البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (5)

لما ذكر تعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي ، ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذين الجوهرين النيرين المشرقين ، فجعل الشمس ضياءً أي : ذات ضياء أو مضيئة ، أو نفس الضياء مبالغة .

وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير ، فيكون ضياء مفعولاً ثانياً .

ويحتمل أنْ تكون بمعنى خلق فيكون حالاً ، والقمر نوراً أي : ذا نور ، أو منور ، أو نفس النور مبالغة ، أو هما مصدران .

وقيل : يجوز أنْ يكون ضياء جمع كحوض وحياض ، وهذا فيه بعد .

ولما كانت الشمسُ أعظم جرماً خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان ، وهو أعظم من النور .

قال أرباب علم الهيئة : الشمس قدر الأرض مائة مرة وأربعاً وستين مرة ، والقمر ليس كذلك ، فخص الأعظم بالأعظم .

وقد تقدم الفرق بين الضياء والنور في قوله : { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } وقوله تعالى : { الله نور السموات والأرض } يقتضي أنّ النور أعظم وأبلغ في الشروق ، وإلا فلم عدل إلى الأقل الذي هو النور .

فقال ابن عطية : لفظة النور أحكم أبلغ ، وذلك أنه شبه هداه ولطفه الذي يصيبه لقوم يهتدون ، وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبداً موجود في الليل وأثناء الظلام .

ولو شبهه بالضياء لوجب أنْ لا يضل أحداً ، إذ كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة .

فمعنى الآية : أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام ، فيهتدي قوم ويضل قوم آخرون .

ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد ، وبقي الضياء على هذا أبلغ في الشروق كما اقضت هذه الآية .

وقرأ قنبل : ضياء هنا ، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء .

ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لامه عيناً ، فكانت همزة .

وتطرفت الواو التي كانت عيناً بعد ألف زائدة فانقلبت همزة ، وضعف ذلك بأنّ القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما ، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل ، والظاهر عود الضمير على القمر أي : مسيره منازل ، أو قدره ذا منازل ، أو قدر له منازل ، فحذف وأوصل الفعل ، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله : { والقمر قدرناه منازل } وعاد الضمير عليه وحده لأنه هو المراعى في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب .

وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما مصرفان في معرفة عدد السنين والحساب ، لكنه اجتزىء بذكر أحدهما كما قال : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وكما قال الشاعر :

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطوى رماني

والمنازل هي البروج ، وكانت العرب تنسب إليها الأنواء ، وهي ثمانية وعشرون منزلة : الشرطين ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والدبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزبانان ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلغ ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، والفرع المؤخر ، والرشاء وهو الحوت .

واللام متعلقة بقوله : وقدره منازل .

قال الأصمعي : سئل أبو عمرو عن الحساب ، أفبنصبه أو بجره ؟ فقال : ومن يدري ما عدد الحساب ؟ انتهى .

يريد أنّ الجر إنما يكون مقتضياً أنّ الحساب يكون يعلم عدده ، والحساب لا يمكن أن يعلم منتهى عدده والحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي مما ينتفع به في المعاش والإجارات وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ .

وقيل : اكتفى بذكر عدد السنين من عدد الشهور ، وكنى بالحساب عن المعاملات ، والإشارة بذلك إلى مخلوقه .

وذلك يشار بها إلى الواحد ، وقد يشار بها إلى الجمع .

ومعنى بالحق متلبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة ، ولم يخلقه عبثاً كما جاء { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } وقال ابن جرير : الحق هنا هو الله تعالى ، والمعنى : ما خلق الله ذلك إلا بالله وحده لا شريك معه انتهى .

وما قاله تركيب قلق ، إذ يصير ما ضرب زيد عمراً إلا بزيد .

وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي للحق ، وهو إظهار صنعته وبيان قدرته ودلالة على وحدانيته .

وقرأ ابن مصرف : والحساب بفتح الحاء ، ورواه أبو توبة عن العرب .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص : يفصل بالياء جرياً على لفظة الله ، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات والإخبار بنون العظمة ، وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم ، لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات ، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح .

والآيات العلامات الدالة أو آيات القرآن .