السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّـٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (72)

ولما ذكر سبحانه وتعالى الوعد على سبيل الإجمال ذكره على سبيل التفصيل بقوله تعالى :

{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } فذكر في هذه الآية أنّ الرحمة هي هذه الأنواع المذكورة في هذه الآية أوّلها قوله تعالى : { جنات تجري من تحتها الأنهار } فهي لا تزال خضرة ذات بهجة نضرة ، ولما كان النعيم لا يكمل إلا بالدوام قال تعالى : { خالدين فيها } والمراد بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار البساتين التي يحير في حسنها الناظر لأنه تعالى قال : { ومساكن طيبة في جنات عدن } أي : إقامة وخلود وهذا هو النوع الثاني فتكون جنات عدن هي المساكن التي يسكنونها والجنات الأخر هي البساتين التي يتنزهون فيها فهذه فائدة المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه .

قد كثر كلام أصحاب الآثار في صفة جنات عدن فقال الحسن : سألت عمران بن الحصين عن قوله تعالى : { ومساكن طيبة } فقال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمرّدة خضراء في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً على كل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام وفي كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن من القوّة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع ) ، وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ) أي : دار الله تعالى التي أعدها لأوليائه وأهل طاعته والمقرّبين من عباده ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قلت : يا رسول الله حدّثني عن الجنة ما بناؤها قال : ( لبنة من ذهب ولبنة من فضة وبلاطها المسك الإذفر وتربتها الزعفران وحصباؤها الدر والياقوت فهي النعيم بلا بؤس والخلود بلا موت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ) . وقال ابن مسعود : جنات عدن بطنان الجنة ، قال الأزهري : بطنانها وسطها ، وقال عطاء عن ابن عباس : هي قصر في الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى وسائر الجنان حولها وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الإذفر ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما : إنّ في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل .

وقال عطاء بن السائب : عدن نهر في الجنة قبابه على حافتيه ، وقال الرازي : حاصل الكلام أنّ في جنات عدن قولين : أحدهما : أنه اسم علم لموضع معين في الجنة وهذه الأخبار والآثار تقوي هذا القول ، وقال في «الكشاف » : وعدن علم بدليل قوله تعالى : { جنات عدن التي وعد الرحمن عباده } ( مريم ، 61 ) والقول الثاني : أنه صفة الجنة .

قال الأزهري : مأخوذ من قولك : عدن بالمكان ، إذا أقام به يعدن عدوناً فبهذا الاشتقاق قالوا الجنات كلها جنات عدن جعلنا الله تعالى ومن نحبه من أهلها وأحل علينا رضوانه فإنه المقصود الأعظم كما قال تعالى : { ورضوان من الله أكبر } لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدّي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء .

روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنّ الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم ، يقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون : وأيّ شيء أفضل من ذلك ؟ قال تعالى : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً ) وهذا هو النوع الثالث وقرأ شعبة ورضوان بضم الراء ، والباقون بالكسر { ذلك } أي : الرضوان أو جميع ما تقدّم { هو الفوز العظيم } الذي تستصغر دونه الدنيا وما فيها ، ولما وصف الله تعالى المنافقين بالصفات الخبيثة وتوعدهم بأنواع العقاب وكانت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم جارية بذكر الوعد مع الوعيد لا جرم ذكر عقبه وصف المؤمنين بالصفات الشريفة الطاهرة الطيبة ووعدهم بالثواب الرفيع والدرجة العالية .