الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (5)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{هو الذي جعل الشمس ضياء} بالنهار لأهل الأرض، يستضيئون بها،

{والقمر نورا} بالليل،

{وقدره منازل} يزيد وينقص، يعني الشمس سراجا والقمر نورا،

{لتعلموا} بالليل والنهار،

{عدد السينين والحساب} وقدره منازل لتعلموا بذلك عدد السنين، والحساب، ورمضان، والحج، والطلاق...

{ما خلق الله ذلك} يعني الشمس والقمر،

{إلا بالحق}، لم يخلقهما عبثا، خلقهما لأمر هو كائن،

{يفصل} يبيّن،

{الآيات}، يعني العلامات،

{لقوم يعلمون}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض "هُوَ الّذِي جَعَلَ الشّمْسَ ضِياءً "بالنهار "والقَمَرَ نُورا" بالليل، ومعنى ذلك: هو الذي أضاء الشمس وأنار القمر، "وَقَدّرَهُ مَنازِلَ" يقول: قضاه فسوّاه منازل لا يجاوزها، ولا يقصر دونها على حال واحدة أبدا. وقال: "وَقَدّرَهُ مَنازِلَ" فوحده، وقد ذكر الشمس والقمر، فإن في ذلك وجهين: أحدهما أن تكون الهاء في قوله: "وَقَدّرَهُ" للقمر خاصة، لأن بالأهلّة يعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس. والآخر: أن يكون اكتفي بذكر أحدهما عن الآخر، كما قال في موضع آخر: "وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أحَقّ أنْ يُرْضُوهُ"...

وقوله: "لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السّنِينَ والحسابَ" يقول: وقدّر ذلك منازل لتعلموا أنتم أيها الناس "عدد السنين": دخول ما يدخل منها، وانقضاء ما يستقبل منها وحسابها، يقول: وحساب أوقات السنين وعدد أيامها وحساب ساعات أيامها. "ما خَلَقَ اللّهُ ذلكَ إلا بالحَقّ" يقول جلّ ثناؤه: لم يخلق الله الشمس والقمر ومنازلهما "إلا بالحقّ"، يقول الحقّ تعالى ذكره: خلقت ذلك كله بحقّ وحدي بغير عون ولا شريك. "يُفَصّلُ الآيات" يقول: يبين الحجج والأدلة "لِقَوْم يَعْلَمُونَ" إذا تدبروها حقيقة وحدانية الله، وصحة ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم من خلع الأنداد والبراءة من الأوثان.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ) قال أبو بكر الأصم الكيساني: (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ) أي ما خلق الله ذلك إلا وقد جعل فيه دلالة على معرفته. وقال قائلون: (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ) أي ما خلق الله ذلك إلا وقد جعل فيه الشهادة له على الخلق، وهي شهادة الوحدانية والألوهية،وقال بعضهم: (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ) بالأمر الكائن لا محالة، وهو البعث.

(يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) قيل: يبين، أو يصرفها لقوم ينتفعون بعلمهم...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لما فيهما من عظم النور، ومسيرهما بغير علاقة ولا دعامة، وفيهما أعظم الدلالة على وحدانية الله تعالى. والنور شعاع فيه ما ينافي الظلام. ونور الشمس لما كان أعظم الأنوار سماه الله ضياء، كما قيل للنار نارا، لما فيها من الضياء، ولما كان نور القمر دون ذلك سماه نورا، لأن نور الشمس وضياءها يغلب عليه، ولذلك يقال أضاء النهار، ولا يقال أضاء الليل بل يقال أنار الليل، وليلة منيرة. ويقولون: في قلبه نور، ولا يقال فيه ضياء، لأن الضوء يقال لما يحس بكثرته..

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذا استمرار على وصف آيات الله والتنبيه على صنعته الدالة على الصانع، وهذه الآية تقتضي أن «الضياء» أعظم من «النور» وأبهى بحسب {الشمس} و {القمر}...

