآجِللِ لهم أن لا يبسط لهم في الرّزق ، وكان ذلك منوطاً بحكمة أرادها الله من تدبير هذا العالم تَطّرد في الناس مؤمِنهم وكافرِهم قال تعالى : { إن الإنسان ليَطْغَى أنْ رءاه اسْتَغْنَى } [ العلق : 6 ، 7 ] . وقد كان في ذلك للمؤمن فائدة أخرى ، وهي أن لا يشغله غناه عن العمل الذي به يفوز في الآخرة فلا تشغله أموالُه عنه ، وهذا الاعتبار هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال للأنصار لما تعرّضوا له بعد صلاة الصبح وقد جاءه مال من البَحرين " فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم ولكنْ أخشى عليكم أن تُبْسَط عليكم الدنيا كما بُسطت على من قبلكم فتنَافَسُوها كما تنافَسُوها وتُهْلِككم كما أهلكتهم " .
وقد وردت هذه الآية مورداً كلياً لأن قوله { لعباده } يعُم جميع العباد . ومن هذه الكلية تحصل فائدة المسؤول عليه الجزئي الخاص بالمؤمنين مع إفادة الحكمة العامة من هذا النظام التكويني ، فكانت هذه الجملة بهذا الاعتبار بمنزلة التذييل لما فيها من العموم ، أي أن الله أسس نظام هذا العالم على قوانينَ عامةٍ وليس من حكمته أن يخص أولياءه وحزبه بنظام تكويني دنيوي ولكنه خصهم بمعاني القرب والرضى والفوز في الحياة الأبدية . وربما خصّهم بمَا أراد تخصيصهم به مما يرجع إلى إقامة الحق .
والبغي : العدوان والظلم ، أي لبغى بعضهم على بعض لأن الغنى مظنة البطَر والأشر إذا صادف نفساً خبيثة ، قال بعض بني جَرم من طيء من شعراء الحماسة :
إذا أخصبتمو كنتمْ عَدُوًّا *** وإن أجْدَبتُمُو كنتمْ عيالاً
ولبعض العرب أنشده في « الكشاف » :
وقد جعل الوسْمِيُّ يُنبِتُ بينَنا *** وبينَ بني رُومَان نَبعاً وشَوْحَطا{[370]}
فأما الفَقر فقلما كان سبباً للبغي إلا بغياً مشوباً بمخافة كبغي الجائع بالافتكاك بالعنف فذلك لندرته لا يلتفت إليه ، على أن السياق لبيان حكمة كون الرزق بقدَر لا لبيان حكمةٍ في الفقر .
فالتلازم بين الشرط وجوابه في قوله : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا } حاصل بهذه السببية بقطع النظر عن كون هذا السبب قد يخلفه ضده أيضاً ، على أن بَين بسط الرزق وبين الفقر مراتب أخرى من الكفاف وضيق الرزق والخصاصة ، والفقر ، وهي متفاوتة فلا إشكال في التعليل .
وعن خبّاب بن الأرتّ « فينا نزلت هذه الآية ، وذلك أنَّا نظرنا إلى أموال بني النَّضِير وبني قُريظة وبني قينُقاع فتمنَّيْناها فنزلت » ، وهذا مما حمل قوماً على ظن هذه الآية مدنية كما تقدم في أول السورة . وهذا إن صح عن خبَّاب فهو تأويل منه لأن الآية مكية وخبّاب أنصاري فلعله سمع تمثيل بعضهم لبعض بهذه الآية ولم يكن سمعها من قبل . وروي أنها نزلت في أهل الصُّفَّة تمنوا سعة الرزق فنزلت ، وهذا خبر ضعيف .
ومعنى الآية : لو جعل الله جميع الناس في بسطة من الرزق لاختلّ نظام حياتهم ببغي بعضهم على بعض لأن بعضهم الأغنياء تحدثه نفسه بالبغي لتوفر أسباب العُدوان كما علمت فيجد من المبغي عليه المقاومةَ وهكذا ، وذلك مفض إلى اختلال نظامهم . وبهذا تعلم أن بسط الرزق لبعض العباد كما هو مشاهَد لا يفضي إلى مثل هذا الفساد لأن الغِنى قد يصادف نفساً صالحة ونفساً لها وازع من الدين فلا يكون سبباً للبغي ، فإن صادف نفساً خبيثة لا وازع لها فتلك حالة نادرة هي من جملة الأحوال السيئة في العالم ولها ما يقاومها في الشريعة وفصللِ القضاء وغَيرة الجماعة فلا يفضي إلى فساد عام ولا إلى اختلال نظام .
