معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (5)

قوله تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء } ، بالنهار ، { والقمر نورا } بالليل . وقيل : جعل الشمس ذات ضياء ، والقمر ذا نور ، { وقدره منازل } أي : قدر له ، يعنى هيأ له منازل لا يجاوزها ولا يقصر دونها ، ولم يقل : قدرهما . قيل : تقدير المنازل ينصرف إليهما غير أنه اكتفى بذكر أحدهما ، كما قال : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة-62 ] . وقيل : هو ينصرف إلى القمر خاصة لأن القمر يعرف به انقضاء الشهور والسنين ، لا بالشمس . ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلا ، وأسماؤها : الشرطين ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنسر ، والطرف ، والجبهة ، والزبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزباني ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعايم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود وسعد الأخبية ، وفرع الدلو المقدم ، وفرع الدلو المؤخر ، وبطن الحوت . وهذه المنازل مقسومة على البروج ، وهي اثنا عشر برجا : الحمل والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت . ولكل برج منزلان وثلث منزل ، فينزل القمر كل ليلة منزلا منها ، ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين ، وإن كان تسعا وعشرين فليلة واحدة ، فيكون تلك المنازل ويكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوما ، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها . قوله تعالى : { لتعلموا عدد السنين } ، أي : قدر المنازل { لتعلموا عدد السنين } دخولها وانقضاءها ، { والحساب } ، يعني : حساب الشهور والأيام والساعات . { ما خلق الله ذلك } رده إلى الخلق والتقدير ، ولو رده الأعيان المذكورة لقال : تلك . { إلا بالحق } ، أي : لم يخلقه باطلا بل إظهار الصنعة ودلالة على قدرته . { يفصل الآيات لقوم يعلمون } ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ويعقوب : يفصل بالياء ، لقوله : { ما خلق } وقرأ الباقون : نفصل بالنون على التعظيم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (5)

{ 5 - 6 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ } .

لما قرر ربوبيته وإلهيته ، ذكر الأدلة العقلية الأفقية الدالة على ذلك وعلى كماله ، في أسمائه وصفاته ، من الشمس والقمر ، والسماوات والأرض وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف المخلوقات ، وأخبر أنها آيات { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } و { لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ } .

فإن العلم يهدي إلى معرفة الدلالة فيها ، وكيفية استنباط الدليل{[390]}  على أقرب وجه ، والتقوى تحدث في القلب الرغبة في الخير ، والرهبة من الشر ، الناشئين عن الأدلة والبراهين ، وعن العلم واليقين .

وحاصل ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة ، دال على كمال قدرة الله تعالى ، وعلمه ، وحياته ، وقيوميته ، وما فيها من الأحكام والإتقان والإبداع والحسن ، دال على كمال حكمة الله ، وحسن خلقه وسعة علمه . وما فيها من أنواع المنافع والمصالح -كجعل الشمس ضياء ، والقمر نورا ، يحصل بهما من النفع الضروري وغيره ما يحصل- يدل ذلك على رحمة الله تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه ، وما فيها من التخصيصات دال على مشيئة الله وإرادته النافذة .

وذلك دال على أنه وحده المعبود والمحبوب المحمود ، ذو الجلال والإكرام والأوصاف العظام ، الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه ، ولا يصرف خالص الدعاء إلا له ، لا لغيره من المخلوقات المربوبات ، المفتقرات إلى الله في جميع شئونها .

وفي هذه الآيات الحث والترغيب على التفكر في مخلوقات الله ، والنظر فيها بعين الاعتبار ، فإن بذلك تنفتح البصيرة ، ويزداد الإيمان والعقل ، وتقوى القريحة ، وفي إهمال ذلك ، تهاون بما أمر الله به ، وإغلاق لزيادة الإيمان ، وجمود للذهن والقريحة .


[390]:- في ب: الدلائل.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (5)

وبعد أن بين - سبحانه - جانبا من مظاهر قدرته في خلق السموات والأرض ، أتبع ذلك بذكر مظاهر أخرى لقدرته ، تتمثل في خلق الشمس والقمر والليل والنهار فقال - تعالى - :

{ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس . . . } .

ففى هاتين الآيتين - كما يقول الآلوسى - تنبيه على الاستدلال على وجوده - تعالى - ووجدته وعلمه وقدرته وحكمته . بآثار صنيعه في النير بعد التنبيه على الاستدلال بما مر وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير إليه إشارة إجمالية ، وإرشاد إلى أنه - سبحانه - حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبير البديع . فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى .

وقوله { جعل } يجوز أن يكون بمعنى أنشأ وأبدع ، فيكون لفظ { ضياء } حال من المفعول ، ويجوز أن يكون بمعنى صير فيكون اللفظ المذكور مفعولا ثانيا .

وقوله { ضياء } جمع ضوء كسوط وسياط ، وحياض ، وقيل هو مصدر ضاء يضوء ضياء كقام يقوم قياما ، وصام يصوم صياما ، وعلى كلا الوجهين فالكلام على حذف مضاف .

والمعنى : الله - تعالى - وحده هو الذي جعل لكم الشمس ذات ضياء ، وجعل لكم القمر ذا نور ، لكي تنتفعوا بهما في مختلف شئونكم .

قال الجمل : " وخص الشمس بالضياء لأنه أقوى وأكمل من النور ، وخص القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء ولأنهما إذا تساويا لم يعرف الليل من النهار ، فدل ذلك على أن الضياء المختص بالشمس أكمل وأقوى من النور المختص بالقمر " .

هذا دليل ، ومما يدل على التفرقة بين الشمس والقمر في نورهما قوله - تعالى - : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } وقوله - سبحانه - : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ في السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } وقوله : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } معطوف على ما قبله .

والتقدير : جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة في الزمان أو المكان أو غيرهما قال - تعالى - : { والله يُقَدِّرُ الليل والنهار } المنازل : جمع منزل ، وهى أماكن النزول ، وهى - كما يقول بعضهم - ثمانية وعشرون منزلا ، وتنقسم إلى اثني عشر برجا وهى : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، لكل برج منها منزلان وثلث منزل ، وينزل القمر في كل ليلة منزلا منها إلى انقضاء ثمانية وعشرين .

ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما ، ويستتر ليلة واحدة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما .

والضمير في قوله : { قدرناه } يعود إلى القمر ، كما في قوله - تعالى - : { والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم } أي : والله - تعالى - هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ، وقدر للقمر منازل ينزل فيها في كل ليلة على هيئة خاصة ، وطريقة بديعة تدل على قدرة الله وحكمته .

قالوا : وكانت عودة الضمير إلى القمر وحده ، لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس : ولأن منازله معلومة محسوسة ، ولأنه العمدة في تواريخ العرب ، ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأغلب .

وجوز بعضهم أن يكون الضمير للشمس والقمر معا ، أى : وقدر لهما منازل ، أو قدر لسيرهما منازل لا يجاوزانها في السير ، ولا يتعدى أحدهما على الآخر كما قال - تعالى - : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وإنما وحد الضمير للإيجاز كما في قوله - تعالى - : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } وقوله : { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } بيان للحكمة من الخلق والتقدير .

أي : جعل - سبحانه - الشمس ضياء ، والقمر نورا ، وقدره منازل ، لتعلموا عدد السنين التي يفيدكم علمها في مصالحكم الدينية والدنيوية ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم .

قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يخبر الله - تعالى - عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء ، وجعل شعاع القمر نورا ، هذا فن وهذا فن آخر ، ففاوت بينهما لئلا يشتبها ، وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل ، وقدر القمر منازل ، فأول ما يبدو القمر يكون صغيرا ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره ، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى . فبالشمس تعرف الأيام ، ويسير القمر تعرف الشهور والأعوام .

واسم الإِشارة في قوله { مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } يعود إلى المذكور من جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل .

أي : ما خلق الله ذلك الذي ذكره لكم إلا خلقا ملتبسا بالحق ، ومقترنا بالحكمة البالغة التي تقتضيها مصالحكم .

وقوله : { يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } استئناف مسوق لبيان المنتفعين بهذه الدلائل الدالة على قدرة الله ووحدانيته ورحمته بعباده .

أى : يفصل - سبحانه - ويوضح البراهين الدالة على قدرته لقوم يعلمون الحق ، فيستجيبون له ، ويكثرون من طاعة الله وشكره على ما خلق وأنعم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (5)

1

وبعد هذه اللفتة من آيات الله في خلق السماوات والأرض إلى عبادة الله وحده ، الذي إليه المرجع وعنده الجزاء . . يعود السياق إلى الآيات الكونية التالية في وجودها وضخامتها للسماوات والأرض :

( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . ما خلق الله ذلك إلا بالحق . يفصل الآيات لقوم يعلمون ) . .

فهذان مشهدان بارزان من مشاهد الكون ، ننساهما لطول الألفة ، ونفقد وقعهما في القلب بطول التكرار .

وإلا فكيف وهلة الإنسان وهو يشاهد أول مرة أول شروق شمس وأول غروب ، وأول مطلع قمر وأول مغيب ?

هذان مشهدان مألوفان مكروران يردنا القرآن إليهما ، ليثير في مشاعرنا وهلة الجدة ، وليحيي في قلوبنا إحساس التطلع الحي ، والتأمل الذي لم يبلده التكرار ، والتيقظ لما في خلقهما وطبيعة تكوينهما من التدبير المحكم :

( هو الذي جعل الشمس ضياء ) . .

فيها اشتعال .

( والقمر نوراً ) . .

فيه إنارة .

( وقدره منازل ) . .

ينزل في كل ليلة منزلاً يكون فيه على هيئة خاصة ، كما هو مشهود في القمر ، بدون حاجة إلى علوم فلكية لا يدركها إلا المتخصصون .

( لتعلموا عدد السنين والحساب ) . .

وما تزال المواقيت والمواعيد تضبط بالشمس والقمر لكافة الناس .

هل هذا كله عبث ? هل هذا كله باطل ? هل هذا كله مصادفة ?

كلا ما يكون كل هذا النظام ، وكل هذا التناسق ، وكل هذه الدقة التي لا تتخلف معها حركة . ما يكون هذا كله عبثا ولا باطلا ولا مصادفة عابرة :

( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) . .

الحق قوامه . والحق أداته . والحق غايته . والحق ثابت راجح راسخ . وهذه الدلائل التي تشهد به واضحة قائمة دائمة :

( يفصل الآيات لقوم يعلمون ) . .

فالمشاهد التي تعرض هنا في حاجة إلى العلم لإدراك التدبير الكامن وراء المشاهد والمناظر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (5)

هذا استمرار على وصف آيات الله والتنبيه على صنعته الدالة على الصانع ، وهذه الآية تقتضي أن «الضياء » أعظم من «النور » وأبهى بحسب { الشمس } و { القمر } ، ويلحق ها هنا اعتراض وهو أنّا وجدنا الله تعالى شبه هداه ولطفه بخلقه بالنور فقال { الله نور السماوات والأرض }{[6015]} ، وهذا يقتضي أن النور أعظم هذه الأشياء وأبلغها في الشروق وإلا فلم ترك التشبيه إلا على الذي هو «الضياء » وعدل إلى الأقل الذي هو «النور » فالجواب عن هذا والانفصال : أن تقول إن لفظة النور أحكم وأبلغ في قوله { الله نور السموات والإرض } [ النور : 35 ] ، وذلك أنه تعالى شبه هداه ولطفه الذي نصبه لقوم يهتدون وآخرين يضلون مع النور الذي هو أبداً موجود في الليل وأثناء الظلام ، ولو شبهه بالضياء لوجب أن لا يضل أحد إذ كان الهدى يكون مثل الشمس التي لا تبقى معها ظلمة ، فمعنى الآية أن الله تعالى قد جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام فيهتدي قوم ويضل آخرين ، ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد وبقي الضياء على هذا الانفصال أبلغ في الشروق كما اقتضت آيتنا هذه والله عز وجل هو ضياء السماوات والأرض ونورها وقيومها ، ويحتمل أن يعترض هذا الانفصال والله المستعان ، وقوله : { وقدره منازل } يريد البروج المذكورة في غير هذه الآية{[6016]} ، وأما الضمير الذي رده على { القمر } وقد تقدم ذكر { الشمس } معه فيحتمل أن يريد بال-ضمير «القمر » وحده لأنه هو المراعى في معرفة { عدد السنين والحساب } عند العرب ويحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما يتصرفان في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب . لكنه اجتزأ بذكر الواحد كما قال { والله ورسوله أحق أن يرضوه }{[6017]} وكما قال الشاعر [ أبو حيان ] : [ الطويل ]

رماني بذنب كنت منه ووالدي*** بريّاً ومن أجل الطويّ رماني{[6018]}

قال الزجّاج وكما قال الآخر : [ المنسرح ]

نحن بما عندنا وأنت بما عن*** دك راضٍ والرأي مختلفُ{[6019]}

وقوله { لتعلموا } المعنى قدر هذين النيرين ، { منازل } لكي { تعلموا } بها ، { عدد السنين والحساب } رفقاً بكم ورفعاً للالتباس في معاشكم وتجركم وإجاراتكم وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ ، وقوله { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } أي للفائدة : لا للعب والإهمال فهي إذاً يحق أن تكون كما هي ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص «يفصل الآيات » ، وقرأ ابن كثير أيضاً وعاصم والباقون{[6020]} والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأهل مكة والحسن والأعمش «نفصل » بنون العظمة ، وقوله { لقوم يعلمون } إنما خصهم لأن نفع التفصيل فيهم ظهر وعليهم أضاء وإن كان التفصيل إنما وقع مجملاً للكل معداً ليحصله الجميع ، وقرأ جمهور السبعة وقد رويت عن ابن كثير «ضياء » ، وقرأ ابن كثير وحده فيما روي أيضاً عنه{[6021]} «ضئاء » بهمزتين ، وأصله ضياء فقلبت{[6022]} فجاءت ضئائاً ، فقلبت الياء همزة لوقوعها بين ألفين ، وقال أبو علي : وهي غلط{[6023]} .


[6015]:- من الآية (35) من سورة (النور).
[6016]:- في قوله تعالى في سورة الحجر: {ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين}، وفي سورة الفرقان: {تبارك الذي جعل في السماء بروجا}، وفي سورة البروج: {والسماء ذات البروج}، وكانت العرب تنسب للبروج الأنواء، وهي ثمانية وعشرون برجا.
[6017]:- من الآية (62) من سورة (التوبة).
[6018]:- لأن الشاعر قال: (بريئا) ولم يقل (بريئين)، وقد سبق الاستشهاد بالبيت، وقد رواه الفراء في كتابه "معاني القرآن"، وفي اللسان أن ابن برّي قال: البيت لابن أحمر، وقيل: هو للأزرق بن طرفة بن العمرد الفراصي، وروي: (ومن جول الطوي)، والطوي: بئر اختصم عليها الشاعر مع أحد الناس فقال خصمه: إنه لص وابن لص، فقال هذه القصيدة، وبعد البيت: دعاني لصا في نصوص وما دعا بها والدي فيما مضى رجلان وجول الطوي: كل ناحية من نواحي البئر من أعلاها إلى أسفلها.
[6019]:-إذ قال: (راض) ولم يقل: (راضون)، وقد سبق الاستشهاد بالبيت عند تفسير قوله تعالى في الآية (34) من سورة التوبة: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله}، وكذلك عند تفسير قوله سبحانه في الآية (62) من نفس السورة: {والله ورسوله أحق أن يرضوه}. هذا ومثل الآية والبيتين قوله تعالى في سورة الجمعة: { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} إذا لم يقل سبحانه (إليهما)، ومثلها أيضا قول حسان بن ثابت الأنصاري: إن شرخ الشباب والشعر الأســ ـود ما لم يعاص كان جنونا فقد قال: (يعاص) ولم يقل: (يعاصيان).
[6020]:- يريد باقي السبعة.
[6021]:- في القرطبي وفي البحر المحيط أنها قراءة قنبل.
[6022]:- يعني: قدمت الهمزة التي بعد الألف فصارت قبل الألف وصارت ضئايا، ثم قبلت الياء همزة لوقوعها بعد ألف زائدة فصارت ضئاءا، وكذلك إن قدرت أن الياء حين تأخرت رجعت إلى أصلها وهو الواو التي انقلبت عنها- إن قدرت هذا فإن الياء تقلب همزة أيضا وتكون على وزن فلاع مقلوب من فعال.
[6023]:- لأن القياس هو الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما فكيف نتخيل تقديما وتأخيرا يؤديان إلى اجتماعهما ولم يكونا موجودين في الأصل. وتأمل التعليل الذي ذكره ابن عطية لقلب الياء المتأخرة همزة وهو أنها وقعت بين ألفين، وما ذكرنا هنا من أنها قلبت همزة لوقوعها بعد ألف زائدة، فقد قيل بالرأيين.