ويلحق ها هنا اعتراض وهو أنّا وجدنا الله تعالى شبه هداه ولطفه بخلقه بالنور فقال {الله نور السماوات والأرض}، وهذا يقتضي أن النور أعظم هذه الأشياء وأبلغها في الشروق وإلا فلم ترك التشبيه إلى الأعلى الذي هو «الضياء» وعدل إلى الأقل الذي هو «النور» فالجواب عن هذا والانفصال: أن تقول إن لفظة النور أحكم وأبلغ في قوله {الله نور السموات والأرض} [النور: 35]، وذلك أنه تعالى شبه هداه ولطفه الذي نصبه لقوم يهتدون وآخرين يضلون مع النور الذي هو أبداً موجود في الليل وأثناء الظلام، ولو شبهه بالضياء لوجب أن لا يضل أحد إذ كان الهدى يكون مثل الشمس التي لا تبقى معها ظلمة، فمعنى الآية أن الله تعالى قد جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام فيهتدي قوم ويضل آخرين، ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد وبقي الضياء على هذا الانفصال أبلغ في الشروق كما اقتضت آيتنا هذه والله عز وجل هو ضياء السماوات والأرض ونورها وقيومها...

{لقوم يعلمون} إنما خصهم لأن نفع التفصيل فيهم ظهر وعليهم أضاء وإن كان التفصيل إنما وقع مجملاً للكل معداً ليحصله الجميع..

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على الإلهية، ثم فرع عليها صحة القول بالحشر والنشر، عاد مرة أخرى إلى ذكر الدلائل الدالة على الإلهية. واعلم أن الدلائل المتقدمة في إثبات التوحيد والإلهية هي التمسك بخلق السموات والأرض، وهذا النوع إشارة إلى التمسك بأحوال الشمس والقمر، وهذا النوع الأخير إشارة إلى ما يؤكد الدليل الدال على صحة الحشر والنشر، وذلك لأنه تعالى أثبت القول بصحة الحشر والنشر، بناء على أنه لا بد من إيصال الثواب إلى أهل الطاعة، وإيصال العقاب إلى أهل الكفر، وأنه يجب في الحكمة تمييز المحسن عن المسيء، ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أنه جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل ليتوصل المكلف بذلك إلى معرفة السنين والحساب، فيمكنه ترتيب مهمات معاشه من الزراعة والحراثة، وإعداد مهمات الشتاء والصيف، فكأنه تعالى يقول: تمييز المحسن عن المسيء والمطيع عن العاصي، أوجب في الحكمة من تعليم أحوال السنين والشهور. فلما اقتضت الحكمة والرحمة خلق الشمس والقمر لهذا المهم الذي لا نفع له إلا في الدنيا، فبأن تقتضي الحكمة والرحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت، مع أنه يقتضي النفع الأبدي والسعادة السرمدية، كان ذلك أولى. فلما كان الاستدلال بأحوال الشمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية مما يدل على التوحيد من وجه وعلى صحة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه، لا جرم ذكر الله هذا الدليل بعد ذكر الدليل على صحة المعاد.

المسألة الثانية: الاستدلال بأحوال الشمس والقمر على وجود الصانع المقدر هو أن يقال: الأجسام في ذواتها متماثلة، وفي ماهياتها متساوية، ومتى كان الأمر كذلك كان اختصاص جسم الشمس بضوئه الباهر وشعاعه القاهر، واختصاص جسم القمر بنوره المخصوص لأجل الفاعل الحكيم المختار...فلما صح على جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر الباهر، وجب أن يصح مثل ذلك الضوء القاهر على جرم القمر أيضا، وبالعكس. وإذا كان كذلك، وجب أن يكون اختصاص جرم الشمس بضوئه القاهر، واختصاص القمر بنوره الضعيف بتخصيص مخصص وإيجاد موجد. وتقدير مقدر وذلك هو المطلوب، فثبت أن اختصاص الشمس بذلك الضوء بجعل جاعل، وأن اختصاص القمر بذلك النوع من النور بجعل جاعل، فثبت بالدليل القاطع صحة قوله سبحانه وتعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا} وهو المطلوب...وذلك يدل على أن جميع المنافع الحاصلة في هذا العالم بسبب حركات الأفلاك ومسير الشمس والقمر والكواكب، ما حصل إلا بتدبير المدبر المقدر الرحيم الحكيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ثم إنه تعالى لما قرر هذه الدلائل ختمها بقوله: {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} ومعناه أنه تعالى خلقه على وفق الحكمة ومطابقة المصلحة، ونظيره قوله تعالى في آل عمران: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} وقال في سورة أخرى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا}...

