معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (3)

قوله تعالى : { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن } يعني : هو الأول قبل كل شيء بلا ابتداء ، بل كان هو ولم يكن شيء موجوداً ، والآخر بعد فناء كل شيء ، بلا انتهاء تفنى الأشياء ويبقى هو ، والظاهر الغالب العالي على كل شيء ، والباطن العالم بكل شيء ، هذا معنى قول ابن عباس . وقال يمان : هو الأول القديم والآخر الرحيم ، والظاهر الحليم ، والباطن العليم . وقال السدي : هو الأول ببره إذ عرفك توحيده ، والآخر بجوده إذ عرفك التوبة على ما جنيت ، والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له ، والباطن بستره إذ عصيته فستر عليك . وقال الجنيد : هو الأول بشرح القلوب ، والآخر بغفران الذنوب ، والظاهر بكشف الكروب ، والباطن بعلم الغيوب . وسأل عمر -رضي الله تعالى عنه- كعباً عن هذه الآية فقال : معناها إن علمه بالأول كعلمه بالآخر ، وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن . { وهو بكل شيء عليم } ، أنبأنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغفار بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير عن سهيل قال : " كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول : اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء ، فالق الحب والنوى ، منزل التوراة والإنجيل والقرآن ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عني الدين وأغنني من الفقر " وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (3)

{ هُوَ الْأَوَّلُ } الذي ليس قبله شيء ، { وَالْآخِرُ } الذي ليس بعده شيء { وَالظَّاهِرُ } الذي ليس فوقه شيء ، { وَالْبَاطِنُ } الذي ليس دونه شيء . { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قد أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والسرائر والخفايا ، والأمور المتقدمة والمتأخرة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (3)

ثم ذكر - سبحانه - صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال : { هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .

أى : هو - سبحانه - الأول والسابق على جميع الموجودات ، إذ هو موجدها ومحدثها ابتداء . فهو موجود قبل كل شىء وجودا لا حد ولا وقت لبدايته .

{ والآخر } أى : الباقى بعد هلاك وفناء جميع الموجودات ، كما قال - تعالى - : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } وأوثر لفظ { الآخر } على لفظ الباقى ليتم الطباق بين الوصفين المتقابلين .

وهو { الظاهر } أى : الظاهر وجوده عن طريق مخلوقاته التى أوجدها بقدرته إذ من المعروف عند كل عاقل أن كل مخلوق لا بد له من خالق ، وكل موجود لا بد له من موجد .

فلفظ { الظاهر } مشتق من الظهور الذى هو ضد الخفاء ، والمراد به هنا ظهور الأدلة العقلية والنقلية على وجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه .

ويجوز أن يكون مشتقا من الظهور ، بمعنى الغلبة والعلو على الغير ، كما فى قوله - تعالى - : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ . . } وعليه يكون المعنى : وهو الغالب العالى على كل شىء .

وهو { والباطن } من البطون بمعنى الخفاء والاستتار ، أى : وهو - سبحانه - المحتجب يكنه ذاته عن أن تدركه الأبصار ، أو أن تحيط بحقيقة ذاته العقول ، كما قال - تعالى - { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير } ويصح أن يكون { الباطن } بمعنى العالم بما بطن وخفى من الأمور يقال : فلان أبطن بهذا الأمر من غيره ، أى : أعلم بهذا الشىء من غيره .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أى : وهو - سبحانه - عليم بكل ما فى هذا الكون ، لا تخفى عليه خافية من شئونه ، كما قال - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } قال ابن كثير : وهذه الآية هى المشار إليها فى حديث عرباض بن معاوية أنها أفضل من ألف آية .

وقد اختلفت عبارات المفسرين فى هذه الآية على نحو بضعة عشر قولا وقال البخارى : قال يحيى : الظاهر على كل شىء علما والباطن على كل شىء علما .

وروى الإمام مسلم - فى صحيحه - ، والإمام أحمد - فى مسنده - عن أبى هريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو عند النوم فيقول : " اللهم فاطر السموات ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شىء ، منزل التوراة والإنجيل والقرآن ، فالق الحب والنوى ، لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر كل شىء أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شىء ، وأنت الآخر فليس بعدك شىء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شىء ، وأنت الباطن فليس دونك شىء . اقض عنا لادين ، وأغننا من الفقر . . " " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (3)

وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض ، حتى تطالعه حقيقة أخرى ، لعلها أضخم وأقوى . حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة . فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه ؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء ، عليمة بكل شيء :

( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) . .

