قوله تعالى :{ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد* من كان يظن أن لن ينصره الله } يعني : نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم { في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب } أي : بحبل { إلى السماء } أراد بالسماء سقف البيت على قول الأكثرين ، أي : ليشد حبلاً في سقف بيته فليختنق به حتى يموت ، { ثم ليقطع } الحبل بعد الاختناق . وقيل : ثم ليقطع . أي ليمد الحبل حتى ينقطع في فيموت مختنقاً { فلينظر هل يذهبن كيده } صنعه وحيلته ، { ما يغيظ } ( ( ما ) ) بمعنى المصدر ، أي : هل يذهبن كيده وحيلته غيظه ؟ معناه : فليختنق غيظاً حتى يموت . وليس هذا على سبيل الحتم أن يفعله لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق والموت ، ولكنه كما يقال للحاسد : إن لم ترض هذا فاختنق ومت غيظاً . وقال ابن زيد : المراد من السماء السماء المعروفة . ومعنى الآية : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره ليقطعه عنه فليقطعه من أصله ، فإن أصله من السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل . وروي أن هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان ، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود حلف ، وقالوا : لا يمكننا أن نسلك لأنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود ، فلا يميرونا ولا يؤونا فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد : ( ( النصر ) ) بمعنى الرزق والهاء راجعة إلى من ومعناه : من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة . نزلت فيمن أساء الظن بالله وخاف ألا يرزقه ، { فليمدد بسبب إلى السماء } أي : إلى سماء البيت ، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ ، وهو خيفة أن لا يرزق . وقد يأتي النصر بمعنى الرزق ، تقول العرب : من ينصرني نصره الله . أي : من يعطني أعطاه الله ، قال أبو عبيدة : تقول العرب : أرض منصورة ، أي : ممطورة . قرأ أبو عمرو ، و نافع ، وابن عامر ، و يعقوب : ( ( ثم ليقطع ) ) ( ( ثم ليقضوا ) ) بكسر اللام ، والباقون بجزمها لأن الكل لام الأمر ، زاد ابن عامر وليوفوا نذورهم وليطوفوا بكسر اللام فيهما ، ومن كسر في : ( ( ثم ليقطع ) ) وفي ( ( ثم ليقضوا ) ) فرق بأن ثم مفصول من الكلام ، والواو كأنها من نفس الكلمة كالفاء في قوله : { فلينظر } .
{ 15 } { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }
أي : من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله ، وأن دينه سيضمحل ، فإن النصر من الله ينزل من السماء { فَلْيَمْدُدْ } ذلك الظان { بِسَبَبٍ } أي : حبل { إِلَى السَّمَاءِ } وليرقى إليها { ثُمَّ لِيَقْطَعْ } النصر النازل عليه من السماء{[536]} .
{ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ } أي : ما يكيد به الرسول ، ويعمله من محاربته ، والحرص على إبطال دينه ، ما يغيظه من ظهور دينه ، وهذا استفهام بمعنى النفي [ وأنه ] ، لا يقدر على شفاء غيظه بما يعمله من الأسباب .
ومعنى هذه الآية الكريمة : يا أيها المعادي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، الساعي في إطفاء دينه ، الذي يظن بجهله ، أن سعيه سيفيده شيئا ، اعلم أنك مهما فعلت من الأسباب ، وسعيت في كيد الرسول ، فإن ذلك لا يذهب غيظك ، ولا يشفي كمدك ، فليس لك قدرة في ذلك ، ولكن سنشير عليك برأي ، تتمكن به من شفاء غيظك ، ومن قطع النصر عن الرسول -إن كان ممكنا- ائت الأمر مع بابه ، وارتق إليه بأسبابه ، اعمد إلى حبل من ليف أو غيره ، ثم علقه في السماء ، ثم اصعد به حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر ، فسدها وأغلقها واقطعها ، فبهذه الحال تشفي غيظك ، فهذا هو الرأي : والمكيدة ، وأما ما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك ، ولو ساعدك من ساعدك من الخلق . وهذه الآية الكريمة ، فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لدينه ولرسوله وعباده المؤمنين ما لا يخفى ، ومن تأييس الكافرين ، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ، ولو كره الكافرون ، أي : وسعوا مهما أمكنهم .
ثم بين سبحانه أن نصره لنبيه صلى الله عليه وسلم آت لا شك فيه مهما كره ذلك الكارهون . فقال تعالى : { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا . . . وأن الله يهدي من يريد } .