ثم بين تعالى أنه يفصل الآيات، ومعنى التفصيل هو ذكر هذه الدلائل الباهرة، واحدا عقيب الآخر، فصلا فصلا مع الشرح والبيان.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم شرع سبحانه يقرر أمر بدئه للخلق وإعادته في سياق مذكر بالنعم التي يجب شكرها، ويسمي المعرض عن شكره كافراً فقال: {هو} أي لا غيره {الذي جعل} أي بما هيأ من الأسباب {الشمس}.

ولما كان النور كيفية قابلة للشدة والضعف، خالف سبحانه في الأسماء مما يدل على ذلك فقال نور الشمس: {ضياء} أي ذات نور قوي ساطع وقدرها منازل، هكذا التقدير، لكن لما كانت في تقلبها بطيئة بالنسبة إلى القمر ذكره دونها فقال: {والقمر} أي وجعل القمر {نوراً} أي ذا نور من نورها {وقدره} أي وزاده عليها بأن قدره مسيرة {منازل} سريعاً يقلبه فيها، وباختلاف حاله في زيادة نوره ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات والحرارات التي دبر الله بها هذا الوجود -إلى غير ذلك من الأسرار التي هي فرع وجود الليل والنهار {لتعلموا} بذلك علماً سهلاً {عدد السنين} أي المنقسمة إلى الفصول الأربعة وما يتصل بذلك من الشهور وغيرها ليمكن لكم تدبير المعاش في أحوال الفصول وغيرها {والحساب} أي في غير ذلك مما يدل على بعض تدبيره سبحانه.

ولما كان ذلك مشاهداً لا مرية فيه، وصل به قوله: {ما خلق الله} أي الذي له الكمال كله {ذلك} أي الأمر العظيم جداً {إلا بالحق} أي خلقاً ملتبساً بالحق الكامل في الحقية لا مرية فيه، فعلم أنه قادر على إيجاد الساعة كذلك إذ لا فرق، وإذا كان خلقه كذلك فكيف يكون أمره الناشئ عنه الخلق غير الخلق بأن يكون من السحر الذي مبناه على التمويه والتخييل الذي هو عين الباطل، أو ما خلقه إلا بسبب إظهار الحق من العدل بين العباد بإعزاز الطائع وإذلال العاصي، فإنه لا نعيم كالانتصار على المعادي والانتقام من المشانئ، والجعل: وجود ما به يكون الشيء على صفة لم يكن عليها، والشمس: جسم عظيم النور فإنه يكون ضياء النهار؛ والقمر: جسم نير يبسط نوره على جميع الظاهر من الأرض ويكسفه نور الشمس؛ والنور: شعاع فيه ما ينافي الظلام؛ والحساب: عدد يحصل به مقدار الشيء من غيره.

