البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّـٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (72)

{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } : لمّا أعقب المنافقين بذكر ما وعدهم به من نار جهنم ، أعقب المؤمنين بذكر ما وعدهم به من نعيم الجنان .

ولما كان قوله : { سيرحمهم الله } وعداً إجمالياً فصله هنا تنبيهاً على أنّ تلك الرحمة هي هذه الأشياء ، ومساكن طيبة .

قال ابن عباس : هي دور المقربين .

وقيل : دور في جنات عدن مختلفة في الصفات باختلاف حال الحالين بها .

وقيل : قصور زبرجد ودر وياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام في أماكن إقامتهم .

وفي الحديث : « قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوته حمراء ، وفي كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريراً » وذكر في آخر هذا الحديث أشياء ، وإن صحّ هذا النقل عن الرسول وجب المصير إليه .

في جنات عدن أي : إقامة .

وقال كعب الأحبار : هي بالفارسية الكروم والأعناب .

قال ابن عطية : وأظن هذا ما اختلط بالفردوس .

وقال ابن مسعود : عدن بطنان الجنة وشرقها ، وعنه : وسط الجنة .

وقال عطاء : نهر في الجنة ، جنانه على حافيته .

وقال الضحاك وأبو عبيدة : مدينة الجنة ، وعظمها فيها الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس حولهم بعد ، والجنات حولها .

وقال الحسن : قصر في الجن لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ، ومدتها صوته .

وعنه : قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد .

وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، ولا يسكنها غير ثلاثة : النبيون ، والصديقون ، والشهداء يقول الله تعالى : طوبى لمن دخلك » وإن صحّ هذا عن الرسول وجب المصير إليه .

وقال مقاتل : هي أعلى درجة في الجنة .

وقال عبد الله بن عمرو : قصر حوله البروج والمروج ، له خمسة آلاف باب ، على كل باب خيرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد .

وقي : قصته الجنة فيها نهر على حافتيه بساتين .

وقيل : التسنيم ، وفيه قصور الدر والياقوت والذهب ، والأرائك عليها الخيرات الحسان ، سقفها عرش الرحمن لا ينزلها إلا الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ، يفوح ريحها من مسيرة خمسمائة عام .

وهذه أقوال عن السلف كثيرة الاختلاف والاضطراب ، وبعضها يدل على التخصيص وهو مخالف لظاهر الآية ، إذ وعد الله بها المؤمنين والمؤمنات .

وقال الزمخشري : وعدن علمٌ لقوله تعالى : { جنات عدن التي وعد الرحمن عباده } ويدل عليه ما روى أبو الدرداء ، وساق الحديث المتقدم الذكر عن أبي الدرداء ، وإنما استدل بالآية على أنّ عدناً علم ، لأن المضاف إليها وصف بالتي وهي معرفة ، فلو لم تكن جنات مضافة لمعرفة لم توصف بالمعرفة ولا يتعين ذلك ، إذ يجوز أن تكون التي خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوباً بإضمار أعني : أو أمدح ، أو بدلاً من جنات .

ويبعد أن تكون صفة لقوله : الجنة للفصل بالبدل الذي هو جنات ، والحكم أنه إذا اجتمع النعت والبدل قدم النعت ، وجيء بعده بالبدل .

وقرأ الأعمش ورضوان : بضمتين .

قال صاحب اللوامح : وهي لغة ، ورضوان مبتدأ .

وجاز الابتداء به لأنه موصوف بقوله : من الله ، وأتى به نكرة ليدل على مطلق أي : وشيء من رضوانه أكبر من كل ما ذكر .

والعبد إذا علم برضا مولاه عنه كان أكبر في نفسه مما وراءه من النعيم ، وإنما يتهيأ له النعيم بعامه برضاه عنه .

كما أنه إذا علم بسخطه تنغصت حاله ، ولم يجد لها لذة .

ومعنى هذه الجملة موافق لما روي في الحديث : « أن الله تعالى يقول لعباده إذا استقروا في الجنة : هل رضيتم ؟ فيقولون : وكيف لا نرضى يا ربنا ؟ فيقول : إني سأعطيكم أفضل من هذا كله رضواني ، أرضى عنكم فلا أسخط عليكم أبداً » وقال الحسن : وصل إلى قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة .

قال ابن عطية : ويظهر أن يكون قوله تعالى : ورضوان من الله أكبر ، إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تسنيم ، والذين يرون كما يرى النجم الغائر في الأفق ، وجميع من في الجنة راض ، والمنازل مختلفة ، وفضل الله تعالى متسع انتهى .

وقال الزمخشري : رضاه تعالى هو سبب كل فوز وسعادة انتهى .

والإشارة بذلك إلى جميع ما سبق ، أو إلى الرضوان قولان ، والأظهر الأول .