للعلماء فى تفسير الآية الأولى أقوال :
أولها أن الضمير فى قوله { يَظُنُّ } يعود إلى أعداء النبى - صلى الله عليه وسلم - وفى قوله { يَنصُرَهُ } يعود إليه - صلى الله عليه وسلم - .
والمعنى : { من كان يظن } من الكافرين الكارهين للحق الذى جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - { أن لن ينصره الله } . أى : أن لن ينصر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - { فى الدنيا والآخرة فليمدد } هذا الكافر { بسبب } أى : بحبل إلى السماء ، أى : سقف بيته ، لأن العرب تسمى كل ما علاك فهو سماء .
" ثم ليقطع " ثم ليختنق هذا الكافر بهذا الحبل ، بأن يشده حول عنقه ويتدلى من الحبل المعلق بالسقف حتى يموت .
{ فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ } أى : فليتفكر هذا الكافر فى أمره ، هل يزيل فعله هذا ما امتلأت به نفسه من غيط لنصر الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ؟
كلا ، فإن ما يفعله بنفسه من الاختناق والغيظ ، لن يغير شيئاً من نصر الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فليمت هذا الكافر بغيظه وكيده .
فالمقصود بالآية الكريمة ، بيان أن ما قدره الله - تعالى - من نصر لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لن يحول بين تنفيذه حائل ، مهما فعل الكافرون ، وكره الكارهون ، فليموتوا بغيظهم ، فإن الله - تعالى - ناصر نبيه لا محالة .
وصح عود الضمير فى قوله { أَن لَّن يَنصُرَهُ } إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - مع أنه لم يسبق له ذكر ، لأن الكلام دال عليه فى الآيات السابقة ، إذ المراد بالإيمان فى قوله - تعالى - فى الآية السابقة { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . } الإيمان بصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عند ربه - تعالى - .
وعبر - سبحانه - عن اختناق هذا الحاقد بالحبل بقوله : { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } لأن قطع الشىء يؤدى إلى انتهائه وهلاكه ، والمفعول محذوف . والتقدير : ثم ليقطع نفسه أو حياته .
وقد صدر صاحب الكشاف تفسيره للآية بهذا القول فقال : هذا كلام قد دخله اختصار .
والمعنى : إن الله ناصر رسوله فى الدنيا والآخرة ، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك . . فليستقص وسعه ، وليستفرغ مجهوده فى إزالة ما يغيظه . بأن يفعل ما يفعله من بلغ به الغيظ كل مبلغ ، حتى مد حبلاً إلى سماء بيته فاختنق ، فلينظر - هذا الحاسد - وليصور فى نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذى يغيظه ؟
وسمى - سبحانه - فعل هذا الكاف كيداً ، لأنه وضعه موضع الكيد ، حيث لم يقدر على غيره ، أو سماه كذلك على سبيل الاستهزاء ، لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد نفسه .
والمراد : إنه ليس فى يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه . . " .
وثانيها : إن الضمير فى قوله : { لَّن يَنصُرَهُ } يعود إلى " من " فى قوله { مَن كَانَ يَظُنُّ } وأن النصر هنا بمعنى الرزق . .
فيكون المعنى : من كان من الناس يظن أن لن يرزقه الله فى الدنيا والآخرة فليختنق ، وليقتل نفسه ، إذ لا خير فى حياة ليس فيها رزق الله وعونه ، أو فليختنق ، فإن اختناقه لن يغير شيئاً مما قضاه الله - تعالى - .
قال الآلوسى : واستظهر أبو حيان كون الضمير فى " ينصره " عائداً على " من " لأنه المذكور ، وحق الضمير أن يعود على مذكور . . . وفسر النصر بالرزق .
قال أبو عبيدة : وقف علينا سائل من بنى بكر فقال : من ينصرنى نصره الله - أى : من يرزقنى رزقه الله .
والمعنى : أن الارزاق بيد الله - تعالى - لا تنال إلا بمشيئته ، فمن ظن أن الله - تعالى - غير رازقه ، ولم يصبر ولم يستسلم فليختنق ، فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقاً .
والغرض : الحث على الرضا بما قسمه الله - تعالى - لا كمن يعبده على حرف . . .
وثالثها : أن الآية فى قوم من المسلمين استبطأوا نصر الله - تعالى - لاستعجالهم وشدة غيظهم وحنقهم على المشركين ، فنزلت الآية لبيان أن كل شىء عند الله بمقدار .
