فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (5)

{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا } ذكر هاهنا بعض نعمه على المكلفين وهو مما يستدل به على وجوده ووحدته وقدرته وعلمه وحكمته بإتقان صنعه في هذين النيرين المتعاقبين على الدوام بعد ما ذكر قبل هذا إبداعه للسماوات والأرض واستواءه على العرش وغير ذلك .

والضياء قيل جمع ضوء كالسياط والسوط والحياض والحوض والأولى أن يكون ضياء مصدرا لا جمعا ، ولا بد من تقدير مضاف أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر نورا إلا أن يحمل على المبالغة كأنهما جعلا نفس الضياء والنور وقيل الضياء أقوى من النور ، وقيل هو ما كان بالذات والنور ما كان بالعرض فما قام بالشمس يقال له ضياء وما قام بالقمر يقال له نور .

ومن هنا قال الحكماء إن نور القمر مستفاد من ضوء الشمس ، والشعاع الفائض من الشمس قيل جوهر ، وقيل عرض قال الصاوي : والحق إنه عرض لقيامه بالأجرام وضياء مفعول ثان أن جعل الجعل بمعنى التصيير ، وحال أن جعل بمعنى الخلق قال السدي : لم يجعل الشمس كهيئة القمر لكي يعرف الليل من النهار وهو قوله { فمحونا آية الليل } قال ابن عباس : وجوههما على السماوات وأقفيتهما على الأرض وعن ابن عمرو مثله .

{ وقدره } أي قدر مسير القمر في { منازل } أو قدره ذا منازل وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين وذلك أن الشهور المعتبرة في الشرع مبنية على رؤية الأهلة والسنة المعتبرة في الشرع هي القمرية لا الشمسية ومنازله هي المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة به وجملتها ثمانية وعشرون وهي معروفة منقسمة على اثني عشر برجا لكل برج منزلان وثلث منزل ينزل القمر في كل ليلة منزلا منها على انقضاء ثمانية وعشرين لا يتخطاه فيبدو صغيرا في أول منازله ثم يكبر قليلا حتى يبدوا كاملا ، وإذا كان في آخر منازله رق واستقوس ثم يستتر ليلتين لا يبصر ولا يرى إذا كان الشهر كاملا أو ليلة إذا كان الشهر ناقصا .

والكلام في هذا يطول وقد جمع الشوكاني فيه رسالة مستقلة جوابا عن سؤال أورده عليه بعض الأعلام ، وقيل إن الضمير راجع على كل واحد من الشمس والقمر كما قيل في قوله تعالى { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } وقوله { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وقد قدمنا تحقيق هذا فيما سبق من هذا التفسير والأولى رجوع الضمير إلى القمر وحده كما في قوله تعالى { والقمر قدرناه منازل } .

ثم ذكر بعض المنافع المتعلقة بهذا التقدير فقال { لتعلموا } بذلك التقدير { عدد السنين والحساب } أي حساب الشهور والأيام والساعات ونقصانها وزيادتها ووقت دخولها وانقضائها ، فإن في العلم بعدد السنين من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يحصى ، وفي العلم بحساب الأشهر والأيام والليالي من ذلك ما لا يخفى . ولولا هذا التقدير الذي قدره الله سبحانه لم يعلم الناس بذلك ولا عرفوا ما يتعلق به كثير من مصالحهم والسنة تتحصل من اثني عشر شهرا والشهر يتحصل من ثلاثين يوما إن كان كاملا ، ومن تسع وعشرين يوما إن كان ناقصا واليوم يتحصل من ساعات معلومة هي أربع وعشرون ساعة لليل والنهار ، وقد يكون لكل واحد منهما اثنتا عشرة ساعة في أيام الاستواء ويزيد أحدهما على الآخر في أيام الزيادة وأيام النقصان والاختلاف بين السنة الشمسية والقمرية معروف ذكرناه في لقطة العجلان وحجج الكرامة .

{ ما خلق الله ذلك } بين سبحانه أنه ما خلق الشمس والقمر واختلاف تلك الأحوال { إلا بالحق } والصواب دون الباطل والعبث ، والإشارة بقوله { ذلك } إلى المذكور قبله من جعل الشمس ضياء والقمر نورا أو تقديره منازل والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال .

{ يفصل الآيات لقوم يعلمون } معنى التفصيل تبيينها والمراد بالآيات التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما ويدخل هذه الآيات التكوينية المذكورة هنا دخولا أوليا في ذلك ، قرئ يفصل بالياء والنون وهما سبعيتان وعلى الثانية فيه التفات .