اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لۡيَقۡطَعۡ فَلۡيَنظُرۡ هَلۡ يُذۡهِبَنَّ كَيۡدُهُۥ مَا يَغِيظُ} (15)

قوله : { مَن كَانَ يَظُنُّ } . «مَنْ » يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر{[30458]} ، وأن تكون موصولة ، والضمير في «يَنْصُرَهُ » الظاهر عوده على «مَنْ » ، وفسر النصر بالرزق{[30459]} ، وقيل{[30460]} يعود على الدين والإسلام فالنصر على بابه{[30461]} .

قال ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء{[30462]} والزجاج{[30463]} : أن الضمير في «يَنْصُرَهُ » يرجع إلى محمد - عليه السلام{[30464]} - يريد أن من ظن أن لن ينصر{[30465]} الله محمداً في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه ، وفي الآخرة بإعلاء درجته ، والانتقام ممن كذبه ، والرسول - عليه السلام{[30466]} - وإن لم يجر له ذكر في هذه الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله{[30467]} : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله {[30468]} .

قوله : «فَلْيَمْدُد » إما جزاء للشرط ، أو خبر للموصول ، والفاء للتشبيه بالشرط . والجمهور على كسر اللام من «ليَقْطَعْ » ، وسكنها بعضهم كما يسكنها بعد الفاء والواو لكونهن عواطف{[30469]} ، ولذلك أجروا «ثم » مجراهما في تسكين هاء ( هو ) و ( هي ) بعدها{[30470]} ، وهي قراءة الكسائي ونافع في رواية قالون عنه{[30471]} .

قوله : { هَلْ يُذْهِبَنَّ } الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافض ، لأن النظر تعلق بالاستفهام ، وإذا كان بمعنى الفكر تعدى ب «في »{[30472]} .

وقوله : { مَا يَغِيظُ } «ما » موصولة بمعنى الذي ، والعائد هو الضمير المستتر ، و «ما » وصلتها مفعول بقوله : «يُذْهِبَنَّ » أي : هل يذهبن كيده الشيء الذي يغيظه ، فالمرفوع في «يغيظه » عائد على الذي والمنصوب على { مَن كَانَ يَظُنُّ } . وقال أبو حيان : و «ما » في «مَا يَغِيظُ » بمعنى الذي والعائد محذوف أو مصدرية {[30473]} . قال شهاب الدين : كلا هذين القولين لا يصح ، أما قوله : العائد محذوف فليس كذلك بل هو مضمر مستتر في حكم الموجود كما تقدم تقريره قبل ذلك ، وإنما يقال : محذوف فيما كان منصوب المحل أو مجروره{[30474]} ، وأما قوله : أو مصدرية فليس كذلك أيضاً ، إذ لو كانت مصدرية لكانت حرفاً على الصحيح ، وإذا كانت حرفاً لم يعد عليها ضمير وإذا لم يعد عليها ضمير بقي الفعل بلا فاعل ، فإن قلت : أضمر{[30475]} في «يَغِيْظ » ضميراً فاعلاً يعود على { مَن كَانَ يَظُنُّ } .

فالجواب : أن من كان يظن في المعنى مغيظ{[30476]} لا غائظ . وهذا بحث حسن{[30477]} .

فصل{[30478]}

المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ، والسبب الحبل ، والسماء سقف البيت هذا قول الأكثرين ، أي : ليشدد حبلاً في سقف بيته فليختنق به حتى يموت ، ثم ليقطع الحبل بعد الاختناق .

وقيل : سمي الاختناق قطعاً . وقيل : ليقطع ، أي : ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } صنيعه وحيلته ، أي : هل يذهبن كيده وحيلته غيظه . والمعنى : فليختنق غيظاً حتى يموت ، وليس هذا على سبيل الحتم أن يفعل لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق والموت ، ولكنه كما يقال للحاسد إذا لم ترض بهذا فاختنق ومت غيظاً . وقال ابن زيد : المراد من السماء : السماء المعروفة . ومعنى الآية : من كان يظن أن لا ينصر الله نبيه ، ويكيد في أمره ليقطعه عنه ، فليقطعه من أصله ، فإن أصله من السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل .

فصل

روي أن هذه{[30479]} الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام ، وكان بينهم وبين اليهود حلف ، وقالوا : لا يمكننا أن نسلم لأنا نخاف أن لا يُنصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود فلا يميروننا ولا يؤووننا{[30480]} فنزلت هذه الآية وقال مجاهد : النصر يعني الرزق ، والهاء راجعة إلى «مَنْ » ومعناه من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة : نزلت فيمن أساء الظن بالله - عز وجل{[30481]} - وخاف أن لا يرزقه { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء } أي : سماء البيت ، { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ } فعله ذلك ما يغيظ وهو خِيفَة{[30482]} أن لا يُرزق . وقد يأتي النصر بمعنى الرزق تقول العرب : من ينصرني نصره الله ، أي من يعطيني أعطاه الله{[30483]} . قال أبو عبيدة{[30484]} : تقول العرب : أرض منصورة ، أي ممطورة{[30485]} وعلى{[30486]} كل الوجوه فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه .


[30458]:وجواب الشرط قوله: "فليمدد" التبيان 2/935.
[30459]:وكان الظاهر عود الضمير على "من" لأنه المذكور، وحق الضمير أن يعود على المذكور. الفخر الرازي 23/18، البحر المحيط 6/357.
[30460]:في ب: فصل.
[30461]:انظر البحر المحيط 6/358.
[30462]:معاني القرآن 2/218.
[30463]:معاني القرآن وإعرابه 3/417.
[30464]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[30465]:في ب: ينصره. وهو تحريف.
[30466]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[30467]:في قوله: سقط من ب.
[30468]:انظر الفخر الرازي 23/16-17.
[30469]:في الأصل: عواطفا.
[30470]:انظر السبعة (151 – 152) الكشف 1/234.
[30471]:السبعة (434 – 435) الكشف 2/116 – 117، النشر 2/326، الإتحاف 314، وحركة لام الطلب الكسرة، وسليم تفتحها طلبا للخفة، ويجوز تسكينها بعد الفاء والواو وثم، وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها نحو قوله تعالى: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي} [البقرة : 186] وإسكانها بعد "ثم" قليل، وإسكان اللام بعد هذه الحروف يجري مجرى إسكان الهاء من (هو)، و(هي)، بعدها فإسكانها أكثر من تحريكها بعد الفاء والواو، وقليل بعد "ثم" انظر شرح المفصل 3/98، الهمع 2/55، وشرح الأشموني 414.
[30472]:وقال أبو البقاء: (وهل يذهبن) في موضع نصب بـ "ينظر" التبيان 2/937.
[30473]:البحر المحيط 6/358.
[30474]:وذلك أن العائد المرفوع لا يجوز حذفه إلا بشرطين أحدهما: أن يكون مبتدأ غير منسوخ، وثانيهما: أن يكون خبره مفردا، والعائد هنا فاعل فلا يجوز أن يطلق عليه بأنه محذوف وإنما هو مضمر. واشترط البصريون أيضا في حذف العائد المرفوع في غير صلة (أي)، استطالة الصلة، والكوفيون لا يشترطون ذلك. شرح التصريح 1/143 – 144.
[30475]:في ب: الضمير. وهو تحريف.
[30476]:في ب: يغيظ. وهو تحريف.
[30477]:الدر المصون: 5/67.
[30478]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن البغوي 5/560، بتصرف يسير.
[30479]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/560-561.
[30480]:في ب: ولا يؤذننا. وهو تحريف.
[30481]:في ب: تعالى.
[30482]:في الأصل: خنقه. وفي ب: صفة. والتصويب من البغوي.
[30483]:اللسان (نصر).
[30484]:في ب: أبو عبيد.
[30485]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/560-561.
[30486]:في الأصل: على.