قوله تعالى : { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة } ، منازل طيبة في { جنات عدن } أي : بساتين خلد وإقامة ، يقال : عدن بالمكان إذا أقام به . قال ابن مسعود : هي بطنان الجنة ، أي : وسطها . قال عبد الله بن عمرو بن العاص : إن في الجنة قصرا يقال له : { عدن } حوله البروج والمروج ، له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد . وقال الحسن : قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل . وقال عطاء بن السائب :{ عدن } نهر في الجنة جنانه على حافتيه . وقال مقاتل و الكلبي : { عدن } أعلى درجة في الجنة ، وفيها عين التسنيم ، والجنان حولها ، محدقة بها ، وهى مغطاة من حين خلقها الله تعالى حتى ينزلها أهلها : الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ، ومن شاء الله ، وفيها قصور الدر واليواقيت والذهب ، فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر الأبيض . { ورضوان من الله أكبر } . أي : رضا الله عنهم أكبر من ذلك ، { ذلك هو الفوز العظيم } . روينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل لأهل الجنة يا أهل الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون : ربنا ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك ، فيقول : أفلا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : ربنا أي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا " .
ثم ذكر ما أعد اللّه لهم من الثواب فقال : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } جامعة لكل نعيم وفرح ، خالية من كل أذى وترح ، تجري من تحت قصورها ودورها وأشجارها الأنهار الغزيرة ، المروية للبساتين الأنيقة ، التي لا يعلم ما فيها من الخيرات والبركات إلا اللّه تعالى .
{ خَالِدِينَ فِيهَا } لا يبغون عنها حِوَلًا { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } قد زخرفت وحسنت وأعدت لعباد اللّه المتقين ، قد طاب مرآها ، وطاب منزلها ومقيلها ، وجمعت من آلات المساكن العالية ما لا يتمنى فوقه المتمنون ، حتى إن اللّه تعالى قد أعد لهم غرفا في غاية الصفاء والحسن ، يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها .
فهذه المساكن الأنيقة ، التي حقيق بأن تسكن إليها النفوس ، وتنزع إليها القلوب ، وتشتاق لها الأرواح ، لأنها في جنات عدن ، أي : إقامة لا يظعنون عنها ، ولا يتحولون منها .
{ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ } يحله على أهل الجنة { أَكْبَرُ } مما هم فيه من النعيم ، فإن نعيمهم لم يطب إلا برؤية ربهم ورضوانه عليهم ، ولأنه الغاية التي أمَّها العابدون ، والنهاية التي سعى نحوها المحبون ، فرضا رب الأرض والسماوات ، أكبر من نعيم الجنات .
{ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } حيث حصلوا على كل مطلوب ، وانتفى عنهم كل محذور ، وحسنت وطابت منهم جميع الأمور ، فنسأل اللّه أن يجعلنا معهم بجوده .
ثم فصل - سبحانه - مظاهر رحمته للمؤمنين والمؤمنات أصحاب تلك الصفات السابقة فقال : { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } .
أى : { وَعَدَ الله } بفضله وكرمه { المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى : من تحت بساتينها وأشجارها وقصورها { خَالِدِينَ فِيهَا } في تلك الجنات خلودا أبديا .
ووعدهم كذلك " مساكن طيبة " أى : منازل حسنة ، تنشرح لها الصدور وتستطيبها النفوس .
وقوله : { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أى في جنات ثابتة مستقرة .
يقال : فلان عدن بمكان كذا ، إذا استقر به وثبت فيه ، ومنه سمى المعدن معدنا لاستقراره في باطن الأرض .
وقيل : إن كلمة " عدن " علم على مكان مخصوص في الجنة ، أى في جنات المكان المسمى بهذا الاسلام وهو " عدن " .
ثم بشرهم - سبحانه - بما هو أعظم من كل ذلك فقال : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } .
أى أن المؤمنين والمؤمنات ليس لهم هذه الجنات والمساكن الطيبة فحسب وإنما لهم ما هو أكبر من ذلك وأعظم وهو رضا الله - تعالى - عنهم ، وتجليه عليهم ، وتشرفهم بمشاهدة ذاته الكريمة ، وشعورهم بأنهم محل رعاية الله وكرمه .
والتنكير في قوله : { وَرِضْوَانٌ } للتعظيم والتهويل ، وللإِشارة إلى أن الشئ اليسير من هذا الراض الإلهى على العبد ، أكبر من الجنات ومن المساكن الطيبة ، ومن كل حطام الدنيا .