ويكون المعنى : من كان من الناس يظن أن لن ينصره الله ، واستبطأ حدوث ذلك ، فليمت غيظاً . لأن للنصر على المشركين وقتاً لا يقع إلا فيه بإذن الله ومشيئته .
ويبدو أن أقرب الأقوال إلى الصواب ، القول الأول ، وعليه جمهور المفسرين ، ويؤيده قوله - تعالى - : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } وقوله - سبحانه - : { . . . وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور }
فأما من يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة ؛ ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة . فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء ؛ وليذهب بنفسه كل مذهب ، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء :
( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ، فليمدد بسبب إلى السماء ، ثم ليقطع ، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) !
وهو مشهد متحرك لغيظ النفس ، وللحركات المصاحبة لذلك الغيظ ، يجسم هذه الحالة التي يبلغ فيها الضيق بالنفس أقصاه ، عندما ينزل بها الضر وهي على غير اتصال بالله .
والذي ييأس في الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة ، وكل نسمة رخية ، وكل رجاء في الفرج ، ويستبد به الضيق ، ويثقل على صدره الكرب ، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء .
فمن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى السماء يتعلق به أو يختنق . ثم ليقطع الحبل فيسقط أو ليقطع النفس فيختنق . . ثم لينظر هل ينقذه تدبيره ذاك مما يغيظه !
ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله . ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله . ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر ، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله . وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب ، ومضاعفة الشعور به ، والعجز عن دفعه بغير عون الله . . فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم عليه من روح الله . . .
{ فليمدد بسبب } وليختنق ولينظر هل يذهب بذلك غيظه ، قال هذا المعنى قتادة وهذا على جهة المثل السائر قولهم دونك الحبل فاختنق ، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه ، و «السبب » الحبل ، و «النصر » معروف ، إلا أن أبا عبيدة ذهب به إلى معنى الرزق كما قالوا أرض منصورة أي ممطورة{[8322]} وكما قال الشاعر : [ الطويل ]
وإنك لا تعطي امرأً فوق حقه . . . ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره{[8323]}
وقال : وقف بنا سائل من بني أبي بكر فقال من ينصرني ينصره الله ، و { السماء } على هذه الأقوال الهواء علواً فكأنه أراد سقفاً أو شجرة أو نحوه وقال ابن يزيد { السماء } هي المعروفة ، وذهب إلى معنى آخر كأنه قيل لمن يظن أن الله تعالى لا ينصر محمداً إن كنت تظن ذلك فامدد { بسبب إلى السماء } واقطعه إن كنت تقدر على ذلك فإن عجزت فكذلك لا تقدر على قطع سبب محمد صلى الله عليه وسلم إذ نصرته من هنالك والوحي الذي يأتيه .
قال القاضي أبو محمد : و «القطع » على هذا التأويل ليس بالاختناق بل هو جزم السبب ، وفي مصحف ابن مسعود «ثم ليقطعه » بهاء ، والجمهور على أن القطع هنا هو الاختناق ، وقال الخليل : وقطع الرجل إذا اختنق بحبل أو نحوه ثم ذكر الآية ، وتحتمل الآية معنى آخر وهو أن يراد به الكفار وكل من يغتاظ بأن ينصره الله ويطمع أن لا ينصر قيل له من ظن أن هذا لا ينصر فليمت كمداً هو منصور لا محالة فليختنق هذا الظان غيظاً وكمداً ويؤيد هذا أن الطبري والنقاش قالا : ويقال نزلت في نفر من بني أسد وغطفان قالوا نخاف أن ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من يهود من المنافع ، والمعنى الأول الذي قيل فيه للعابدين { على حرف } [ الحج : 11 ] ليس بهذا ولكنه بمعنى من قلق واستبطأ النصر وظن أن محمداً لا ينصر فليختنق سفاهة إذ تعدى الأمر الذي حد له في الصبر وانتظار صنع الله ، وقال مجاهد : الضمير في { ينصره } عائد على { من } والمعنى من كان من المتقلقين من المؤمنين .