وإطلاق فعل التنزيل على إعطاء الرزق في قوله تعالى : { ولكن ينزل بقدر } استعارةٌ لأنه عطاء من رفيع الشأن ، فشبه بالنازل من علوّ وتكرر مثل هذا الإطلاق في القرآن .
والقَدَر بفتحتين : المِقدار والتعيين .
ومعنى { ما يشاء } أن مشيئته تعالى جارية على وفْق عِلمه وعلى ما ييسرّه له من ترتيب الأسباب على حسب مختلف صالح مخلوقاته وتعارض بعضها ببعض ، وكل ذلك تصرفات وتقديرات لا يحيط بها إلا علمه تعالى . وكلها تدخل تحت قوله { إنه بعباده خبير بصير } ، وهي جملة واقعة موقع التعليل للتي قبلها .
وافتتحت ب ( إنّ ) التي لم يُرد منها تأكيد الخبر ولكنها لمجرد الاهتمام بالخبر والإيذان بالتعليل لأنّ ( إنّ ) في مثل هذا المقام تقوم مقام فاء التفريع وتفيد التعليل والربط ، فالجملة في تقدير المعطوفة بالفاء .
والجمع بين وصفي { خبير } و { بصير } لأن وصف { خبير } دال على العلم بمصالح العبادِ وأحوالهم قبل تقديرها وتقدير أسبابها ، أي العلم بما سيكون . ووصف { بصير } دالّ على العلم المتعلق بأحوالهم التي حصلت ، وفرق بين التعلقين للعلم الإلهي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو بسط الله الرزق}، يعني ولو وسع الله الرزق، {لعباده}، في ساعة واحدة.
{لبغوا}، يعني لعصوا، {في الأرض}، فيها تقديم، {ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} بهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذكر أن هذه الآية نزلت من أجل قوم من أهل الفاقة من المسلمين تمنوا سعة الدنيا والغنى، فقال جلّ ثناؤه:"ولو بسط الله الرزق لعباده"، فوسعه وكثره عندهم لبغوا، فتجاوزوا الحدّ الذي حدّه الله لهم إلى غير الذي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في الأرض ما حظره عليهم، ولكنه ينزل رزقهم بقدر لكفايتهم الذي يشاء منه... وقوله: "إنّهُ بعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ "يقول تعالى ذكره: إن الله بما يصلح عباده ويفسدهم من غنى وفقر وسعة وإقتار، وغير ذلك من مصالحهم ومضارّهم، ذو خبرة، وعلم، بصير بتدبيرهم، وصرفهم فيما فيه صلاحهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يُخرّج {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} مخرَج الامتنان والإفضال؛ وله أن يبسط عليهم، وإن علِم منهم البغي. ألا ترى أن لو لم يوسّع على فرعون لكان لا يدّعي الألوهية؟ لكنه منّ على بعض المؤمنين، فضيّق عليهم حتى لا يبغوا، فيُلزمهم بذلك القيام بشكر ما منّ عليهم، وأنعم بالتضييق حتى لا يبغوا.
يحتمل أن يكون معنى قوله: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} أنه لو بسط عليهم، ووسّع، لزمهم الشكر، والبسط وكثرة المال تشغلهم، وتمنعهم عن القيام بشكره وما أوجب عليهم من الفرائض والأحكام، ولكن ينزّل بقَدر ما يشاء ما لا يشغلهم، ولا يمنعهم عن القيام بالذي يُلزمهم.
