قوله تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } ، قال ابن عباس ، وابن الزبير ومحمد ابن إسحاق ، والسدي : أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش ، في أربعين راكباً من كفار قريش ، فيهم : عمرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل الزهري ، وفيها تجارة كثيرة ، وهي اللطيمة ، حتى إذا كانوا قريباً من بدر ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فندب أصحابه إليه ، وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدد ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله تعالى أن ينفلكموها ، فانتدب الناس ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً ، فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لعيرهم في أصحابه ، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة . وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها ، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له : يا أخي ، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني ، وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم على ما أحدثك . قال لها : وما رأيت ؟ قالت : رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها ، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل أرفضت ، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها قلقة ، فقال العباس : والله إن هذه لرؤيا رأيت ، فاكتميها ولا تذكريها لأحد . ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكان له صديقاً فذكرها له واستكتمه إياها ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش . قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل ، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ، قال : فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم ، فقال لي أبو جهل : يا بني عبد المطلب ، متى حدثت هذه النبية فيكم ؟ قلت : وما ذاك ؟ قال : الرؤيا التي رأت عاتكة ؟ قلت : وما رأت ؟ قال : يا بني عبد المطلب ، أما رضيتم أن تنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك ما قالت حقاً فسيكون ، وإن تمض الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء ، نكتب عليكم كتاباً إنكم أكذب أهل بيت في العرب . فقال العباس : والله ما كان مني إليه كبير إلا أني حجدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئاً ، ثم تفرقنا ، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم تكن عندك غيرة لشيء مما سمعت . قال : قلت والله قد فعلت ما كان مني إليه من كبير ، وأيم الله ، لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفيكنه . قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه ، قال : فدخلت المسجد ، فرأيته ، فو الله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلاً خفيفاً ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر ، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد . قال : قلت في نفسي : ماله لعنه الله ؟ أكل هذا فرقاً مني أن أشاتمه ؟ قال : فإذا هو قد سمع ما لم أسمع ، سمع صوت ضمضم بن عمرو ، وهو يصرخ ببطن الوادي وافقاً على بعيره ، وقد جدع بعيره وحول رحله ، وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، ولا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث . قال : فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر ، فتجهز الناس سراعاً ، فلم يتخلف من أشراف قريش أحد ، إلا أن أبا لهب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة بن الحارث ، فقالوا : نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني بكر ، فقال : أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، في ليال مضت من شهر رمضان ، حتى إذا بلغ وادياً يقال له ذا قرد ، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء أخذ عيناً للقوم ، فأخبره بهم ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى عبد الله بن أريقط فأتاه بخبر القوم ، وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل جبريل وقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير وإما قريشاً ، وكانت العير أحب إليهم ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير ، فقام أبو بكر فقال فأحسن ، ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، إمض لما أراك الله فنحن معك ، فوالله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ، يعني مدينة الحبشة ، فجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير ، ثم قال رسول صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا ، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل . قال : قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئتنا به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصبر عند الحرب ، صدق في اللقاء ، ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشط ذلك . ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ، قال ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، قال ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا ، قال : فما ماط أحد عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فذلك قوله تعالى { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } أي : الفريقين إحداهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير .
قوله تعالى : { وتودون } ، أي : تريدون .
قوله تعالى : { أن غير ذات الشوكة تكون لكم } ، يعني العير التي ليس فيها قتال . والشوكة : الشدة والقوة ، ويقال السلاح .
قوله تعالى : { ويريد الله أن يحق الحق } أي يظهره ويعليه .
قوله تعالى : { بكلماته } بأمره إياكم بالقتال . وقيل : بعداته التي سبقت من إظهار الدين وإعزازه .
قوله تعالى : { ويقطع دابر الكافرين } ، أي : يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد ، يعني : كفار العرب .
وكان أصل خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام ، قافلة كبيرة ، . فلما سمعوا برجوعها من الشام ، ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس ، . فخرج معه ثلاثمائة ، وبضعة عشر رجلا معهم سبعون بعيرا ، يعتقبون عليها ، ويحملون عليها متاعهم ، . فسمعت بخبرهم قريش ، فخرجوا لمنع عيرهم ، في عَدَدٍ كثير وعُدَّةٍ وافرة من السلاح والخيل والرجال ، يبلغ عددهم قريبا من الألف .
فوعد اللّه المؤمنين إحدى الطائفتين ، إما أن يظفروا بالعير ، أو بالنفير ، . فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين ، ولأنها غير ذات شوكة ، . ولكن اللّه تعالى أحب لهم وأراد أمرا أعلى مما أحبوا .
أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم ، . وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ فينصر أهله وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ أي : يستأصل أهل الباطل ، ويُرِيَ عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم .
ثم حكى - سبحانه - جانباً من مظاهر فضله على المؤمنين ، مع جزع بعضهم من قتال عدوه وعدوهم ، وإيثارهم العير على النفير فقال : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ } .
والمراد بإحدى الطائفتين : العير أو النفير ، والخطاب للمؤمنين .
والمراد بغير ذات الشوكة : العير ، والمراد بذات الشوكة : النفير .
والشوكة في الأصل واحد الشوك وهو النبات الذي له حد ، ثم استعيرت للشدة والحدة . ومنه قولهم : رجل شائك السلاح أى : شديد قوى .
والمعنى : واذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن وعدكم الله - تعالى - على لسان رسوله - بأن إحدى الطائفتين : العير أو النفير هى لكم تظفرون بها ، وتتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه ، وأنتم مع ذلك تودون وتتمنون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح وهى العير .
وعبر - سبحانه - عن وعده لهم بصيغة المضارع { يَعِدُكُمُ } مع أن هذا الوعد كان قبل نزول الآية ، لاستحضار صورة الموعود به في الذهن ، ولمداومة شكره - سبحانه - على ما وهبهم من نصر وفوز .
وإنما وعدهم - سبحانه - إحدى الطائفتين على الإِبهام مع أنه كان يريد إحداهما وهى النفير ، ليستدرجهم إلى الخروج إلى لقاء العدو حتى ينتصروا عليه . وبذلك تزول هيبة المشركين من قلوب المؤمنين .
وقوله { إِحْدَى } مفعول ثاني ليعد . وقوله : { أَنَّهَا لَكُمْ } بدل اشتمال من { إِحْدَى } مبين لكيفية الوعد .
أى : يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم ، ومختصة لكم ، تتسلطون عليها تسلط الملاك ، وتتصرفون فيها كيفيما شئتم .
وقوله : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ } معطوف على قوله : { يَعِدُكُمُ } أى : وعدكم - سبحانه - إحدى الطائفتين بدون تحديد لإِحداهما ، وأنتم تحبون ان تكون لكم طائفة العير التي لا قتال فيها يذكر ، على طائفة النفير التي تحتاج منكم إلى قتال شديد ، وإلى بذل للمهج والأرواح .
وفى هذه الجملة تعريض بهم ، حيث كرهوا القتال ، وأحبوا المال ، وما هكذا يكون شأن المؤمنين الصادقين .
ثم بين لهم - سبحانه - أنهم وإن كانوا يريدون العير ، إلا أنه - سبحانه - يريد لهم النفير ، ليعلو الحق ، ويزهق الباطل ، فقال : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } .
أى : ويريد الله بوعده غير ما أردتم . { 1649 ؛ لشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي أن يظهر الحق ويعلمه بآياته المنزلة على رسوله ، وبقضائه الذي لا يتخلف ، وأن يستأصل الكافرين ويذلهم ، ويقطع دابرهم ؛ أي آخرهم الذي يدبرهم .
والدابر : التابع من الخلف ، يقال : دبر فلان القوم يدبرهم دبورا ، إذا كان آخرهم في المجئ ، والمراد أنه سبحانه يريد أن يستأصلهم استئصالا .
وقد هلك في غزوة بدر عدد كبير من صناديد قريش الذين كانوا يحاربون الإِسلام ، ويستهزئون بتعاليمه .
قال صاحب الكشاف في معنى الآية الكريمة ، قوله : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } يعنى أنكم تريدون العاجلة وسفساف الأمور ، وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم ، والله - عز وجل - يريد معالى الأمور ، وما يرجع إلى عمارة الدين ، ونصرة الحق ، وعلو الكلمة والفوز في الداري ، وشتان ما بين المرادين ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة ، وكسر قوتهم بضعفكم ، وغلب كثرتهم بقلتكم ، وأعزكم وأذلهم ، وحصل لكم مالا تعارض أدناه العير وما فيها .