ع والضمير في التأويل الذي ذكرناه في أن يراد الكفار لا يعود إلا على النبي صلى الله عليه وسلم فقط ، وقالت فرقة : الضمير عائد على الدين والقرآن ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر «لِيقطع فلِينظر » بكسر اللام فيهما على الأصل وهي قراءة الجمهور ، وقرأ عاصم والحمزة والكسائي بسكون اللام فيهما في لام الأمر في كل القرآن مع الواو والفاء و «ثم » ، واختلف عن نافع وهي قراءة الحسن وأبي عمرو وعيسى ، ع أما الواو والفاء إذا دخلا ( إحداهما ){[8324]} على الأمر فحكى سيبويه أنهم يرونها كأنها من الكلمة ، فسكون اللام تخفيف وهو أفصح من تحريكها ، وأما «ثم » فهي كلمة مستقلة فالوجه تحريك اللام بعدها ع وقد رأى بعض النحويين الميم من «ثم » بمنزلة الواو والفاء ، وقوله تعالى : { ما يغيظ } يحتمل أن تكون { ما } بمعنى الذي ، وفي { يغيظ } عائد عليها ، ويحتمل أن تكون مصدرية حرفاً فلا عائد عليها ، و «الكيد » هو مده السبب ع وأبين وجوه هذه الآية أن تكون مثلاً ويكون «النصر » المعروف و «القطع » الاختناق و { السماء } الارتفاع في الهواء بسقف أو شجرة ونحوه فتأمله ، وقوله تعالى : { وكذلك أنزلناه } إلى { شهيد } المعنى وكما وعدنا بالنصر وأمرنا بالصبر كذلك أنزلنا القرآن آية بينة لمن نظر واهتدى لا ليقترح معها ويستعجل القدر ، وقال الطبري : المعنى وكما بينت حجتي على من جحد قدرتي على إحياء الموتى .
موقع هذه الآية غامض ، ومُفادها كذلك . ولنبدأ ببيان موقعها ثم نتبعه ببيان معناها فإن بين موقعها ومعناها اتصالاً .
فيحتمل أن يكون موقعها استئنافاً ابتدائياً أريد به ذكر فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين في قوله تعالى : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } [ الحج : 8 ] الآية ، وقوله : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } [ الحج : 11 ] . وهذا الفريق الثالث جماعة أسلموا واستبطأوا نصْر المسلمين فأيسوا منه وغاظهم تعجُّلهم للدخول في الإسلام وأن لم يتريثوا في ذلك وهؤلاء هم المنافقون .
ويحتمل أن يكون موقعها تذييلاً لقوله : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } [ الحج : 11 ] الآية بعد أن اعتُرض بين تلك الجملة وبين هاته بجمل أخرى فيكون المراد : أن الفريق الذين يعبدون الله على حرف والمخبر عنهم بقوله : { خسر الدنيا والآخرة } [ الحج : 11 ] هم قوم يظنون أن الله لا ينصرهم في الدنيا ولا في الآخرة إنْ بقُوا على الإسلام .
فأما ظنهم انتفاء النصر في الدنيا فلأنهم قد أيسوا من النصر استبطاءً ، وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤمنون بالبعث ومن أجل هذا علق فعل { لن ينصره } بالمجرور بقوله { في الدنيا والآخرة } إيماء إلى كونه متعلق الخسران في قوله { خسر الدنيا والآخرة } [ الحج : 11 ] . فإن عدم النصر خسران في الدنيا بحصول ضده ، وفي الآخرة باستحالة وقوع الجزاء في الآخرة حسب اعتقاد كفرهم ، وهؤلاء مشركون مترددون .
ويترجح هذا الاحتمالُ بتغيير أسلوب الكلام ، فلم يعطف بالواو كما عطف قوله { ومن الناس من يعبد الله } [ الحج : 11 ] ولم تورد فيه جملة { ومن الناس } كما أوردت في ذكر الفريقين السابقين ويكون المقصود من الآية تهديد هذا الفريق . فيكون التعبير عن هذا الفريق بقوله { من كان يظن } الخ إظهاراً في مقام الإضمار ؛ فإن مقتضى الظاهر أن يؤتَى بضمير ذلك الفريق فيقالَ بعد قوله : { إن الله يفعل ما يريد } [ الحج : 14 ] ، { فليمدد بسبب إلى السماء } الخ . . . عائداً الضميرُ المستتر في قوله { فليمدد } على { مَن يعبد الله على حرف } [ الحج : 11 ] .
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لوجهين ، أحدهما : بُعد معاد الضمير ، وثانيهما : التنبيه على أنّ عبادته الله على حرف ناشئة عن ظنه أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة إن صمم على الاستمرار في اتباع الإسلام لأنه غير واثق بوعد النصر للمسلمين .