ولما كان النظر في هذه الآيات من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كثير من الاتصاف بقابلية العلم، ختم الآية بقوله: {يفصل} أي الله في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالياء التحتية، وبالالتفات إلى أسلوب العظمة تعظيماً للبيان في قراءة الباقين بالنون {الآيات} أي يبين الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة متفاصلة بياناً شافياً. ولما كان البيان لمن لا علم له كالعدم، قال: {لقوم} أي لهم قوة المحاولة لما يريدون {يعلمون} أي لهم هذا الوصف على سبيل التجدد والاستمرار؛ ولما كانت لهم المعرفة التامة والنظر الثاقب في منازل القمر عدت من الجلي.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

...إشارةً إجماليةً وإرشادٌ إلى أنه حيث دبّرت أمورُهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبيَر البديعَ فلأن يدبّرَ مصالحَهم المتعلقةَ بالمعاد بإرسال الرسولِ وإنزالِ الكتابِ وتبيينِ طرائقِ الهدى وتعيينِ مهاوي الردى أولى وأحرى...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

في هاتين الآيتين المنزلتين إرشاد إلى أنواع كثيرة من آيات الله الكونية الدالة على قدرته على البعث والجزاء، وكونه من مقتضى حكمته، واطراد النظام التام في جميع خلقه، وهذه الآيات تفصيل لما أجمل في الآية الثالثة في خلق السماوات والأرض، واستواء الخالق على عرشه يدبر الأمر، ويقيم النظام في الخلق، التي سيقت للاستدلال على التوحيد وحقيقة الوحي.

{هُو الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء والْقَمَرَ نُوراً} ...

...

أقول: يدل على التفرقة بين الشمس والقمر في نورهما قوله تعالى: {وجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} [نوح: 16} وقوله: {وجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً و قَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61]، والسراج ما كان نوره من ذاته. واستبعد بعض المفسرين قول الزجاج: إن الضياء في الآية جمع ضوء؛ لأن المناسب لكون القمر نورا أن يكون الضوء مفردا مثله، وجهل هذا المستبعد وأمثاله ما يعلمه الله تعالى من أن شعاع الشمس مركب من ألوان النور السبعة التي يراها الإنسان في قوس السحاب، فهو سبعة أضواء لا ضوء واحد، فهذا التعبير من مفردات القرآن الكثيرة التي كشف لنا ترقي العلوم الطبيعية الفلكية من المعنى فيها ما كان الناس أو العرب يجهلونه في عصر التنزيل، كتعبيره عن كل نوع من النبات بأنه موزون، وتقدم بيانه في مباحث الوحي.

{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} التقدير جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة في الزمان أو المكان أو الذوات أو الصفات، قال تعالى: {والله يقدر الليل والنهار} [المزمل: 20]، وقال في القرى التي كانت بين سبأ والشام {وقدرنا فيها السير} [سبأ: 18]، وقال في المقادير العامة {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 2] والمنازل أماكن النزول جمع منزل، والضمير للقمر، كما قال في سورة يس {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} [يس: 39]، أي قدر له أو قدر سيره في فلكه في منازل، ينزل في كل ليلة في واحد منها لا يخطئه ولا يتخطاه، وهي ثمانية وعشرون منزلا معروفة تسميها العرب بأسماء نجومها المحاذية لها... {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ} أي لأجل أن تعلموا بما ذكر من صفة النيرين وتقدير المنازل حساب الأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم الدينية والمالية والمدنية، فلولا هذا النظام المشاهد لتعذر على الأميين من أهل البدو والحضر العلم بذلك، لأن حساب السنين والشهور الشمسية فن لا يعلم إلا بالدراسة، ولذلك جعل الشرع الإسلامي العام للبدو والحضر شهر الصيام وأشهر الحج وعدة الطلاق ومدة الإيلاء وغير ذلك بالحساب القمري الذي يعرفه كل أحد بالمشاهدة، فلا يتوقف على علم فني لا يكاد يوجد إلا في بلاد الحضارة. ولعبادتي الصيام والحج حكمة أخرى وهي دورانهما في جميع الفصول، فيعبد المسلمون ربهم في جميع الأوقات من حارة وباردة ومعتدلة. وهذا لا يمنع أهل العلم من الانتفاع بالحساب الشمسي وله فوائد أخرى، وقد أرشدهم إليه في سورة الرحمن {الشمس والقمر بحسبان} [الرحمن: 5]، وفي سورة الإسراء {وجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ} [الإسراء: 12] وفي هذه الآيات ترغيب في علم الهيئة والجغرافية الفلكية وقد برع فيهما أجدادنا بإرشادها.