وقوله تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } الآية ، في هذه الآية قصص حسن أنا اختصره إذ هو مستوعب في كتاب سيرَة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن هشام ، واختصاره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه وقيل أوحي إليه أن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها ، قال لأصحابه إن عير قريش قد عنت لكم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها ، قال فانبعث من معه من خف ، وثقل قوم وكرهوا الخروج وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر ولا ينتظر من غاب ظهره{[5223]} ، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه بين مهاجري وأنصاري ، وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حرباً فلم يكثر استعدادهم ، وكان أبو سفيان في خلال ذلك يستقصي ويحذر ، فلما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستفز أهلها ، ففعل ضمضم ، فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجهم ، أوحى الله إليه وحياً غير متلو يعده إحدى الطائفتين ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك ، فسروا وودوا أن تكون لهم العير التي لا قتال معها ، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ طريق الساحل وأبعد ، وفات ، ولم يبق إلا لقاء أهل مكة ، وأشار بعض الكفار على بعض بالانصراف وقالوا عيرنا قد نجت فلننصرف ، فحرش{[5224]} أبو جهل ولج حتى كان أمر الوقعة ، وقال بعض المؤمنين : نحن لم نخرج لقتال ولم نستعد له ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو بواد يسمى ذفران ، وقال أشيروا علي أيها الناس ، فقام أبو بكر فتكلم فأحسن وحرض على لقاء العدو ، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة فقام عمر بمثل ذلك ، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة فتكلم المقداد الكندي فقال : لا نقول لك يا رسول الله اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكن نقول إنا معكما مقاتلون .
والله لو أردت بنا برك الغماد . ( قال القاضي أبو محمد : وهي مدينة بالحبشة ) لقاتلنا معك من دونها ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه ، ودعا له بخير ، ثم قال أشيروا علي أيها الناس فكلمه سعد بن معاذ وقيل سعد بن عبادة .
قال القاضي أبو محمد : ويمكن أنهما جميعاً تكلما في ذلك اليوم ، فقال : يا رسول الله كأنك تريدنا معشر الأنصار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أجل ، فقال إنا آمنا بك واتبعناك فامض لأمر الله ، فوالله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم ) ، فالتقوا وكانت وقعة بدر ، وقرأ مسلمة بن محارب{[5225]} «وإذ يعدْكم » بجزم الدال ، قال أبو الفتح ذلك لتوالي الحركات ، وقرأ ابن محيصن «وإذا يعدكم الله إحدى الطائفتين » بوصل الألف من { إحدى } وصلة الهاء بالحاء ، و { الشوكة } عبارة عن السلاح والحدة ، ومنه قول الأعور : [ الرجز ]إن العرفج قد أدبى***{[5226]} وقرأ أبو عمرو فيما حكى أبو حاتم { الشوكة تكون } بإدغام التاء في التاء ، ومعنى الآية وتودون العير وتأبون قتال الكفار ، وقوله { ويريد الله } الآية ، المعنى ويريد الله أن يظهر الإسلام ويعلي دعوة الشرع ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم «بكلمته » على الإفراد الذي يراد به الجمع ، والمعنى في قوله { بكلماته } إما أن يريد بأوامره وأمره للملائكة والنصر لجميع ما يظهر الإسلام أن يكون ، وإما أن يريد بكلماته التي سبقت في الأزل والمعنى قريب ، و «الدابر » الذي يدبر القوم أي يأتي في آخرهم ، فإذا قطع فقد أتى على آخرهم بشرط أن يبدأ الإهلاك من أولهم ، وهي عبارة في كل من أتى الهلاك عليه .
الأحسن أن تكون { وإذ يعدكم الله } معطوفاً على { كما أخرجك } [ الأنفال : 5 ] عطفَ المفرد على المفرد فيكون المعطوف مشبهاً به التشبيه المفاد بالكاف والمعنى : كاخراجك اللَّهُ من بيتك وكوقتتِ يعدكم الله إحدى الطائفتين الآية واسم الزمان إذا أضيف إلى الجملة كانت الجملة في تأويل المفرد فتُؤَول بمصدر ، والتقدير : وكوقت وعد الله إحدى الطائفتين ، ف { إذ } اسم زمان متصرف مجرور بالعطف على مجرور كاف التشبيه ، وجعَل صاحب « الكشاف » { إذْ } مفعولاً لفعل ( اذكر ) محذوف شأن { إذْ } الواقعة في مفتتح القِصص ، فيكون عطفُ جملةِ الأمر المقدرِ على جملة { قل الأنفال لله } [ الأنفال : 1 ] والمناسبة هي أن كلا القولين فيه توقيفهم على خطأ رأيهم وأن ما كرهوه هو الخير لهم .
و« الطائفة » الجماعة من الناس ، وتقدم عند قوله { فلتقم طائفةٌ منهم معك } في سورة [ النساء : 102 ] .
وجملة : { أنّها لكم } في تأويل مصدر ، هو بدل اشتمال من إحدى الطائفتين ، أي : يعدكم مصيرَ إحدى الطائفتين لكم ، أي كونها معطاة لكم ، وهو إعطاء النصر والغلبة عليها بين قتل وأسر وغنيمة .