روى الشيخان عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله - عز وجل - يقول لأهله الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يار رب ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقو : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا ربنا وأى شئ أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا " .
وروى البزار في مسنده عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله - تعالى - هل تشتهون شيئا فأزيدكم ؟
قالوا : يا ربنا وما خير مما أعطيتنا ؟ قال : رضوانى أكبر " .
وقوله : { } أى : ذلك الذي وعد الله به المؤمنين والمؤمنات في جنات ومساكن طيبة ، ومن رضا من الله عنهم ، هو الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز ، ولا يدانيه نعمي ، ولا ياسمى شرفه شرف . .
وبهذا نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد شبرتا المؤمنين والمؤمنات بأعظم البشارات ، ووصفتهم بأشرف الصفات ، وقابلت بين جزائهم وبين جزاء الكفار والمنافقين ، بما يحمل العاقل على أن يسلك طريق المؤمنين ، وعلى أن ينهج نهجهم ، ويتحلى بأوصافهم . . . وبذلك يفوز بنعيم الله ورضاه كما فازوا ، ويسعد كما سعدوا ، وينجو من العذاب الذي توعد الله به المنافقين والكافرين : بسبب اصرارهم على الكفر والنفاق ، وإيثارهم الغىّ على الرشد .
وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين ، وكانت لعنته لهم بالمرصاد ، وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضآلة والحرمان . فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين :
( جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ) . .
للإقامة المطمئنة . ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم :
وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم .
إن لحظة اتصال باللّه . لحظة شهود لجلاله . لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج ، ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة . لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعه من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار . لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح اللّه . . إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء ، ليتضاءل إلى جوارها كل متاع ، وكل رجاء . . فكيف برضوان من اللّه يغمر هذه الأرواح ، وتستشعره بدون انقطاع ?
وقوله تعالى { وعد الله المؤمنين } الآية ، وعد في هذه الآية صريحة في الخير ، وقوله { من تحتها } إما من تحت أشجارها وإما من تحت علياتها وإما من تحتها بالإضافة إلى مبدأ كما تقول في دارين متجاورتين متساويتي المكان هذه تحت هذه ، وذكر الطبري في قوله { ومساكن طيبة } عن الحسن أنه قال سألت عنها عمران بن الحصين وأبا هريرة ، فقالا على الخبير سقطت ، سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريراً{[5778]} ، ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ أو يقرب منها فاختصرتها طلب الإيجاز ، وإما قوله { في جنات عدن } فمعناه في جنات إقامة وثبوت يقال عدن الشيء في المكان إذا أقام به وثبت ، ومنه المعدن أي موضع ثبوت الشيء ، ومنه قول الأعشى :
وإن يستضيفوا إلى حلمه*** يضافوا إلى راجح قد عدن{[5779]}
هذا الكلام اللغوي ، وقال كعب الأحبار { جنات عدن } هي بالفارسية جنات الكروم والأعناب .
قال القاضي أبو محمد : وأظن هذا وهماً اختلط بالفردوس ، وقال الضحاك { جنات عدن } هي مدينة الجنة وعظمها فيها الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس حولهم بعد ، والجنات حولها ، وقال ابن مسعود : «عدن » هي بطنان الجنة وسرتها{[5780]} ، وقال عطاء : «عدن » نهر في الجنة جناته على حافته ، وقال الحسن : «عدن » قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ومد بها صوته .
قال القاضي أبو محمد : والآية تأبى هذا التخصيص إذ قد وعد الله بها جمع المؤمنين ، وأما قوله { ورضوان من الله أكبر } فروي فيه أن الله عز وجل يقول لعباده إذ استقروا في الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون وكيف لا نرضى يا ربنا ؟ فيقول إني سأعطيكم أفضل من هذا كله ، رضواني أرضى عليكم فلا أسخط عليكم أبداً ، الحديث{[5781]} ، وقوله { أكبر } يريد أكبر من جميع ما تقدم ، ومعنى الآية والحديث متفق ، وقال الحسن بن أبي الحسن وصل إلى قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر أن يكون قوله تعالى : { ورضوان من الله أكبر } إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تسنيم{[5782]} والذين يرون كما يرى النجم الفائز في الأفق ، وجميع من في الجنة راض والمنازل مختلفة ، وفضل الله تعالى متسع و { الفوز } النجاة والخلاص ومن { أدخل الجنة فقد فاز }{[5783]} والمقربون هم في الفوز العظيم ، والعبارة عندي عن حالهم بسرور وكمال أجود من العبارة عنها بلذة ، واللذة أيضاً مستعملة في هذا .