ثم قال: {مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي ما خلق الله الشمس ذات ضياء تفيض أشعتها على كواكبها التابعة لنظامها، فتبث الحرارة والحياة في جميع الأحياء فيهم، وجعل لكل ضوء منها من الخواص ما ليس للآخر، ويبصر الناس فيها جميع المبصرات فيقومون بأمور معايشهم وسائر شؤونهم، وما خلق القمر ذا نور مستمد من الشمس تنتفع به السيارة في سراهم وغيرهم، وقدره منازل يعرف بها جميع الناس السنين والشهور، ما خلق ذلك إلا متلبسا ومقترنا بالحق، الذي تقتضيه الحكمة العامة لحياة الخلق، ونظام معايشهم ومنافعهم، فليس فيه عبث ولا خلل؛ بل ظهر للبشر في هذا العصر من أسرار الضوء وحكمه ما صار به علما واسعا تحار العقول في نظمه وحكمه، من أصغر ذراته إلى أعظم مجامع نيراته، فكيف يعقل من هذا الخالق الحكيم أن يخلق هذا الإنسان في أحسن تقويم، ويعلمه البيان، ويعطيه ما لم يعط غيره في عالمه؛ من الاستعداد لإظهار ما لا يحصى من حكمه، وخواص خلقه، وسننه في عباده، ويجعل مدار سعادته وشقائه على ما أعطاه من علم وإرادة، ثم يتركه بعد ذلك سدى، يموت ويفنى، ثم لا يبعث ولا يعود، ليجزى المرتقون منه في معارج الكمال من المعارف الإلهية والفضائل النفسية والأعمال الصالحة بإيمانهم وصفاتهم وأعمالهم، وليجزى المشركون الخرافيون والظالمون المجرمون، بكفرهم وجرائمهم ومفاسدهم، وإننا نرى كثيرا منهم أنعم في الدنيا معيشة من الصالحين المصلحين؟ {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36] {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28].

{يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} استئناف لبيان المنتفعين بهذه الحجج، أي نبين الدلائل من حكم خلقنا، على ما أوحيناه إلى رسولنا من أصول العقائد وأحكام الشرائع، مفصلة منوعة من كونية وعقلية لقوم يعلمون وجوه دلالة الدلائل، والفرق بين الحق والباطل، باستعمال عقولهم في فهم هذه الآيات، فيجزمون بأن من خلق هذين النيرين وما فيهما من النظام بالحق، لا يمكن أن يكون خلقه لهذا الإنسان العجيب عبثا، ولا أن يتركه سدى، وفي الآية تنويه بفضل العلم وكون الإسلام دينا علميا لا تقليديا، ولذلك قفى على هذه الآيات السماوية في الشمس والقمر بآية مذكرة بسائر الآيات السماوية والأرضية فقال: {إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ومَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ 6}

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وبعد هذه اللفتة من آيات الله في خلق السماوات والأرض إلى عبادة الله وحده، الذي إليه المرجع وعنده الجزاء.. يعود السياق إلى الآيات الكونية التالية في وجودها وضخامتها للسماوات والأرض: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب. ما خلق الله ذلك إلا بالحق. يفصل الآيات لقوم يعلمون).. فهذان مشهدان بارزان من مشاهد الكون، ننساهما لطول الألفة، ونفقد وقعهما في القلب بطول التكرار. وإلا فكيف وهلة الإنسان وهو يشاهد أول مرة أول شروق شمس وأول غروب، وأول مطلع قمر وأول مغيب؟ هذان مشهدان مألوفان مكروران يردنا القرآن إليهما، ليثير في مشاعرنا وهلة الجدة، وليحيي في قلوبنا إحساس التطلع الحي، والتأمل الذي لم يبلده التكرار، والتيقظ لما في خلقهما وطبيعة تكوينهما من التدبير المحكم: (هو الذي جعل الشمس ضياء).. فيها اشتعال. (والقمر نوراً).. فيه إنارة. (وقدره منازل).. ينزل في كل ليلة منزلاً يكون فيه على هيئة خاصة، كما هو مشهود في القمر، بدون حاجة إلى علوم فلكية لا يدركها إلا المتخصصون. (لتعلموا عدد السنين والحساب).. وما تزال المواقيت والمواعيد تضبط بالشمس والقمر لكافة الناس. هل هذا كله عبث؟ هل هذا كله باطل؟ هل هذا كله مصادفة؟ كلا ما يكون كل هذا النظام، وكل هذا التناسق، وكل هذه الدقة التي لا تتخلف معها حركة. ما يكون هذا كله عبثا ولا باطلا ولا مصادفة عابرة: (ما خلق الله ذلك إلا بالحق).. الحق قوامه. والحق أداته. والحق غايته. والحق ثابت راجح راسخ. وهذه الدلائل التي تشهد به واضحة قائمة دائمة: (يفصل الآيات لقوم يعلمون).. فالمشاهد التي تعرض هنا في حاجة إلى العلم لإدراك التدبير الكامن وراء المشاهد والمناظر.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذا استئناف ابتدائي أيضاً، فضمير (هو) عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {إن ربكم الله} [يونس: 3]. وهذا استدلال آخر على انفراده تعالى بالتصرف في المخلوقات، وهذا لون آخر من الاستدلال على الإلهية ممزوج بالامتنان على المحجوجين به لأن الدليل السابق كان متضمناً لِعظيم أمر الخلق وسعة العلم والقدرة بذكر أشياء ليس للمخاطبين حظ في التمتع بها. وهذا الدليل قد تضمن أشياء يأخذ المخاطبون بحظ عظيم من التمتع بها وهو خلق الشمس والقمر على صورتهما وتقدير تنقلاتهما تقديراً مضبوطاً ألهم الله البشر للانتفاع به في شؤون كثيرة من شؤون حياتهم. فجَعْلُ الشمسِ ضياء لانتفاع الناس بضيائها في مشاهدة ما تهمهم مشاهدته بما به قوام أعمال حياتهم في أوقات أشغالهم. وجَعْل القمر نوراً للانتفاع بنوره انتفاعاً مناسباً للحاجة التي قد تعرض إلى طلب رؤية الأشياء في وقت الظلمة وهو الليل. ولذلك جُعل نوره أضعف ليُنتفع به بقدر ضرورة المنتفع، فمن لم يضطرَّ إلى الانتفاع به لا يشعرُ بنوره ولا يصرفه ذلك عن سكونه الذي جُعل ظلام الليل لحصوله، ولو جعلت الشمس دائمة الظهور للناس لاستووا في استدامة الانتفاع بضيائها فيشغلهم ذلك عن السكون الذي يستجدون به ما فتر من قواهم العصبية التي بها نشاطُهم وكمالُ حياتهم.

والضياء: النور الساطع القوي، لأنه يضيء للرائي.وهو النور الذي يوضح الأشياء، فالضياء أقوى من الضوء.والنور: الشعاع، وهو مشتق من اسم النار، وهو أعم من الضياء، يصدق على الشعاع الضعيف والشعاع القوي، فضياء الشمس نور، ونور القمر ليس بضياء. هذا هو الأصل في إطلاق هذه الأسماء..

والتفصيل: التبيين، لأن التبيين يأتي على فصول الشيء كلها. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} في سورة [الأنعام: 55]. والإتيان بالفعل المضارع لإفادة التكرار.

وذكر لفظ (قوم) إيماء إلى أنهم رسخ فيهم وصف العلم، فكان من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة [البقرة: 164]. وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بتفصيل الآيات ليسوا من الذين يعلمون ولا ممن رسخ فيهم العلم.