واللام للملك وهو هنا ملك عُرفي ، كما يقولون كان يومُ كذا لبني فلان على بني فلان ، فيعرف أنه كان لهم فيه غلبة حرب وهي بالقتل والأسر والغنيمة .
{ وتَودون } إما عطف على { يعَدكم } أي إذ يقع الوعد من الله والود منكم ، وإما في موضع الحال والواو واو الحال ، أي يعدكم الله إحدى الطائفتين في حال ودكم لقاء الطائفة غير ذات الشوكة وهذا الود هو محل التشبيه الذي أفاده عطف { وإذ يعدكم } ، مجرور الكاف في قوله : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } [ الأنفال : 5 ] فهو مما شبه به حال سُؤالهم عَن الأنفال سؤالاً مشوباً بكراهية صرف الأنفال عن السائلين عنها الرائمين أخذها .
و« الوُد » المحبة و { ذات الشوكة } صاحبة الشوكة ووقع { ذات } صفة لمقدر تقديره الطائفة غير ذات الشوكة ، أي الطائفة التي لا تستطيع القتال .
و { الشوكة } أصلها الواحدة من الشوك وهو ما يخرج في بعض النبات من أعواد دقيقة تكون محددة الأطراف كالإبَر ، فإذا نزغت جلد الإنسان أدْمته أو آلمته ، وإذا عَلِقَت بثوب أمسكَتْه ، وذلك مثل ما في ورق العَرفج ، ويقال هذه شجرة شائكة ، ومن الكناية عن ظهور الشر قولُهم : « إن العَوسج قد أوْرق » ، وشوكة العقرب البضعة التي في ذنبها تلسع بها .
وشاع استعارة الشوكة للبأس ، يقال : فلان ذو شوكة ، أي ذو بأس يتقى كما يستعار القرن للبَاس في قولهم : أبدى قَرنه ، والناب أيضاً في قولهم : كشّر عن نابه ، وذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس أي تودون الطائفة التي لا يخشى بأسها تكون لكم أي ملككم فتأخذونهم .
وقد أشارت الآية إلى ما في قصة بدر حين أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بانصراف عِير قريش نحو الساحل وبمجيء نفيرهم إلى بدر ، وأخبرهم أن الله وعدهم إحدى الطائفتين ، أي إما العِير وإمّا النفير وعداً معلقاً على اختيارهم إحداهما ، ثم استشارهم في الأمر أيختارون اللحاق بالعِير أم يقصدون نفير قريش ، فقال الناس : إنما خرجنا لأجل العِير ، وراموا اللحاق بالعِير واعتذروا بضعف استعدادهم وأنهم يخرجوا لمقاتلة جيش ، وكانت العِير لا تشتمل إلا على أربعين رجلاً وكان النفير فيما قيل يشتمل على ألف رجل مسلّح ، فذلك معنى قوله تعالى : { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } أي تودون غنيمة بدون حرب ، فلما لم يطمعوا بلقاء الجيش وراموا لقاء العِير كانوا يودون أن تحصل لهم غنيمة العير ولعل الاستشارة كانت صورية ، أمر الله بها نبيّه لتثبيت المسلمين لئلا تهن قوتهم النفسية إن أُعلموا بأنهم سيلقون ذات الشوكة .
وقوله : { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } عطف على جملة { وتودون } على احتمالي أن واوَها للعطف أو للحال ، والمقصود من الإخبار بهذه الجمل الثلاث إظهار أن ما يودونه ليس فيه كمال مصلحتهم ، وأن الله اختار لهم ما فيه كمال مصلحتهم ، وإن كان يشق عليهم ويرهبهم فإنهم لم يطّلعوا على الأصلح بهم . فهذا تلطف من الله بهم .
والمراد من الإرادة هنا إرادة خاصة وهي المشيئة والتعلق التنجيزي للإرادة التي هي صفة الذات . فهذا كقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] أي يسَّر بكم .
ومعنى { يُحق الحق } : يثبت ما يسمى الحق وهو ضد الباطل يقال : حق الشيء ، إذا ثبت قال تعالى : { أفمن حَق عليه كلمة العذاب } [ الزمر : 19 ] .
والمراد بالحق . هنا : دين الحق وهو الإسلام ، وقد أطلق عليه اسم الحق في مواضع كثيرة من القرآن كقوله : { حتى جاءهم الحق ورسولٌ مبينٌ } [ الزخرف : 29 ] الآية .
وإحقاقه باستيصال معانديه ، فأنتم تريدون نفعاً قليلاً عاجلاً ، وأراد الله نفعاً عظيماً في العاجل والآجل . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .