مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞وَلَوۡ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزۡقَ لِعِبَادِهِۦ لَبَغَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٖ مَّا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرُۢ بَصِيرٞ} (27)

قوله تعالى : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير * وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد * ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير * وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير * وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } . في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى : إنه يجيب دعاء المؤمنين ورد عليه سؤال وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبلية وفقر ثم يدعو فلا يشاهد أثر الإجابة فكيف الحال فيه مع ما تقدم من قوله { ويستجيب الذين ءامنوا } ؟ فأجاب تعالى عنه بقوله { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } أي ولأقدموا على المعاصي ، ولما كان ذلك محذورا وجب أن يعطيهم ما طلبوه ، قال الجبائي : هذه الآية تدل على بطلان قول المجبرة من وجهين : ( الأول ) أن حاصل الكلام أنه تعالى : { لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض } والبغي في الأرض غير مراد فإرادة بسط الرزق غير حاصلة ، فهذا الكلام إنما يتم إذا قلنا إنه تعالى يريد البغي في الأرض ، وذلك يوجب فساد قول المجبرة ( الثاني ) أنه تعالى بين أنه إنما لم يرد بسط الرزق لأنه يفضي إلى المفسدة فلما بين تعالى أنه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريدا للمفسدة كان أولى ، أجاب أصحابنا بأن الميل الشديد إلى البغي والقسوة والقهر صفة حدثت بعد أن لم تكن فلا بد لها من فاعل ، وفاعل هذه الأحوال إما العبد أو الله والأول باطل لأنه إنما يفعل هذه الأشياء لو مال طبعه إليها فيعود السؤال في أنه من المحدث لذلك الميل الثاني ؟ ويلزم التسلسل ، وأيضا فالميل الشديد إلى الظلم والقسوة عيوب ونقصانات ، والعاقل لا يرضى بتحصيل موجبات النقصان لنفسه ، ولما بطل هذا ثبت أن محدث هذا الميل والرغبة هو الله تعالى ، ثم أورد الجبائي في تفسيره على نفسه سؤالا قال : فإن قيل أليس قد بسط الله الرزق لبعض عباده مع أنه بغى ؟ وأجاب عنه بأن الذي عنده الرزق وبغى كان المعلوم من حاله أنه يبغي على كل حال سواء أعطى ذلك الرزق أو لم يعط ، وأقول هذا الجواب فاسد ويدل عليه القرآن والعقل ، أما القرآن فقوله تعالى : { إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى } حكم مطلقا بأن حصول الغنى سبب لحصول الطغيان . وأما العقل فهو أن النفس إذا كانت مائلة إلى الشر لكنها كانت فاقدة للآلات والأدوات كان الشر أقل ، وإذا كانت واجدة لها كان الشر أكثر ، فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان .

المسألة الثانية : في بيان الوجه الذي لأجله كان التوسع موجبا للطغيان ذكروا فيه وجوها ( الأول ) أن الله تعالى لو سوى في الرزق بين الكل لامتنع كون البعض خادما للبعض ولو صار الأمر كذلك لخرب العالم وتعطلت المصالح ( الثاني ) أن هذه الآية مختصة بالعرب فإنه كلما اتسع رزقهم ووجدوا من المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم أقدموا على النهب والغارة ( الثالث ) أن الإنسان متكبر بالطبع فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر ، وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه انكسر فعاد إلى الطاعة والتواضع .

المسألة الثالثة : قال خباب بن الأرث فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها ، وقيل نزلت في أهل الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى .

ثم قال تعالى : { ولكن ينزل بقدر ما يشاء } قرأ ابن كثير وأبو عمرو { ينزل } خفيفة والباقون بالتشديد ، ثم نقول { بقدر } بتقدير يقال قدره قدرا وقدرا { إنه بعباده خبير بصير } يعني أنه عالم بأحوال الناس وبطباعهم وبعواقب أمورهم فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم .