اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (5)

قوله تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً } الآية .

لمَّا ذكر الدلائل الدَّالة على الإلهيَّة ، وهي التَّمسُّك بخلق السماوات والأرض ، ثم فرع عليها صحَّة القول بالحشر والنشر ، عاد إلى ذكر الدَّلائل الدَّالة على الإلهيَّة ، وهي التمسُّك بأحوال الشمس والقمر ، وهو إشارةٌ إلى توكيد الدَّليل على الحشر والنشر ؛ لأنَّه - تعالى - أثبت القول بالحشر والنشر بناءً على أنَّه لا بد من إيصالِ الثَّواب إلى أهل الطَّاعة ، والعقاب إلى الكُفَّار ، وأنَّه يجب تمييزُ المُحْسن عن المُسِيء .

ثم ذكر في هذه الآية أنَّه جعل الشمس ضياءً والقمر نُوراً وقدَّرَهُ منازل ، ليتوصَّل المُكلَّف بذلك إلى معرفة السنين والحساب ، فيُرتِّب مهمات معاشه وزراعته وحراثته ، ويُعدَّ مهمات الشِّتاء والصَّيف ، فكأنَّه تعالى يقول : تمييز المحسن على المسيء ، أوجب وأوْلَى من تعليم أحوال السِّنين والشُّهُور ، فلمَّا اقتضت الحكمة بخلق الشمس والقمر لهذا المهمِّ الذي لا نفع له فبأن تقتضي الحكمة والرَّحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت ، مع أنَّه يقتضي النفع الأبَدِيّ والسعادة السَّرمديَّة كان أولى ، فلمَّا كان الاستدلال بأحوال الشَّمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية ممَّا يدلُّ على التَّوحيد من وجهٍ ، وعلى صحَّة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه ، لا جرم ذكر الله تعالى هذا الدَّليل بعد ذكر الدَّليل على صحَّة المعاد .

قوله : " ضِيَاءً " : إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أنَّ الجعل للتصيير ، وإمَّا حالٌ على أنَّه بمعنى الإنشاءِ ، والجمهُور على " ضِيَاءً " بصريح اليَاءِ قبل الألف ، وأصلها واو ؛ لأنَّه من الضَّوْء . وقرأ قُنْبُل{[18318]} عن ابن كثيرٍ هنا وفي الأنبياء والقصص " ضِئَاء " بقلب الياء همزة ، فتصير ألفٌ بين همزتين . وأوِّلت على أنه مقلوبٌ قدِّمت لامُه وأخِّرت عينه ، فوقعت الياءُ طرفاً بعد ألف زائدة فقلبت همزة على حدِّ " رِدَاء " وأرْدِية ، وإن شئت قلت : لمَّا قلبت الكلمة صارت " ضِيَاواً " بالواو ، عادت العين إلى أصلها من الواو لعدم موجب قلبها ياء وهو الكسر لسابقها ، ثم أبدلت الواو همزة على حدِّ " كِسَاء " . وقال أبو البقاء : " إنَّها قُلبتْ ألفاً ، ثُمَّ قُلِبت الألفُ همزة ، لئلاَّ تجتمع ألفان " ، واستُبْعِدت هذه القراءة من حيث إنَّ اللغة مَبْنِيَّة على تسهيل الهمزِ فكيف يتخيَّلُون في قلب الحرفِ الخفيف إلى أثقل منه ؟ لا غرو في ذلك ، فقد قلبُوا حروف العلَّة الألف والواو والياء همزةً في مواضع لا تُحْصرُ إلا بعُسْرٍ ، إلاَّ أنه هنا ثقيلٌ ؛ لاجتماع همزتين .

وأكثر النَّاس على تغليط هذه القراءة ؛ لأنَّ ياء " ضِيَاء " منقلبة عن واو ، مثل : ياء قيام ، وصيام ، فلا وجه للهمزة فيها ، قال أبو شامة : " وهذه قراءةٌ ضعيفةٌ ، فإنَّ قياس اللُّغةِ الفرارُ من اجتماع همزتين إلى تخفيفِ إحداهُمَا ، فكيف يُتَخيَّل بتقديمٍ وتأخيرٍ يُؤدِّي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل ؟ هذا خلافُ حكم اللُّغة " .

وقال أبو بكر بن مُجاهد - وهو ممَّنْ قرأ على قنبل - : " قرأ ابن كثير وحده " ضِئَاء " بهمزتين في كل القرآن الهمزة الأولى قبل الألف ، والثانية بعدها ، كذلك قرأتُ على قنبل وهو غلط ، وكان أصحاب البزّي ، وابن فليح يُنكرُونَ هذا ويقْرؤُون " ضِيَاء " مثل الناس " .

قال شهابُ الدِّين{[18319]} : " كثيراً ما يَتَجَرَّأ أبو بكر على شيخه ويُغَلِّطه ، وسيمرُّ بكَ مواضع من ذلك ، وهذا لا ينبغي أن يكون ، فإنَّ قُنْبُلاً بالمكان الذي يمنع أن يتكلَّم فيه أحد " .

وقوله في جانب الشمس : " ضِيَاءً " ؛ لأنَّ الضوءَ أقوى من النُّور ، وقد تقدم ذلك أوَّل البقرة و " ضِيَاء ونُوراً " يحتمل أن يكونا مصدرين ، وجُعِلا نفسَ الكوكبين مبالغة ، كما يقال للكريم : إنه كرم وجود ، أو على حذف مضافٍ أي : ذاتِ ضياء وذا نُورٍ ، و " ضِيَاء " يحتمل أن يكون جمع " ضَوْء " كسَوْط وسِيَاط ، وحَوْض وحِيَاض .