وضمير النصب في { ينصره } عائد إلى { من يعبد الله على حرف } [ الحج : 11 ] على كلا الاحتمالين .
واسم { السماء } مرادٌ به المعنى المشهور على كلا الاحتمالين أيضاً أخذاً بما رواه القرطبي عن ابن زيد ( يعني عبد الرحمان بن زيد بن أسلم ) أنه قال في قوله تعالى : { فليمدد بسبب إلى السماء } قال : هي السماء المعروفة ، يعني المُظِلة . فالمعنى : فليَنُط حبلاً بالسماء مربوطاً به ثم يقطعه فيسقط من السماء فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئاً من إزالة غيظه .
ومفعول { يقطع } محذوف لدلالة المقام عليه .
والتقدير : ثم ليقطعه ، أي ليقطع السبب .
والأمر في قوله { فليمدد بسبب إلى السماء } للتعجيز ، فيعلم أن تعليق الجواب على حصول شرطٍ لا يقع كقوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا } [ الرحمن : 33 ] .
وأما استخراج معنى الآية من نظمها فإنها نُسجت على إيجاز بديع ، شُبهت حالة استبطان هذا الفريق الكفر وإظهارِهم الإسلام على حنَق ، أو حالةُ تردّدهم بين البقاء في المسلمين وبين الرجوع إلى الكفار بحالة المغتاظ مما صنع فقيل لهم : عليكم أن تفعلوا ما يفعله أمثالكم ممن ملأهم الغيظ وضاقت عليهم سُبل الانفراج ، فامدُدوا حبلاً بأقصى ما يُمَدّ إليه حبلٌ ، وتعلّقوا به في أعلى مكان ثم قطعوه تخرّوا إلى الأرض ، وذلك تهكم بهم في أنهم لا يجدون غنى في شيء من أفعالهم ، وإنذار باستمرار فتنتهم في الدنيا مع الخسران في الآخرة .
ويحتمل أن تكون الآية مشيرة إلى فريق آخر أسلموا في مدة ضعف الإسلام واستبطأوا النصر فضاقت صدورهم فخطرت لهم خواطر شيطانية أن يتركوا الإسلام ويرجعوا إلى الكفر فزجرهم الله وهددهم بأنهم إن كانوا آيسين من النصر في الدنيا ومُرتابين في نَيل ثواب الآخرة فإن ارتدادهم عن الإسلام لا يضرّ الله ولا رسوله ولا يكيد الدينَ وإن شاءوا فليختنقوا فينظروا هل يزيل الاختناق غيظهم ، ولعلّ هؤلاء من المنافقين .
فموقع الآية على هذا الوجه موقع الاستئناف الابتدائي لذكر فريق آخر يشبه من يعبد الله على حرف ، والمناسبة ظاهرة .
ويجيء على هذا الوجه أن يكون ضمير { ينصره الله } عائداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مروي عن ابن عباس واختاره الفرّاء والزجاج .
ويستتبع ذلك في كل الوجوه تعريضاً بالتنبيه لخلص المؤمنين أن لا ييأسوا من نصر الله في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط . قال تعالى : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين } [ الأحزاب : 2324 ] الآية .
والسبب : الحبل . وتقدم في قوله { وتقطعت بهم الأسباب } في [ سورة البقرة : 166 ] .
والقطع : قيل يطلق على الاختناق لأنه يقطع الأنفاس .
و ( مَا ) مصدرية ، أي غيظَهُ .
والاستفهام ب { هل } إنكاري ، وهو معلق فعلَ { فلينظر } عن العمل ، والنظر قلبي ، وسمي الفعلُ كيداً لأنه يشبه الكيد في أنه فعله لأن يكيد المسلمين على وجه الاستعارة التهكمية فإنه لا يكيد به المسلمين بل يضر به نفسه .
وقرأ الجمهور { ثم لْيَقطع } بسكون لام ليقطع وهو لام الأمر . فإذا كان في أول الكلمة كان مكسوراً ، وإذا وقع بعد عاطف غير ( ثُمّ ) كان ساكناً مثل { ولْتَكُنْ منكم أمّة } [ آل عمران : 104 ] . فإذا وقع بعد ( ثُم ) جاز فيه الوجهان . وقرأه ابن عامر ، وأبو عمرو وورش عن نافع ، وأبو جعفر ورويس عن يعقوب بكسر اللام .