قوله تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } ، قال خَبَّاب بن الأرتِّ : فينا نزلت هذه الآية ، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قُرَيْظَة والنَّضير وبني قَينقاعَ وتمنيناها فأنزل الله عز وجل { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ } ، لطغوا في الأرض ، قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ){[49307]} : بغيهم طَلَب ( هم ){[49308]} منزلةً بعد منزلة ، ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس ، ولكن ينزل أرزاقهم بقدر ما شاء نظراً منه لعباده{[49309]} .
( قرأ ابن كثير{[49310]} وأبو عمر يُنَّزِّلُ مشددة ، والباقون{[49311]} مخففة ) إنَّه بعباده خبيرٌ بصيرٌ . روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عز وجل في حديث طويل وفيه يقول الله عزَّ وجلَّ : «ما تَرَدَّدْتُ في شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي في قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي المُؤْمِن يَكْرَهُ المَوْتَ وأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ{[49312]} وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وإنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ لمَنْ يَسْأَلُنِي البَابَ عَنِ العِبَادَةِ فأَكُفُّهُ عَنْهُ ( أّنْ ){[49313]} لاَ يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فيُفْسِدَهُ ذَلِكَ وَإنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ لمَنْ لاَ يُصْلِحُ إيمَانَهُ إلاَّ الغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي ( المُؤمِنِينَ ){[49314]} لمَنْ لاَ يًصْلِحُ إيمَانهُ إلاَّ الفَقْرُ ولو أَعْنَيْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي ( المُؤْمِنِينَ ) لمَنْ لاَ يًصْلِحُ إيمانَهُ إلاَّ الصِّحَّةُ ، وَلَوْ أَسْقَمتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي ( المُؤْمِنِينَ ) لمَنء لاَ يُصْلِحُ إيمَانَهُ إلاَّ السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ وذّلِكَ أَنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ ِإنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ »{[49315]} .
وجه التعلق أنه تعالى لما قال في الآية الأولى إنه يجيب دعاء المؤمنين وَرَدَ عليه سؤالٌ وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبليَّةٍ وفَقْر ثم يدعو فلا يظهر أثر الإجابة فكيف الجمع بينه وبين قوله : ويستجيب الذين آمنوا ؟ ! فأجاب تعالى عنه بقوله : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } ، ولأقدموا على المعاصي ، فلذلك وجب أن لا يعطيهم ما طلبوه ، ويؤيده الحديث المتقدم{[49316]} .
فصل{[49317]}
قال الجبائِيُّ : هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة من وجهين :
الأول : أنه تعالى لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض غير مراد ، فعلمنا أنه تعالى لا يريد البَغْيَ في الأرض ، وذلك يوجب فساد قول المجبرة .
الثاني : أنه تعالى إنما لم يرد بسط الرزق ؛ لأنه يفضي إلى المفسدة ، فلما بين تعالى أنه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريداً للمفسدة كان أولى .
وأجيب : بأن الميل إلى البغي والقسوة والقهر صفة حدثت بعد أن لم تكن ، فلا بد لها من فاعل وفاعل هذه الأحوال إما البعد أو الله ، والأول باطل ؛ لأنه إنما يفعل هذه الأشياء لو مال طبعه إليه وعاد السؤال في أنه من المحدث لذلك الميل الثاني ؟ ويلزم التسلسل ، وأيضاً فالميل الشديد إلى الظلم والقسوة عيوبٌ ونقصاناتٌ ، والعاقل لا يرضى بتحصيل موجبات النقصان لنفسه ، ولما بطل هذا ثبت أن محدث هذا الميل والرغبة هو الله تعالى .
ثم أورده الجبائي على نفسه سؤالاً :
فإن قيل : أليس قد يبسط الله الرزق لبعض عباده مع أنه يبغي ؟ ! .
فأجاب عنه : بأن الذي يبسط له الرزق إذا بغى كان المعلوم من حاله أنه يبغي على كل حال سواء أُعْطِيَ ذلك الرزق أو لم يُعْطَ{[49318]} . قال ابن الخطيب : هذا الجواب فاسد ، ويدل عليه القرآن والعقل أما القرآن فقوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رءآه استغنى } [ العلق : 6-7 ] حكم مطابق لكن حصول الغنى سبب لحصول الطغيان وأما العقل فهو أن النفس إذا كانت مائلةً إلى الشر فمع حصول الغنى تميل إلى الشر أكثر ، فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان{[49319]} .
في كون بسط الرزق موجباً للطغيان وجوه :
الأول : أن الله تعالى لو سوَّى في الرزق بين الكل لامتنع كون البعض محتاجاً إلى البعض ، وذلك يوجب خراب العالم وتعطيل المصالح .
الثاني : أن هذه الآية مختصة بالعرب . فإنه{[49320]} كلما اتسع رزقهم ، ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم ، أقدموا على النهب والغارة .
الثالث : أن الإنسان متكبر بالطبع ، فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبليَّة ومكروه انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة{[49321]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.