غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (3)

1

وتفسير أسماء الله الحسنى المذكورة في أول هذه السورة قد سبق في البسملة فلا حاجة إلى إعادة كلها إلا أننا نذكر ما أورده الإمام فخر الدين هاهنا على سبيل الإيجاز مع تنقيح ما يجب تنقيحه . قال : هذا مقام مهيب والبحث فيه من وجوه : الأول أن تقدم الشيء على الشيء إما تقدم التأثير كتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم ، وإما التقدم بالحاجة لا بالتأثير كتقدم الإمام على المأموم ، أو معقول كما إذا جعلنا المبدأ هو الجنس العالي ، وإما بالزمان كتقدم الأب على الابن قال : وتقدم بعض أجزاء الزمان على الزمان عندي ليس من هذه الأقسام الخمسة ، أما التأثير والحاجة فلأنه لو كان كذلك لوجدا معاً كما أن العلة والمعلول يوجدان معاً وكذا الواحد والاثنان . وأما الشرف والمكان فظاهران ، وأما بالزمان فإن الزمان لا يقع في الزمان وإلا تسلسل . قلت : لم لا يجوز أن يكون تقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض بالحاجة أي بالطبع فإن الزمان كما لا يخفى حين كان كما متصلاً غير قار الذات اقتضت حقيقته أن يكون له وجود سيال يعقب بعض أجزائه بعضاً لا تنتهي النوبة إلى جزء مفروض منه إلا وقد انقضى منه جزء مفروض على الاتصال . وقال : إذا عرفت ذلك فنقول : القرآن دال على أنه تعالى قبل كل شيء والبرهان أيضاً يدل على هذا لأن انتهاء الممكنات لا بد أن يكون إلى الواجب إلا أن تلك القبلية ليست بالتأثير لأن المؤثر من حيث هو مؤثر مضاف إلى الأثر من حيث هو أثرو المضافان معاً . والمعي لا يكون قبل لا بالحاجة لأنهما قد يكونان معاً كما قلنا ، ولا لمحض الشرف فإن تلك القبلية ليست مرادة هاهنا ولا بالمكان وهو ظاهر ، ولا بالزمان لأن الزمان بجميع أجزائه ممكن الوجود ، والتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان فإذن تقدم الواجب تعالى على ما عداه خارج عن هذه الأقسام الخمسة وكيفيته لا يعلمها إلا هو . قلت : إنه سبحانه متقدم على ما سواه بجميع أقسام التقدمات الخمسة . أما بالتأثير فظاهر قوله والمضافان معاً . قلنا : إن أردت من الحيثية المذكورة فمسلم ولا محذور ، وإن أردت مطلقاً فممنوع . وأما بالطبع فلأن ذات الواجب من حيث هو لا تفتقر إلى الممكن من حيث هو وحال الممكن بالخلاف ، وأما بالشرف فظاهر ، وأما بالمكان فلأنه وراء كل الأماكن ومعها لقوله { فأينما تولوا فثم وجه الله } [ البقرة :115 ] وقد جاء في الحديث " لو أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله " ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهاهنا سر لعلنا قد رمزنا إليه في هذا الكتاب تفهمه بإذن الله إن كنت أهلاً له . وأما بالزمان فأظهر قوله والتقدم على الزمن لا يكون بالزمان : قلنا : ممنوع لأن الزمان عند المحققين هو أمر وهمي ، والزمان الذي يتكلم هو فيه إنما هو مقدار حركة الفلك الأعظم ، ولا ريب أن قبل هذه الحركة لا يوجد لها مقدار إلا أن قبل كل شيء يوجد امتداد وهمي يحصل فيه وجود الواجب سبحانه ، ومن هذا التحقيق يرتفع ما أشكل على الإمام من التمييز بين الأزل وما لا يزال فإن المبادئ الوهمية تتغير بتغير الاعتبارات وباختلافها تختلف حقائقها إذ ليس لها وجود سواها فقد يصير ما هو في جانب الأزل في جانب لا يزال ، وبالعكس إذا تغيرت المبادئ المفروضة . قال : أما البحث عن كونه تعالى آخراً بمعنى أنه يبقى وكل شيء يفنى فمنهم من أوجب ذلك حتى يتقرر كونه آخراً وهو مذهب جهم فإنه زعم أنه سبحانه يوصل الثواب إلى أهل الثواب ، والعقاب إلى أهل العقاب ، ثم يفني الجنة وأهلها والنار وأهلها والعرش والكرسي والملك والفلك ولا يبقى مع الله شيء أصلاً في أبد الآباد كما لم يكن قبله شيء في أزل الآزال قال : ومن حجج جهنم أنه تعالى إما أن يكون عالماً بعدد حركات أهل الجنة والنار أولاً . فإن كان عالماً لزم تناهيه فإن الإحاطة بما لا يتناهى مستحيلة . إن لم يعلم لزم نسبة الجهل إليه تعالى وذلك محال . وأيضاً الحوادث المستقبلة قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فهو متناه . وأجاب عن الأول بأن إمكان استمرار هذه الأشياء حاصل إلى الأبد ، والدليل عليه أن هذه الماهيات لو زال إمكانها لزم انقلاب الممكن إلى الممتنع ، ولزم أن تنقلب قدرة الله من صلاحية التأثير إلى امتناع التأثير . قلت : هذه مغالطة فإنه لا يلزم من الإمكان الذاتي للشيء وقوعه في الخارج ولا من عدم وقوعه في الخارج الامتناع الذاتي وأجاب عن الثاني بأنه لا يعلم أن عددها ليس بمعين وهذا لا يكون جهلاً إنما الجهل أن يكون له عدد معين ولا يعلمه . قلت : الذي علمه متناه يجب أن يكون معلومه متناهياً ، أما الذي لا نهاية لعلمه فلم يبعد بل يجب أن تكون معلوماته غير متناهية . وأجاب عن الثالث بأن الخارج منه إلى الوجود أحداً يكون متناهياً . قلت : الزيادة والنقصان لا يوجبان التناهي كتضعيف الألف والألفين مراراً غير متناهية قال : فالمتكلمون حين أثبتوا إمكان بقاء العالم عولوا في أبدية الجنة والنار على إجماع المسلمين .

واختلفوا في معنى كونه تعالى آخراً على وجوه أحدها : أنه تعالى يفني جميع العالم ليتحقق كونه آخراً ، ثم إنه يوجدها ويبقيها أبداَ . قلت : هذا حقيق بأن لا يسمى آخرية بل يسمى توسطاً . وثانيها أن صحة آخرية كل الأشياء مختصة به فلا جرم وصف بكونه آخراً . أقول : هذا أول المسألة لأن الكلام لم يقع في اختصاص وجوده وعدمه وإنما النزاع في معنى قوله آخراً . وثالثها أنه أول في الوجود آخر في الاستدلال لأن المقصود من جميع الاستدلالات معرفة ذات الصانع وصفاته ، وأما سائر الاستدلالات التي لا يراد بها معرفة الصانع فهي حقيرة خسيسة . قلت : أراد أنه غاية الأفكار ونهاية الأنظار وهذا معنى حسن في نفسه إلا أنه لا يطابق معنى الأول كل المطابقة . ورابعها أنه أول في ترتيب الوجود وآخر إذا عكس الترتيب . قلت : هذا تصور صحيح ينطبق على السلسلة المترتبة من العلل والمعلولات ، وعلى المترتبة من الأشرف إلى الأخس . وعلى الآخذة من الوحدة إلى الكثرة ، وكما يلي الأزل إلى ما يلي الأبد ، ومما يلي المحيط إلى ما يقرب من المركز فهو سبحانه أول بالترتيب الطبيعي وآخر بالترتيب المنعكس فقد وضح بهذا البيان صحة إطلاق التقدمات الخمسة ومقابلاتها عليه تعالى ، وهذا من غوامض الأسرار وقد وفقني الله تعالى لحلها وبيانها فالشكر على آلائه . أما تفسير الظاهر والباطن فالمحققون قالوا : إنه الظاهر بالأدلة الدالة على وجوده . والباطن لأنه جل عن إدراك الحواس والعقول إياه إما في الدنيا أو فيها وفي الآخرة جميعاً . وقيل : معنى الظاهر الغالب ، والباطن العالم بما بطن أي خفي . قال الليث : يقال أنت أبطن بهذا الأمر أي أخبر به .

/خ29