قوله تعالى : { فمن خاف } . أي علم ، كقوله تعالى : ( فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ) أي علمتم .
قوله تعالى : { من موص } . قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب ، بفتح الواو وتشديد الصاد ، كقوله تعالى : ( ما وصى به نوحاً ) ( ووصينا الإنسان ) وقرأ الآخرون بسكون الواو ، وتخفيف الصاد ، كقوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) .
قوله تعالى : { جنفاً } . أي جوراً وعدولاً عن الحق ، والجنف : الميل .
قوله تعالى : { أو إثماً } . أي ظلماً ، قال السدي وعكرمة والربيع : الجنف الخطأ والإثم العمد .
قوله تعالى : { فأصلح بينهم فلا إثم عليه } . واختلفوا في معنى الآية ، قال مجاهد : معناها أن الرجل إذا حضر مريضاً وهو يوصي فرآه يميل : إما بتقصير أو إسراف ، أو وضع الوصية في غير موضعها فلا حرج على من حضره أن يأمره بالعدل وينهاه عن الجنف فينظر للموصى وللورثة ، وقال آخرون : إنه أراد به أنه إذا أخطأ الميت في وصيته أو جار متعمداً فلا حرج على وليه أو وصيه أو ولى أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته ، وبين الموصى لهم ، ويرد الوصية إلى العدل والحق ، ( فلا إثم عليه ) ، أي : فلا حرج عليه .
قوله تعالى : { إن الله غفور رحيم } . وقال طاووس : جنفة توجيهه ، وهو أن يوصي لبني بنيه يريد ابنه ولولد ابنته ولزوج ابنته يريد بذلك ابنته . وقال الكلبي : كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى : ( فمن بدله بعد ما سمعه ) الآية وإن استغرق المال كله ولم يبق للورثة شيء ، ثم نسخها قوله تعالى : ( فمن خاف من موص جنفاً ) الآية ، قال ابن زيد : فعجز الموصي أن يوصي للوالدين والأقربين كما أمر الله تعالى ، وعجز الموصي أن يصلح فانتزع الله تعالى ذلك منهم ، ففرض الفرائض .
روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار " ثم قرأ أبو هريرة : ( من بعد وصية إلى قوله غير مضار ) .
وأما الوصية التي فيها حيف وجنف ، وإثم ، فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها ، أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل ، وأن ينهاه عن الجور والجنف ، وهو : الميل بها عن خطأ ، من غير تعمد ، والإثم : وهو التعمد لذلك .
فإن لم يفعل ذلك ، فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم ، ويتوصل إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة ، ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا قد فعل معروفا عظيما ، وليس عليهم إثم ، كما على مبدل الوصية الجائزة ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } أي : يغفر جميع الزلات ، ويصفح عن التبعات لمن تاب إليه ، ومنه مغفرته لمن غض من نفسه ، وترك بعض حقه لأخيه ، لأن من سامح ، سامحه الله ، غفور لميتهم الجائر في وصيته ، إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لأجل براءة ذمته ، رحيم بعباده ، حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون ، فدلت هذه الآيات على الحث على الوصية ، وعلى بيان من هي له ، وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة ، والترغيب في الإصلاح في الوصية الجائرة .
ثم استثنى - سبحانه - حالة يجوز فيها التغيير فقال ، { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } .
خاف : من الخوف ، وهو في الأصل حالة تعتري النفس عند الانقباض من شر يتوقع حصوله على سبيل الظن أو على سبيل العلم .
والجنف : الميل والجور . يقال : جنف في وصيته وأجنف ، مال وجار ، فهو جنف وأجنف . وقيل : أجنف مختص بالوصية وجنف في مطلق الميل عن الحق . ويقال : جنف وجنف عن طريقة جنفاً وجنوفاً .
والإِثم : العمل الذي يبغضه الله . يقال : أثم فهو آثم وأثيم .
قال بعضهم : والمراد بالجنف هنا : الميل عن الحق في الوصية خطأ ، بقرينة مقابلته بالإِثم وهو الميل عن الحق فيها عمداً .
هذا ، ويرى جمهور العلماء أن هذه الآية الكريمة واردة في الوصي يرى أن الموصي قد حاد في وصيته عن حدود العدل ، فللوصي حينئذ أن يصلح فيها بحيث يجعلها متفقة مع ما شرعه الله ، وهو في هذه الحالة لا إثم عليه لأنه قد غير الباطل بالحق وعلى هذا الرأي يكون المعنى : أن الوصي إذا رأى في الوصية ميلا عن الحق خطأ أو عمداً وأصلح بين الموصي لهم يردهم إلى الوجه المشروع فلا إثم عليه في التغيير في الوصية .
والضمير في قوله : { بَيْنَهُمْ } عائد على الموصي لهم .
ويرى آخرون أن هذه الآية واردة في شأن كل من يبغي الإِصلاح من الناس ، بأن يرى الموصِي يوصِي ، فظهر له - أي هذا المصلح - أن الموصِي قد جانب العدل والصواب في وصيته ، فيأخذ في الإِصلاح ، بأن يرشده بأن فعله هذا لا يتفق مع شريعة العدل التي أمر بها الله ، ويحاول قدر استطاعته أن يزيل ما حدث من خلاف بين الموصِي والموصَى لهم .
وعلى هذا الرأي يكون المعنى : إن خرج الموصِي في وصيته عن حدود العدالة ، ورأى أمارات ذلك منه من يريد الإِصلاح من الناس ، وتوقع أن شراً سيترتب على هذه الوصية التي فيها جور ، أو شاهد نزاعاً بين الموصى لهم بسبب ذلك ، فلا إثم على هذا المصلح في أن يصلح بين الموصِى والموصَى لهم ، وأن يرشد الموصى إلى سلوك طريق العدل والحق . وعليه فيكون الضمير في قوله : { بَيْنَهُمْ } يعود على الموصى والموصى لهم .
ويبدو لنا أن الرأي الأول أقرب إلى الصواب ، لأن سياق الآية يؤيده ، إذ هي بمنزلة الاستثناء من قوله - تعالى - : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } . . وهذا إنما يكون بعد موت الموصِى لا في حياته .
وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل أتى به - سبحانه - للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه ، فإن من يغفر الذنوب ويرحم المذنبين تكون مغفرته ورحمته أقرب إلى من يقصد بعمله الإِصلاح ولو اعتمد عغلى ظن غالب أو أخطأ وجه الصواب فيما أتى من أعمال .
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد بينت للناس حكما آخر من أحكامها السامية ، يتعلق بالوصية في الأموال ، وفي هذا الحكم دعوة إلى التراحم والتكافل ، وغرس لأواصر المودة والمحبة بين الأبناء والآباء وبين الأقارب بعضهم مع بعض .
إلا حالة واحدة يجوز فيها للوصي أن يبدل من وصية الموصي . ذلك إذا عرف أن الموصي إنما يقصد بوصيته محاباة أحد ، أو النكاية بالوريث . فعندئذ لا حرج على من يتولى تنفيذ الوصية أن يعدل فيها بما يتلافى به ذلك الجنف ، وهو الحيف ، ويرد الأمر إلى العدل والنصف :
( فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم ) . .
والأمر موكول إلى مغفرة الله ورحمته لهذا ولذاك . ومشدود إلى مراعاة الله في كل حال ، فهي الضمان الأخير للعدل والإنصاف .
وهكذا نجد الأمر في الوصية مشدودا إلى تلك العروة التي شد إليها من قبل أمر القصاص في القتلى . والتي يشد إليها كل أمر في التصور الإيماني وفي المجتمع الإسلامي على السواء .
{ فمن خاف من موص } أي توقع وعلم ، من قولهم أخاف أن ترسل السماء . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر { موص } مشددا . { جنفا } ميلا بالخطأ في الوصية . { أو إثما } تعمدا للحيف . { فأصلح بينهم } بين الموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع . { فلا إثم عليه } في هذا التبديل ، لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول . { إن الله غفور رحيم } وعد للمصلح ، وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم .
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 182 )
والجنف الميل ، وقال الأعشى : [ الطويل ]
تجانِفُ عَنْ حِجْرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتي . . . وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا( {[1651]} )
وقال عامر الرامي الحضرمي المحاربي : [ الوافر ]
هُمُ الْمَوْلَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنَا . . . وإِنَّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ( {[1652]} )
ومعنى الآية على ما قال مجاهد : من خشي أن يحيف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الإذاية( {[1653]} ) أو يأتيها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم ، فالمعنى : من وعظه في ذلك ورده عنه فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وما بين الورثة في ذاتهم { فلا إثم ، عليه ، إن الله غفور } عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الإذاية { رحيم } به .
وقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والربيع : معنى الآية ، من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي( {[1654]} ) أن الموصي خلف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته ، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم عليه ، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد ، لكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى . وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنه : «فلإثم عليه » بحذف الألف .
تفريع على الحكم الذي تقدمه وهو تحريم التبديل ، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيدُ المبدل لها ، وتفرع عن وعيد المِّبدل الإذنُ في تبديلٍ هو من المعروف وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقةِ الإصلاح بين الموصَي لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية بأن كان جديراً بالإيصاء إليه فتركه الموصي أو كان جديراً بمقدارٍ فأجحف به الموصي ؛ لأن آية الوصية حضرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولاً إلى أمانته بالمعروف ، فإذا حاف حيفاً واضحاً وجَنَف عن المعروف أُمِر ولاة الأمور بالصلح .
ومعنى خاف هنا الظن والتوقع ؛ لأن ظن المكروه خَوف فأطلق الخوف على لازمه وهو الظن والتوقعُ إشارة إلى أن ما توقعه المتوقع من قبيل المكروه ، والقرينة هي أن الجنف والإثم لا يخيفان أحداً ولا سيما من ليس من أهل الوصية وهو المصلح بين أهلها ، ومن إطلاق الخوف في مثل هذا قول أبي مِحْجن الثقفي :
* أخَافُ إذا ما مِتُّ أنْ لا أذُوقها *
أي أظن وأَعلم شيئاً مكروها ولذا قال قبله :
* تُرَوِّي عِظَامي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُها *
والجنف الحيف والميل والجور وفعله كفرح . والإثم المعصية ، فالمراد من الجنف هنا تفضيل من لا يستحق التفضيل على غيره من القرابة المساوي له أو الأحق ، فيشمل ما كان من ذلك عن غير قصد ولكنه في الواقع حيف في الحق ، والمراد بالإثم ما كان قصد الموصي به حرمان من يستحق أو تفضيل غيره عليه .
والإصلاح جعل الشيء صالحاً يقال : أصلحه أي جعله صالحاً ، ولذلك يطلق على الدخول بين الخصمين بالمراضاة ؛ لأنه يجعلهم صالحين بعد أن فسدوا ، ويقال : أصلح بينهم لتضمينه معنى دخل ، والضمير المجرور ببين في الآية عائد إلى الموصي والموصى لهم المفهومين من قوله { موص } إذ يقتضي موصَى لهم ، ومعنى { فلا إثم عليه } [ البقرة : 173 ] أنه لا يلحقه حرج من تغيير الوصية ؛ لأنه تغيير إلى ما فيه خير .
والمعنى : أن من وجد في وصية الموصي إضراراً ببعض أقربائه ، بأن حرمه من وصيته أو قدم عليه من هو أبعد نسباً ، أو أوصى إلى غني من أقربائه وترك فقيرهم فسعى في إصلاح ذلك وطلب من الموصي تبديل وصيته ، فلا إثم عليه في ذلك ؛ لأنه سعى في إصلاح بينهم ، أو حدث شقاق بين الأقربين بعد موت الموصي لأنه آثر بعضهم ، ولذلك عقبه بقوله : { إن الله غفور رحيم } وفيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجاً للإذن من الله تعالى والتنصيص على أنه مغفور .
وقرأ الجمهور : « موص » على أنه اسم فاعل أو أوصى وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف « موصٍ » بفتح الواو وتشديد الصاد على أنه اسم فاعل وصى المضاعف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أو إثما}: تعمدا للجنف، أي إن جار الميت في وصيته عمدا أو خطأ، فلم يعدل، فخاف الوصي أو الولي من جور وصيته،
{فأصلح بينهم}: بين الورثة بالحق والعدل.
{فلا إثم عليه}: حين خالف جور الميت.
{رحيم}: به إذا رخص في مخالفة جور الميت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية؛
فقال بعضهم: تأويلها: فمن حضر مريضا وهو يوصي عند إشرافه على الموت، فخاف أن يخطئ في وصيته فيفعل ما ليس له أو أن يعمد جورا فيها فيأمر بما ليس له الأمر به، فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه أن يصلح بينه وبين ورثته بأن يأمره بالعدل في وصيته، وأن ينهاهم عن منعه مما أذن الله له فيه وأباحه له...عن مجاهد: هذا حين يحضر الرجل وهو يموت، فإذا أسرف أمروه بالعدل، وإذا قصر قالوا افعل كذا، أعط فلانا كذا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف من أوصياء ميت أو والي أمر المسلمين من موص جَنفا في وصيته التي أوصى بها الميت، فأصلح بين ورثته وبين الموصى لهم بما أوصى لهم به، فردّ الوصية إلى العدل والحق فلا حَر ج ولا إثم... عن قتادة في قوله:"فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوّ إثْما" قال: هو الرجل يوصي فيحيف في وصيته فيردها الوليّ إلى الحق والعدل.
وقال بعضهم: بل معنى ذلك: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما في عطيته عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض، فلا إثم على من أصلح بينهم، يعني بين الورثة.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن خاف من موص جنفا أو إثما في وصيته لمن لا يرثه بما يرجع نفعه على من يرثه فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص لاَبائه وأقربائه جنفا على بعضهم لبعض، فأصلح بين الاَباء والأقرباء فلا إثم عليه.
وأولى الأقوال في تأويل الآية، أن يكون تأويلها: فمن خاف من موص جنفا أو إثما، وهو أن يميل إلى غير الحقّ خطأ منه، أو يتعمد إثما في وصيته بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث، أو بالثلث كله، وفي المال قلة، وفي الورثة كثرة، فلا بأس على من حضره أي يصلح بين الذين يوصَى لهم وبين ورثة الميت وبين الميت، بأن يأمر الميت في ذلك بالمعروف، ويعرّفه ما أباح الله له في ذلك، وأذن له فيه من الوصية في ماله، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بالمَعْرُوفِ} وذلك هو الإصلاح الذي قال الله تعالى ذكره: {فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ}، وكذلك لمن كان في المال فضل وكثرة، وفي الورثة قلة، فأراد أن يقصر في وصيته لوالديه وأقاربه عن ثلثه، فأصلح من حضره بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصي لهم بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم، ويبلغ بها ما رخص الله فيه من الثلث، فذلك أيضا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف.
وإنما اخترنا هذا القول لأن الله تعالى ذكره قال: {فَمَنْ خافَ مِن مُوصٍ جَنَفا أوْ إثْما} يعني بذلك: فمن خاف من موص أن يجنف أو يأثم. فخوف الجنف والإثم من الموصي إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم، فأما بعد وجوده منه فلا وجه للخوف منه بأن يجنف أو يأثم، بل تلك حال من قد جنف أو أثم، ولو كان ذلك معناه قيل: فمن تبين من موص جنفا أو إثما، أو أيقن أو علم، ولم يقل فمن خاف منه جنفا.
فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال: فما وجه الإصلاح حينئذٍ والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء؟ قيل: إن ذلك وإن كان من معاني الإصلاح، فمن الإصلاحِ الإصلاحُ بين الفريقين فيما كان مخوفا حدوث الاختلاف بينهم فيه بما يؤمن معه حدوث الاختلاف، لأن الإصلاح إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين قبل وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه.
فإن قال قائل: فكيف قيل: فأصلح بينهم، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين أو المخوف اختلافهم ذكر؟ قيل: بل قد جرى ذكر الله الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم، وهم والدا الموصي وأقربوه والذين أمروا بالوصية في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصيّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بالمَعْرُوفِ} ثم قال تعالى ذكره: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ لمن أمرته بالوصية له جنَفَا أوْ إثْما فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ وبين من أمرته بالوصية له، فَلا إثْمَ عَلَيْهِ. والإصلاح بينه وبينهم هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي.
وقد قرئ قوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} بالتخفيف في الصاد والتسكين في الواو وبتحريك الواو وتشديد الصاد، فمن قرأ ذلك بتخفيف الصاد وتسكين الواو فإنما قرأه بلغة من قال: أوصيت فلانا بكذا. ومن قرأ بتحريك الواو وتشديد الصاد قرأه بلغة من يقول: وصيّت فلانا بكذا، وهما لغتان للعرب مشهورتان وصيتك وأوصيتك.
وأما الجنف فهو الجور والعدول عن الحق في كلام العرب.
يقال منه: جنف الرجل على صاحبه يجنف: إذا مال عليه وجار جَنَفا. فمعنى الكلام: من خاف من موص جنفا له بموضع الوصية، وميلاً عن الصواب فيها، وجورا عن القصد أو إثما، بتعمده ذلك على علم منه بخطأ ما يأتي من ذلك فأصلح بينهم، فلا إثم عليه... يعني بالجنف: الخطأ.
{إنّ الله غٍفُورٌ رَحيمٌ}: والله غفور رحيم للموصي فيما كان حدّث به نفسه من الجنف والإثم، إذا ترك أن يأثم ويجنف في وصيته، فتجاوز له عما كان حدّث به نفسه من الجور، إذ لم يُمْضِ ذلك، فيغفل أن يؤاخذه به، رحيم بالمصلح بين الموصي وبين من أراد أن يحيف عليه لغيره أو يأثم فيه له.
{فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً} غير موجب أن يكون هذا الحكم مقصوراً على الوصية المذكورة قبلها، لأنه كلام مستقلٌّ بنفسه يصحّ ابتداءُ الخطاب به غير مُضَمَّن بما قبله، فهو عامٌّ في سائر الوصايا إذا عُدِلَ بها عن جهة العَدْل إلى الجور، منتظمةٌ للوصية التي كانت واجبة للوالدين والأقربين في حال بقاء وجوبها، وشاملةٌ لسائر الوصايا غيرها؛ فمن خاف من سائر الناس من مُوصٍ مَيْلاً عن الحق وعُدولاً إلى الجور فالواجب عليه إرشادُهُ إلى العدل والصلاح. ولا يختص بذلك الشاهد والوصيّ والحاكم دون سائر الناس، لأن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{فَمَنْ خَافَ} أي خشي، وقيل: علم، وهو الأجود كقوله {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 229].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فان قيل: كيف قال "فمن خاف من موص "لما قد وقع، والخوف إنما يكون لما لم يقع؟ قيل فيه قولان:
أحدهما: أنه خاف أن يكون قد زل في وصيته، فالخوف للمستقبل، وذلك الخوف هو أن يظهر ما يدل على أنه قد زل، لأنه من جهة غالب الظن.
الثاني: لما اشتمل على الواقع، وما لم يقع جاز فيه "خاف" ذلك فيأمره بما فيه الصلاح، وما وقع رده إلى العدل بعد موته...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
فأفاد بهذه الآية أن على الوصي والحاكم والوارث وكل من وقف على جور في الوصية من جهة الخطأ والعمد ردها إلى العدل...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والربيع: معنى الآية، من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي خلف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم عليه، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل، وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، لكنه تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى...
اعلم أنه تعالى لما توعد من يبدل الوصية، بين أن المراد بذلك التبديل أن يبدله عن الحق إلى الباطل، أما إذا غيره عن باطل إلى حق على طريق الإصلاح فقد أحسن، وهو المراد من قوله: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم} لأن الإصلاح يقتضي ضربا من التبديل والتغيير فذكر تعالى الفرق بين هذا التبديل وبين ذلك التبديل الأول بأن أوجب الإثم في الأول وأزاله عن الثاني بعد اشتراكهما في كونهما تبديلين وتغييرين، لئلا يقدر أن حكمهما واحد في هذا الباب...
المسألة الثانية: الجنف: الميل في الأمور، وأصله العدول عن الاستواء، يقال: جنف يجنف بكسر النون في الماضي، وفتحها في المستقبل، جنفا، وكذلك: تجانف، ومنه قوله تعالى: {غير متجانف لإثم} والفرق بين الجنف والإثم أن الجنف هو الخطأ من حيث لا يعلم به والإثم هو العمد.
المسألة الثالثة: في قوله تعالى: {فمن خاف} قولان: أحدهما: أن المراد منه هو الخوف والخشية.
فإن قيل: الخوف إنما يصح في أمر منتظر، والوصية وقعت فكيف يمكن تعلقها بالخوف.
والجواب من وجوه أحدها: أن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريقة الحق مع ضرب من الجهالة، أو مع التأويل أو شاهد منه تعمدا بأن يزيد غير المستحق، أو ينقص المستحق حقه، أو يعدل عن المستحق، فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقيق الوصية يأخذ في الإصلاح، لأن إصلاح الأمر عند ظهور أمارات فساده وقبل تقرير فساده يكون أسهل، فلذلك علق تعالى بالخوف من دون العلم، فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة، أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب وأن أزيد فلانا مع أنه لا يكون مستحقا للزيادة، أو أنقص فلانا مع أنه مستحق للزيادة، فعند ذلك يصير السامع خائفا من جنف وإثم لا قاطعا عليه، ولذلك قال تعالى: {فمن خاف من موص جنفا} فعلقه بالخوف الذي هو الظن ولم يعلقه بالعلم.
الوجه الثاني: في الجواب أنه إذا أوصي على الوجه الذي ذكرناه لكنه يجوز أن لا يستمر الموصي على تلك الوصية بل يفسخها ويجوز أن يستمر لأن الموصي ما لم يمت فله الرجوع عن الوصية وتغييرها بالزيادة والنقصان فلما كان كذلك لم يصر الجنف والإثم معلومين، لأن تجويز فسخة يمنع من أن يكون مقطوعا عليه، فلذلك علقه بالخوف.
الوجه الثالث: في الجواب أن بتقدير أن تستقر الوصية ومات الموصي، فمن ذلك يجوز أن يقع بين الورثة والموصي لهم مصالحة على وجه ترك الميل والخطأ، فلما كان ذلك منتظرا لم يكن حكم الجنف والإثم ماضيا مستقرا، فصح أن يعلقه تعالى بالخوف وزوال اليقين، فهذه الوجوه يمكن أن تذكر في معنى الخوف وإن كان الوجه الأول هو الأقوى.
القول الثاني: في تفسير قوله تعالى: {فمن خاف} أي فمن علم والخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص وبين العلم وبين الظن مشابهة في أمور كثيرة فلهذا صح إطلاق اسم كل واحد منهما على الآخر، وعلى هذا التأويل يكون معنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمدا فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويرده إلى الصلاح بعد موته، وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع.
المسألة الرابعة: قد ذكرنا أن الجنف هو الخطأ والإثم هو العمد ومعلوم أن الخطأ في حق الغير في أنه يجب إبطاله بمنزلة العمد فلا فصل بين الخطأ والعمد في ذلك، فمن هذا الوجه سوى عز وجل بين الأمرين.
أما قوله تعالى: {فأصلح بينهم} [ف] فيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا المصلح من هو؟ الظاهر أنه هو الوصي الذي لا بد منه في الوصية وقد يدخل تحته الشاهد، وقد يكون المراد منه من يتولى ذلك بعد موته من وال أو ولي أو وصي، أو من يأمر بالمعروف. فكل هؤلاء يدخلون تحت قوله تعالى: {فمن خاف من موص} إذا ظهرت لهم أمارات الجنف والاسم في الوصية، أو علموا ذلك فلا وجه للتخصيص في هذا الباب، بل الوصي والشاهد أولى بالدخول تحت هذا التكليف وذلك لأن بهم تثبت الوصية فكان تعلقهم بها أشد...
البحث الثاني: في كيفية هذا الإصلاح بعد أن صارت هذه الآية المنسوخة فنقول الجنف والإثم ههنا يقع على وجوه منها أن يظهر من المريض ما يدل على أنه يحاول منع وصول المال إلى الوارث، إما بذكر إقرار، أو بالتزام عقد، فههنا يمنع منه...
أما قوله تعالى: {فلا إثم عليه} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: هذا المصلح قد أتي بطاعة عظيمة في هذا الإصلاح وهو يستحق الثواب عليه، فكيف يليق به أن يقال: فلا إثم عليه. وجوابه من وجوه:
الأول: أنه تعالى لما ذكر إثم المبدل في أول الآية، وهذا أيضا من التبديل بين مخالفته للأول، وأنه لا إثم عليه لأنه رد الوصية إلى العدل.
والثاني: لما كان المصلح ينقص الوصايا وذلك يصعب على الموصي له ويوهم فيه إثما أزال الشبهة وقال: {فلا إثم عليه}.
والثالث: بين أن بالوصية والإشهاد لا يتحتم ذلك، وأنه متى غير إلى الحق وإن كان خالف الوصية فلا إثم عليه، وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي وصرف لماله عمن أحب إلى من كره، لأن ذلك يوهم القبح، فبين الله عز وجل أن ذلك حسن لقوله: {فلا إثم عليه}.
والرابع: أن الإصلاح بين الجماعة يحتاج فيه إلى الإكثار من القول ويخاف فيه أن يتخلله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل، فبين تعالى أنه لا إثم على المصلح في هذا الجنس إذا كان قصده في الإصلاح جميلا...
المسألة الثانية: دلت هذه الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع...
أما قوله: {إن الله غفور رحيم} ففيه أيضا سؤال: وهو أن هذا الكلام إنما يليق بمن فعل فعلا لا يجوز، أما هذا الإصلاح فهو من جملة الطاعات فكيف به هذا الكلام وجوابه من وجوه
أحدها: أن هذا من باب تنبيه الأدنى على الأعلى كأنه قال أنا الذي أغفر الذنوب ثم أرحم المذنب فبأن أوصل رحمتي وثوابي إليك مع أنك تحملت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهم كان أولى.
وثانيها: يحتمل أن يكون المراد أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم متى أصلحت وصيته فإن الله غفور رحيم يغفر له ويرحمه بفضله...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
العلاقة بين الخوف والعلم حتى أطلق على العلم الخوف، وأن الإنسان لا يخاف شيئاً حتى يعلم أنه مما يخاف منه، فهو من باب التعبير بالمسبب عن السبب، وقال في (المنتخب): الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم، وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظنّ مخصوص، وبين الظنّ والعلم مشابهة في أمور كثيرة، فلذلك صح إطلاق كل واحد منهما على الأخر...
والمعنى: فمن خاف من الموصي جنفاً أو إثماً من ورثته ومَن يوصى له، فأصلح بينهم فلا إثم على الموصي المصلح، وهذا معنى لم يذكره المفسرون، إنما ذكروا أن الموصي مخوف منه لا خائف، وأن الجنف أو الإثم من الموصي لا من ورثته، ولا من يوصي له...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: وكان حقيقة معنى الجنف إخفاء حيف في صورة بر -انتهى...
وقال الحرالي: وفي إشعاره بذكر الخوف من الموصي ما يشعر أن ذلك في حال حياة الموصي ليس بعد قرار الوصية على جنف بعد الموت، فإن ذلك لا يعرض له مضمون هذا الخطاب، وفي إيقاع الإصلاح على لفظة "بين "إشعار بأن الإصلاح نائل البين الذي هو وصل ما بينهم فيكون من معنى ما يقوله النحاة مفعول على السعة حيث لم يكن فأصلح بينه وبينهم -...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام: الآية استثناء مما قبلها، أي أن المبدل للوصية آثم إلا من رأى إجحافا أو جنفا في الوصية فبدل فيها لأجل الإصلاح وإزالة التخاصم والتنازع والتعدي بين الموصي لهم، فعبر بخاف بدلا عن رأي أو علم تبرئة للموصي من القطع بجنفه وإثمه واحتماء من تقييد التصدي للإصلاح وإن لم يكن موقنا بذلك. وللتعبير عن مثل هذا العلم بالخوف شواهد في كلام العرب. والمصلح مثاب مأجور، ونفي الإثم عن تبديل الوصية المحرم تبديلها يشعر بذلك، إذ لو لم يكن التبديل للإصلاح مطلوبا لم ينف الإثم عنه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وأما الوصية التي فيها حيف وجنف، وإثم، فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها، أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل، وأن ينهاه عن الجور والجنف، وهو: الميل بها عن خطأ، من غير تعمد، والإثم: وهو التعمد لذلك.
فإن لم يفعل ذلك، فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم، ويتوصل إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة، ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا قد فعل معروفا عظيما، وليس عليهم إثم، كما على مبدل الوصية الجائزة، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} أي: يغفر جميع الزلات، ويصفح عن التبعات لمن تاب إليه، ومنه مغفرته لمن غض من نفسه، وترك بعض حقه لأخيه، لأن من سامح، سامحه الله، غفور لميتهم الجائر في وصيته، إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لأجل براءة ذمته، رحيم بعباده، حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون، فدلت هذه الآيات على الحث على الوصية، وعلى بيان من هي له، وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة، والترغيب في الإصلاح في الوصية الجائرة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإنه قد يكون الموصي ظالما، أو ميالا لظلم، أو يريد إثما لوصيته كمن يوصي في موضع، أو يعين في وصيته على إثم فهل تنفذ هذه الوصية، وهل يجوز تغييرها؟ قال الله تعالى في ذلك: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه}.
الخوف يكون في الأمر المتوقع فيخاف أن يقع، فتقول أخاف أن تفعل كذا، إذا كنت تتوقع الفعل المخوف، كما قال يعقوب: {وأخاف أن يأكله الذئب... 13} [يوسف]، أو رأيت بوادره من قول أو فعل أو نحو ذلك، والجنف الميل إلى ناحية الظلم، وهو ضد الحنف فهو الميل إلى ناحية العدل فقوله تعالى: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما} معناه من خاف من موص ميلا إلى ظلم، أو توجها خطأ إلى ظلم أو إثما مقصودا فأصلح بينهم أي بينه وبين ورثته وحمله على الاتجاه إلى العدل والخير، أو قصد إثما بأن أوصى لبنيه دون بناته أو أراد أن يوصي في معصية، أو في ناحية لا خير فيها، فحملوه على اختيار ما لا معصية فيه ولا ظلم، وله فضل الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر وفضل الصلح والصلح خير، وفضل منع الظلم، ومنع الظلم خير لا شك فيه.
وإن مثل هذا عمل عام يجب القيام به على عامة المؤمنين، وإن قام به البعض سقط الحرج عن الباقين، وإنه يجب على والي الحسبة القيام بالإصلاح في هذه الوصايا التي تجنف لإثم والقاصدة الإثم.
وإذا كانت الوصية فيها جنف لإثم أو تعمد لإثم، ومات الموصي مصرا عليها، كأن يوصي لغير قرابته، وهم أغنياء، وفي قرابته فقراء فإنه إن حولت الوصية إلى فقراء ذوي قربا كان أولى لأنها عدلت إلى الخير.
وقد روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن معنى الآية من علم بعد موت الموصي جنفا أو تعمد إيذاء بعض فأصلح ما وقع من الإثم وما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم أي لا يكون إثم التبديل، بل يكون له ثواب الإصلاح. وروى النسائي أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته، وليس له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب من ذلك وقال: (لقد هممت ألا أصلي عليه)، ثم دعا مملوكيه فجزأهم ثلاثة أجزاء، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة 142، وقد أخرج مسلم هذا الحديث.
وقد اشترط في نفاذ الوصية ألا يكون فيها مضارة، فلقد قال تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار... 12} [النساء] وقرر مالك أن كل وصية فيها مضارة تكون باطلة.
هذا وقد اتفق الفقهاء على أن الوصية بمعصية تكون باطلة، وكذلك الوصايا التي تكون الباعث عليها معصية من المعاصي كأن يوصي لخليلته لتبقى معه على العشرة الحرام، وإن تكلموا في مدى قوة الباعث.
وفي الجملة أن الآية الكريمة تدل على أنه لا إثم على من بدل وصية آثمة فحولها إلى الخير، أو أبطلها إن لم يمكن تحويلها، وإن ذلك يكون للقضاء أو لوالي الحسبة.
ولأن التبديل لا يكون في دائرة الإثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: {إن الله غفور رحيم} أي إن الله تعالى بالغ الغفر، غفار للموصي أن هم وعدل، وغفار لمن أصلح ونجح، ولا يأثم من غير بعد الوفاة، وحولها من جنف إلى عدل، وأن الله يرحم الموصي ويرجى ألا يؤاخذه ما دام لم يتم ما أقدم عليه، وقد أكد سبحانه الغفران والرحمة بصيغة الغفور الرحيم، وبأن المؤكدة، وبالجملة الاسمية. اللهم اجعلنا ندخل في غفرانك، ونحن في رحمتك.
هذا القول يلفتنا إلى أن الإنسان إذا ما عزم على اتخاذ أمر في مسألة الوصية فعليه أن يستشير من حوله، وأن يستقبل كل مشورة من أهل العلم والحكمة، وذلك حتى لا تنشأ الضغائن بعد أن يبرم أمر الوصية إبراماً نهائياً. أي بعد وفاته، والحق قد وضع الاحتياطات اللازمة لإصلاح أمر الوصية إن جاء بها ما يورث المشاكل؛ لأن الحق يريد أن يتكاتف المؤمنون في وحدة إيمانية، لذلك فلابد من معالجة الانحراف بالوقاية منه وقبل أن يقع.
ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)...