الأول فليس قبله شيء . والآخر فليس بعده شيء . والظاهر فليس فوقه شيء . والباطن فليس دونه شيء .

الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان ، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان . وهما مطلقتان . ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله . وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه . حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله . فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده . وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته . وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود . .

( وهو بكل شيء عليم ) . . علم الحقيقة الكاملة . فحقيقة كل شيء مستمدة من الحقيقة الإلهية وصادرة عنها . فهي مستغرقة إذن بعلم الله اللدني بها . العلم الذي لا يشاركه أحد في نوعه وصفته وطريقته . مهما علم المخلوقون عن ظواهر الأشياء !

فإذا استقرت هذه الحقيقة الكبرى في قلب ، فما احتفاله بشيء في هذا الكون غير الله سبحانه ? وكل شيء لا حقيقة له ولا وجود - حتى ذلك القلب ذاته - إلا ما يستمده من تلك الحقيقة الكبرى ? وكل شيء وهم ذاهب ، حيث لا يكون ولا يبقى إلا الله ، المتفرد بكل مقومات الكينونة والبقاء ?

وإن استقرار هذه الحقيقة في قلب ليحيله قطعة من هذه الحقيقة . فأما قبل أن يصل إلى هذا الاستقرار ، فإن هذه الآية القرآنية حسبه ليعيش في تدبرها وتصور مدلولها ، ومحاولة الوصول إلى هذا المدلول الواحد وكفى !

ولقد أخذ المتصوفة بهذه الحقيقة الأساسية الكبرى ، وهاموا بها وفيها ، وسلكوا إليها مسالك شتى ، بعضهم قال إنه يرى الله في كل شيء في الوجود . وبعضهم قال : إنه رأى الله من وراء كل شيء في الوجود . وبعضهم قال : إنه رأى الله فلم ير شيئا غيره في الوجود . . وكلها أقوال تشير إلى الحقيقة إذا تجاوزنا عن ظاهر الألفاظ القاصرة في هذا المجال . إلا أن ما يؤخذ عليهم - على وجه الإجمال - هو أنهم أهملوا الحياة بهذا التصور . والإسلام في توازنه المطلق يريد من القلب البشري أن يدرك هذه الحقيقة ويعيش بها ولها ، بينما هو يقوم بالخلافة في الأرض بكل مقتضيات الخلافة من احتفال وعناية وجهاد وجهد لتحقيق منهج الله في الأرض ، باعتبار هذا كله ثمرة لتصور تلك الحقيقة تصورا متزنا ، متناسقا مع فطرة الإنسان وفطرة الكون كما خلقهما الله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (3)

هو الأول السابق على سائر الموجودات من حيث إنه موجدها ومحدثها والآخر الباقي بعد فنائها ولو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها أو هو الأول الذي تبتدئ منه الأسباب وتنتهي إليه المسببات أو الأول خارجا و الآخر ذهنا والظاهر والباطن الظاهر وجوده لكثرة دلائله والباطن حقيقة ذاته فلا تكتنهها العقول أو الغالب على كل شيء والعالم بباطنه والواو الأولى والأخيرة للجمع بين الوصفين والمتوسطة للجمع بين المجموعين وهو بكل شيء عليم يستوي عنده الظاهر والخفي .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (3)

{ هُوَ الأول والأخر والظاهر والباطن } .

استئناف في سياق تبْيين أن له ملك السماوات والأرض ، بأن مُلكه دائم في عموم الأزمان وتصرف فيهما في كل الأحوال ، إذ هو الأول الأزلي ، وأنه مستمر من قبل وجود كل محدث ومن بعد فنائه إذ الله هو الباقي بعد فناء ما في السماوات والأرض ، وذلك يظهر من دلالة الآثار على المؤثِر فإن دلائل تصرفه ظاهرة للمتبصر بالعقل وهو معنى { الظاهر } كما يأتي ، وأن كيفيات تصرفاته محجوبة عن الحس وذلك معنى { الباطن } تعالى كما سيأتي .

فضمير { هو } ليس ضمير فصل ولكنه ضمير يعبر عن اسم الجلالة لاعتبارنا الجملة مستأنفة ، ولو جعلته ضمير فصل لكانت أوصاف { الأول والأخر والظاهر والباطن } أخباراً عن ضمير { هو العزيز الحكيم } [ الحديد : 1 ] .

وقد اشتملت هذه الجملة على أربعة أَخبار هي صفات لله تعالى .

فأما وصف { الأول } فأصل معناه الذي حصُل قبل غيره في حالة تُبينُها إضافة هذا الوصف إلى ما يدل على الحالة من زمان أو مكان ، فقد يقع مع وصف ( أول ) لفظُ يدل على الحالة التي كان فيها السبق ، وقد يستدل على تلك الحالة من سياق الكلام ، فوصف { الأول } لا يتبين معناه إلا بما يتصل به من الكلام ولا يتصور إلا بالنسبة إلى موصوف آخر هو متأخر عن الموصوف ب ( أول ) في حالة مَّا .

فقول امرىء القيس :

ومُهلهل الشعراء ذَاك الأول

يفيد أنه مهلهل سابق غيره من الشعراء في الشعر ، وقوله تعالى : { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } [ الأنعام : 14 ] أي أولهم في اتباع الإِسلام ، وقوله : { ولا تكونوا أول كافر به } [ البقرة : 41 ] ، أي أولهم كُفراً وقوله : { وقالت أولاهم لأخراهم } [ الأعراف : 39 ] ، أي أُولاهم في الدخول إلى النار .

وأشهر معاني الأوَّلية هو السبق في الوجود ، أي في ضد العدم ، ألا ترى أن جميع الأحوال التي يسبق صاحبُها غيره فيها هي وجودات من الكيفيات ، فوصف الله بأنه { الأول } معناه : أنه السابق وُجوده على كل موجود وُجد أو سيوجد ، دون تخصيص جنس ولا نوع ولا صنف ، ولكنه وصف نسبي غير ذاتي .

ولهذا لم يذكر لهذا الوصف هنا متعلِّق بكسر اللام ، ولا ما يدل على متعلِّق لأن المقصود أنه الأول بدون تقييد .

ويرادف هذا الوصفَ في اصطلاح المتكلمين صفةُ القدم .

واعلم أن هذا الوصف يستلزم صفة الغِنَى المطلق ، وهي عدم الاحتياج إلى المخصِّص ، أي مخصص يخصصه بالوجود بدلاً عن العدم ، لأن الأول هنا معناه الموجود لِذاته دون سبق عدم ، وعدم الاحتياج إلى محل يقوم به قيام العرض بالجوهر .

ويستلزم ذلك انفراده تعالى بصفة الوجود لأنه لو كان غيرُ الله واجباً وجودُه لما كان الله موصوفاً بالأولية ، فالموجودات غير الله ممكنة ، والممكن لا يتصف بالأولية المطلقة ، فلذلك تثبت له الوحدانية ، ثم هذه الأولية في الوجود تقتضي أن تثبت لله جميع صفات الكمال اقتضاء عقلياً بطريق الالتزام البينّ بالمعنى الأعمّ وهو الذي يلزم من تصور ملزومه وتصوُّره الجزم بالملازمة بينهما .

وأما وصف { الآخر } فهو ضد الأول ، فأصله : هو المسبوق بموصوف بصفة متحدث عنها في الكلام أو مشار إليها فيه بما يذكر من متعلق به ، أو تمييزه ، على نحو ما تقدم في قوله : { هو الأول } كقوله تعالى : { حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم } [ الأعراف : 38 ] أي أخراهم في الإدِّرَاك في النار ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " آخر أهل الجنة دخولاً الجنة . . . " الخ ، وقول الحريري في المقامة الثانية « وجلس في أُخريات الناس » ، أي الجماعات الأخريات في الجلوس ، وهو وصف نسبيّ .

ووصف الله تعالى بأنه { الآخر } بعد وصفه بأنه { الأول } مع كون الوصفين متضادّين يقتضي انفكاك جهتي الأولية والآخرية ، فلما تقرر أن كونه الأول متعلق بوجود الموجودات اقتضى أن يكون وصفه ب { الآخر } متعلقاً بانتقاض ذلك الوجود ، أي هو الآخر بعد جميع موجودات السماء والأرض ، وهو معنى قوله تعالى : { نرث الأرض ومن عليها } [ مريم : 40 ] وقوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] .

فتقدير المعنى : والآخِر في ذلك أي في استمرار الوجود الذي تقرر بوصفه بأنه الأول . وليس في هذا إشعار بأنه زائل ينتابه العدم ، إذ لا يشعر وصف الآخِر بالزوال لا مطابقة ولا التزاماً ، وهذا هو صفة البقاء في اصطلاح المتكلمين . فآل معنى { الآخر } إلى معنى « الباقي » ، وإنما أوثر وصف { الآخر } بالذكر لأنه مقتضى البلاغة ليتم الطباق بين الوصفين المتضادين ، وقد عُلم عند المتكلمين أن البقاء غير مختص بالله تعالى وأنه لا ينافي الحُدوث على خلاف في تعيين الحوادث الباقية ، بخلاف وصف القدم فإنه مختص بالله تعالى ومتناففٍ مع الحدوث .

واعلم أن في قوله : { هو الأول والأخر } دلالة قصر من طريق تعريف جزأي الجملة .

فأما قصر الأولية على الله تعالى في صفة الوجود فظاهر ، وأما قصر الآخرية عليه في ذلك وهو معنى البقاء ، فإن أريد به البقاء في العالم الدنيوي عرض إشكال المتعارض بما ورد من بقاء الأرواح ، وحديث " أن عَجْب الذَّنب لا يفنى وأن الإِنسان منه يعادُ " . ورفع هذا الإشكال أن يجعل القصر ادعائياً لعدم الاعتداد ببقاء غيره تعالى لأنه بقاء غير واجب بل هو بجعل الله تعالى .

والجمع بين وصفي { الأول والأخر } فيه محسّن الطباق .

و { الظاهر } الأرجح أنه مشتق من الظُّهور الذي هو ضد الخفاء فيكون وصفه تعالى به مجازاً عقلياً ، فإن إسناد الظهور في الحقيقة هو ظهور أدلة صفاته الذاتية لأهل النظر والاستدلال والتدبر في آيات العالم فيكون الوصف جامعاً لصفته النفسية ، وهي الوجود ، إذ أدلة وجوده بيّنة واضحة ولصفاته الأخرى مما دل عليها فعله من قدرة وعلم وحياة وإرادة ، وصفات الأفعال من الخلق والرزق والإِحياء والإِماتة كما علمت في قوله : { هو الأول } عن النقص أو ما دل عليها تنزيهه عن النقص كصفة الوحدانية والقدم والبقاء والغنى المطلق ومخالفة الحوادث ، وهذا المعنى هو الذي يناسبه المقابلة بالباطن .

ويجوز أن يكون مشتقاً من الظهور ، أي الغلبة كالذي في قوله تعالى : { إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم } [ الكهف : 20 ] ، فمعنى وصفه تعالى ب { الظاهر } أنه الغالب .

وهذا لا يناسب مقابلته ب { الباطن } إلا على اعتبار محسِّن الإِيهام ، وما وقع في حديث أبي هريرة في « صحيح مسلم » من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء " فمعنى فاء التفريع فيه أن ظهوره تعالى سبب في انتفاء أن يكون شيء فوق الله في الظهور ، أي في دلالة الأدلة على وجوده واتصافه بصفات الكمال ، فدلالة الفاء تفريع لا تفسير .

و { الباطن } الخفي يقال : بطن ، إذا خفي ومصدره بُطُون .

ومعنى وصفه تعالى بباطن وصف ذاته وكنهه لأنه محجوب عن إدراك الحواس الظاهرة قال تعالى : { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] .

والقصر في قوله : { والظاهر والباطن } قصر ادعائي لأن ظهور الله تعالى بالمعنيين ظهور لا يدانيه ظهور غيره ، وبطونه تعالى لا يشبهه بطون الأشياء الخفية إذ لا مطمع لأحد في إدراك ذاته ولا في معرفة تفاصيل تصرفاته .

والجمع بين وصفه ب { الظاهر } بالمعنى الراجح و { الباطن } كالجمع بين وصفه ب { الأول والآخر } كما علمته آنفاً . وفي الجمع بينهما محسن المطابقة .

وفائدة إجراء الوصفين المتضادين على اسم الله تعالى هنا التنبيه على عظم شأن الله تعالى ليتدبر العالمون في مواقعها .

واعلم أن الواوات الثلاثة الواقعة بين هذه الصفات الأربع متحدة المعنى تقتضي كل واحدة منها عطف صفة .

وقال الزمخشري : « الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوّلية والآخريَّة . والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين » اه . وهو تشبث لا داعي إليه ولا دليل عليه ولو أريد ذلك لقال : هو الأول الآخر ، والظاهر الباطن ، بحذف واوين . والمعنى الذي حاوله الزمخشري : تقتضيه معاني هاته الصفات بدون اختلاف معاني الواوات .

{ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيم } .

عطف على جملة { هو الأول والآخر } الخ عطفت صفة علمه على صفة ذاته ، وتقدم نظير هذه الجملة في أوائل سورة البقرة .