حاصل تأويل الآية يرجع إلى وجهين:
أحدهما: إلى أهل الكفر، إنه لو وسّع عليهم وبَسط، لبغوا في الأرض أي صاروا كلهم أهل كفر وضلال كقوله تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن} الآية [الزخرف: 33]
والثاني: يتوجّه إلى خاص من المؤمنين لما علم منهم أنه لو بسط عليهم، ووسّع لبغوا في الأرض. فضيّق عليهم وقتّر، امتنانا منه وفضلا لئلا يبغوا فعلى ذلك قوله: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} يرجع إلى قوم خاص، يعلم الله تعالى منهم أنه لو بسط عليهم، ووسّع عليهم لبغوا في الأرض، فيُضيّق عليهم فضلا منه ومنّة، فيُلزمهم القيام بشكر ذلك له، والله أعلم. أو يرجع ذلك إلى جملة الخلق من مؤمن وكافر يعلم الله تعالى أنه لو وسّع، وبسط على الكل لصاروا جميعا ملوكا. ومن عادة الملوك وطباعهم البغي والغلبة على من نازعهم في ملكهم ومملكتهم. وفي ذلك التفاني والفساد، فوسّع على بعضهم، وبسط، وضيّق على بعض، لئلا يبغي بعض على بعض؛ إذ في ذلك تفانٍ وفساد، والله أعلم بذلك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض "إخبار منه تعالى بأنه لو وسع رزقه على عباده وسوى بينهم لبطروا النعمة وتنافسوا وتغالبوا، وكان ذلك يؤدي إلى وقوع الفساد بينهم والقتل وتغلب بعضهم على بعض واستعانة بعضهم ببعض ببذل الاموال، ولكن دبرهم على ما علم من مصلحتهم في غناء قوم وفقر آخرين، وإحواج بعضهم إلى بعض وتسخير بعضهم لبعض.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال على سبيل الاعتذار لعباده وهو الملك الأعظم مبيناً أن استجابته تارة تكون كما ورد به الحديث لما سألوه، وتارة تكون بدفع مثله من البلاء وتارة تكون بتأخيره إلى الدار الآخرة.
{ولو} أي هو يقبل ويستجيب والحال أنه لو {بسط}.
ولما كان هذا المقام عظيماً لاحتياجه إلى الإحاطة بالخلائق والإحاطة بأخلاقهم وأوصافهم وما يصلحهم ويفسدهم والقدرة على كل بذل ومنع، عبر بالاسم الأعظم فقال: {الله} أي الملك الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال تنبيهاً على عظمة هذا المقام: {الرزق} لهم -هكذا كان الأصل، لكنه كره أن يظن خصوصيته ذلك بالتائبين فقيل: {لعباده} أي كلهم التائب منهم وغيره بأن أعطاهم فوق حاجتهم.
{لبغوا في الأرض} أي لصاروا يريدون كل ما يشتهونه، فإن لم يفعل سعوا في إنفاذه كالملوك بما لهم من المكنة بكل طريق يوصلهم إليه فيكثر القتل والسلب والنهب والضرب ونحو ذلك من أنواع الفساد.
ولما كان معنى الكلام أنه سبحانه لا يبسط لهم ذلك بحسب ما يريدونه، بنى عليه قوله سبحانه: {ولكن ينزِّل} أي لعباده من الرزق {بقدر} أي بتقدير لهم جملة ولكل واحد منهم لا يزيد عن تقدير ذره ولا ينقصها.
{ما يشاء} من الماء الذي هو أصل الرزق والبركات التي يدبر بها عباده كما اقتضته حكمته التي بنى عليها أحوال هذه الدار.