قوله : " مَنَازِلَ " نُصب على ظرف المكان ، وجعله الزمخشريُّ على حذفِ مضافٍ : إمَّا من الأول أي : قدَّر مسيره ، وإمَّا من الثاني أي : قدَّرهُ ذا منازل ، فعلى التقدير الأول يكون " مَنازِلَ " ظرفاً كما مَرّ ، وعلى الثاني يكون مفعولاً ثانياً على تضمين " قدَّرَ " معنى صيَّره ذا منازل بالتقدير ، وقال أبو حيَّان - بعد أن ذكر التقديرين ، ولم يعزُهما للزمخشري : أو قَدَّر له منازل ، فحذف وأوصل الفعل إليه ، فانتصب بحسب هذه التَّقادير على الظَّرف أو الحال أو المفعول ، كقوله : { والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } [ يس : 39 ] وقد سبقهُ إلى ذلك أبُو البقاء .

والضمير في " قدَّرهُ " يعود على القمر وحده ، لأنَّه هو عُمدةُ العرب في تواريخهم .

وقال ابنُ عطيَّة : " ويحتمل أن يريدهما معاً بحسبِ أنهم يتصرَّفان في معرفة عدد السِّنين والحساب لكنَّه اجتزئ بذكر أحدهما ، كقوله تعالى { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ؛ وكما قال الشاعر : [ الطويل ]

رَمَانِي بأمْرٍ كُنْتُ مِنْه ووَالدِي *** بَرِيئاً ومنْ أجْلِ الطَّوِيِّ رمَانِي{[18320]}

قوله : " لِتَعْلَمُواْ " : متعلِّق ب " قدَّرَهُ " ، وسُئل أبو عمرو عن الحساب : أتَنْصبُه أم تَجُرُّه ؟ فقال : ومن يدري ما عدد الحساب ؟ يعني أنه سئل : هل تعطفه على " عَدَدَ " فتنصبه أم على " السِّنين " فتجرَّه ؟ فكأنَّه قال : لا يمكن جرُّه ، إذ يقتضي ذلك أن يعلم عدد الحسابِ ولا يقدر أحدٌ أن يعلم عدده .

فصل

معنى الآية : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً } بالنهار ، { والقمر نُوراً } بالليل . وقيل : جعل الشمس ذات ضياء ، والقمر ذا نُورٍ ، { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } أي : قدَّر له ، يعنى : هَيَّأ له منازل لا يجاوزها ولا يقصُر دونها ، ولم يقل قدرهما . قيل تقدير المنازل منصرفٌ إليهما ، واكتفى بذكر أحدهما لما قدَّمنا . وقيل : ينصرف إلى القمر خاصة ، لأن بالقمر خاصة يعرف انقضاء الشُّهور والسِّنين ، لا بالشمس . ومنازل القمر هي : المنازل المشهورة ، وهي الثمانية والعشرون منزلاً ، وهذه المنازل مقسومة على البُروجِ الاثني عشر ، لكل برج منزلتان واحدة إن كان الشهر تسعاً وعشرين ، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل ، ويكون مقام الشهر في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً ، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها .

واعلم : أنَّ الشمس سلطان النهار وأنَّ القمر سلطان الليل ، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة ، وبالفصول الأربعة تنتظمُ مصالحُ هذا العالم ، وبحركة القمر تحصُل الشهور ، وباختلاف حاله في زيادة ضوئه ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم ، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل ، فالنهار زمان التَّكسُّبِ والطلب ، والليل زمان للرَّاحة ، وهذا يدلُّ على كثرة رحمة الله - تعالى - للخلق وعظم عنايته لهم .

قال حكماء الإسلام : هذا يدلُّ على أنه - تعالى - أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواصَّ معينة ، وقوى مخصوصة باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السُّفلي ، إذ لَوْ لَمْ يكُنْ لها آثارٌ وفوائد في هذا العالم ، لكان خلقها عبثاً وباطلاً بغير فائدة ، وهذه النُّصوص تُنافي ذلك .

قوله : { مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } " ذلك " إشارةٌ إلى الخلق ، والتقدير : ما خلق الله ذلك المذكور إلا ملتبساً بالحقِّ ، فيكون حالاً : إمَّا من الفاعل وإمَّا من المفعول . وقيل : الباء بمعنى اللاَّم أي : للحقِّ ، ولا حاجة إليه ، والمعنى : لم يخلقه باطلاً ، بل إظهاراً لصنعته ، ودلالة على قدرته .

قوله : " يُفَصِّلُ " قرأ ابن كثير{[18321]} ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ويعقوب " يُفصِّل " بياء الغيبة جرياً على اسم الله - تعالى - ، والباقون : بنون العظمة ، التفاتاً من الغيبة إلى التَّكلُّم للتَّعظيم .

ومعنى التَّفصيل : هو ذكر هذه الدلائل الباهرة ، واحدة عقب الأخرى مع الشَّرح والبيان ، ثم قال " لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " قيل : المراد منه : العقل الذي يعمُّ الكل . وقيل : المراد منه تفكر وعلم فوائد مخلوقاته ، وآثار إحسانه ، لأنَّ العلماء هم المنتفعون بهذه الدلائل ، كقوله { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] مع أنه - عليه الصلاة والسلام - كان منذراً للكُلِّ .


[18318]:ينظر: السبعة ص (323)، الحجة 4/258، حجة القراءات ص (328)، إعراب القراءات 1/261-262، إتحاف 2/104.
[18319]:ينظر: الدر المصون 4/8.
[18320]:تقدم.
[18321]:ينظر: السبعة ص (323)، الحجة 4/252، حجة القراءات ص (328)، إعراب القراءات 1/261، إتحاف 2/104.