ولما كان أكثر الناس يقول في نفسه: لو بسط ليّ الرزق لعملت الخير، وتجنبت الشر وأصلحت غاية الإصلاح، قال معللاً ما أخبر به في أسلوب التأكيد: {إنه} وكان الأصل: بهم، ولكنه قال: {بعباده} لئلا يظن أن الأمر خاص بمن وسع عليهم أو ضيق عليهم: {خبير بصير} يعلم جميع ظواهر أمورهم وحركاتهم وانتقالاتهم وكلامهم وبواطنها فيقيم كل واحد فيما يصلح له من فساد وصلاح وبغي وعدل، ويهيئ لكل شيء من ذلك أسبابه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا يصور نزارة ما في هذه الحياة الدنيا من أرزاق -مهما كثرت- بالقياس إلى ما في الآخرة من فيض غزير. فالله يعلم أن عباده هؤلاء البشر، لا يطيقون الغنى إلا بقدر وأنه لو بسط لهم في الرزق -من نوع ما يبسط في الآخرة- لبغوا وطغوا. إنهم صغار لا يملكون التوازن. ضعاف لا يحتملون إلا إلى حد. والله بعباده خبير بصير. ومن ثم جعل رزقهم في هذه الأرض مقدراً محدوداً، بقدر ما يطيقون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لو جعل الله جميع الناس في بسطة من الرزق لاختلّ نظام حياتهم ببغي بعضهم على بعض؛ لأن بعضهم الأغنياء تحدثه نفسه بالبغي لتوفر أسباب العُدوان كما علمت فيجد من المبغي عليه المقاومةَ وهكذا، وذلك مفض إلى اختلال نظامهم. وبهذا تعلم أن بسط الرزق لبعض العباد كما هو مشاهَد لا يفضي إلى مثل هذا الفساد؛ لأن الغِنى قد يصادف نفساً صالحة ونفساً لها وازع من الدين فلا يكون سبباً للبغي، فإن صادف نفساً خبيثة لا وازع لها فتلك حالة نادرة هي من جملة الأحوال السيئة في العالم ولها ما يقاومها في الشريعة وفصلِ القضاء وغَيرة الجماعة فلا يفضي إلى فساد عام ولا إلى اختلال نظام. وإطلاق فعل التنزيل على إعطاء الرزق في قوله تعالى: {ولكن ينزل بقدر} استعارةٌ لأنه عطاء من رفيع الشأن، فشبه بالنازل من علوّ وتكرر مثل هذا الإطلاق في القرآن، والجمع بين وصفي
{خبير} و {بصير} لأن وصف {خبير} دال على العلم بمصالح العبادِ وأحوالهم قبل تقديرها وتقدير أسبابها، أي العلم بما سيكون.
ووصف {بصير} دالّ على العلم المتعلق بأحوالهم التي حصلت، وفرق بين التعلقين للعلم الإلهي.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الأوّل: لو كان تقسيم الأرزاق وفق هذا البرنامج، فلماذا إذن نرى أشخاصاً لهم رزق وفير وقد أفسدوا وطغوا كثيراً في الدنيا ولم يمنعهم الخالق، سواء على مستوى الأفراد، أو الدول الناهبة والظالمة؟ وفي الجواب على هذا السؤال يجب الانتباه إلى هذه الملاحظة، وهي أن بسط الرزق أحياناً قد يكون أسلوباً للامتحان والاختبار؛ لأن جميع الناس يجب أن يُختبروا في هذا العالم، فقسم منهم يختبرون بواسطة المال. وأحياناً قد يكون بسط الرزق لبعض الافراد لكي يعلموا بأن الثروة لا تجلب السعادة، فعسى أن يعثروا على الطريق ويرجعوا إلى خالقهم، و نحن الآن نرى بعض المجتمعات غرقى بأنواع النعم والثروات، وفي نفس الوقت شملتهم مختلف المصائب والمشاكل، كالخوف والقتل والتلوث الخلقي والقلق بأنواعه المختلفة. فأحياناً تكون الثروة غير المحدودة نوعاً من العقاب الإلهي الذي يشمل بعض الناس، فإذا نظرنا إلى حياتهم من بعيد نراها جميلة، أمّا إذا تفحصناها عن قرب فسوف نشاهد التعاسة بأدنى حالاتها!، وفي هذا المجال هناك قصص عديدة لسلاطين الثروة في الدنيا، حيث يطول بنا المقام لو أردنا سردها.
السؤال الآخر هو: ألا يعني هذا الكلام أنّه متى ما كان الإنسان فقيراً فلا ينبغي له السعي للتوسع في الرزق؛ لأن الخالق جعل مصلحته في هذا الفقر؟ وللجواب على هذا السؤال نقول: إنه قد تكون قلة الرزق بسبب كسل الإنسان وتهاونه أحياناً، فهذا النقص والحرمان ليس ما يريده الله حتماً، بل بسبب أعماله، والإسلام يدعو الجميع إلى الجهد والجهاد والمثابرة وفقاً لتأكيده على أصل السعي وبذل الجهد الذي يشير إليه القرآن في آيات عديدة..