قوله تعالى : { وما كنتم تستترون } أي : تستخفون عند أكثر أهل العلم . وقال مجاهد : تتقون . وقال قتادة : تظنون . { أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، أنبأنا سفيان ، أخبرنا منصور ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن عبد الله ابن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي ، أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم ، قليل فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله تعالى : { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } . وقيل : الثقفي هو عبد ياليل ، وختناه القرشيان : ربيعة ، وصفوان بن أمية .
{ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ } أي : وما كنتم تختفون عن شهادة أعضائكم عليكم ، ولا تحاذرون من ذلك . { وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ } بإقدامكم على المعاصي { أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ } فلذلك صدر منكم ما صدر .
ثم حكى - سبحانه - ما يقال لهؤلاء الكافرين يوم القيامة من جهته - تعالى - أو من جهة جوارحهم التى شهدت عليهم فقال - تعالى - : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } .
وقوله : { تَسْتَتِرُونَ } من الاستتار بمعنى الاستخفاء ، " وما " نافية . وقوله : { أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ . . . } فى موضع نصب على نزع الخافض أى : من أن يشهد عليكم . . أو مفعول لأجله .
أى : مخافة أو خشية أن يشهد عليكم سمعكم .
والمعنى : أن جوارحهم تقول لهم يوم القيامة على سبيل التبكيت : أنتم - أيها الكافرون - لم تكونوا فى الدنيا تخفون أعمالكم السيئة ، خوفا من أن نشهد عليكم ولكنكم كنتم تخفونها .
لاعتقادكم أن الله - تعالى - لا يعلم ما تخفونه من أعمالكم ، ولكنه يعلم ما تظهرونه منها .
وما حملكم على هذا الاعتقاد الباطل إلا جهلكم بصفات الله - تعالى - وكفركم باليوم الآخر وما فيه من حسبا وجزاء ، واستبعادكم أننا سنشهد عليكم .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ . . . } يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم ، ويجوز أن يكون من قول الله - تعالى - لهم ، أو الملائكة .
وفى صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثلاثة نفر ، قرشيان وثقفى ، - أى شخص من قبيلة ثقيف - أو ثقيفان وقرشى ، قليل فقه قلوبهم ، كثير شحم بطونهم . فقال أحدهم : أترون الله - تعالى - يسمع ما نقول : فقال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا .
فأنزل الله - عز وجل - : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ } .
فالآية الكريمة تنعى على المشركين جهالاتهم الفاضحة ، حيث ظنوا أن الله - تعالى - لا يعلم الكثير من أعمالهم ، وتنبه المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يعلموا أن الله - تعالى - معهم ، ولا يخفى عليه شئ من أقوالهم أو أفعالهم ، وأنه - سبحانه - يعلم السر ، وأخفىورحم الله من قال :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل . . . خلوت . ولكن قل : على رقيب
وقوله : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } أي : تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم : ما كنتم تتكتمون {[25677]} منا الذي كنتم تفعلونه بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي ، ولا تبالون منه في زعمكم ؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم ؛ ولهذا قال : { وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } أي : هذا الظن الفاسد - وهو اعتقادكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون - هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم ، { فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم .
قال الإمام أحمد - رحمه الله - : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عمارة ، عن عبد الرحمن ابن يزيد{[25678]} ، عن عبد الله قال : كنت مستترًا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر : قرشي ، وختناه ثقفيان - أو ثقفي وختناه قرشيان - كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ، فتكلموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ؟ فقال الآخر : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه {[25679]} ، وإذا لم نرفعه لم يسمعه ، فقال الآخر : إن سمع منه شيئا سمعه كله . قال : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } إلى قوله : { مِنَ الْخَاسِرِينَ }
وكذا رواه الترمذي عن هناد ، عن أبي معاوية ، بإسناده نحوه {[25680]} . وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي أيضا ، من حديث سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن عُمارة بن عمير ، عن وهب بن
ربيعة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، بنحوه {[25681]} . ورواه البخاري ومسلم أيضا ، من حديث السفيانين ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي معمر عبد الله بن سَخْبرة ، عن ابن مسعود به{[25682]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } قال : " إنكم تُدعَون مُفَدَّمًا على أفواهكم بالفدام ، فأول شيء يبين{[25683]} عن أحدكم فخذه وكفه{[25684]} {[25685]} " .
قال معمر : وتلا الحسن : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله أنا مع عبدي عند ظنه بي ، وأنا معه إذا دعاني " ثم أفترَّ الحسن ينظر في هذا فقال : ألا إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم ، فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل ، وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن بالله فأساءا العمل . ثم قال : قال الله تعالى : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ } إلى قوله : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر بن إسماعيل القاص{[25686]} - وهو أبو المغيرة - حدثنا ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر{[25687]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن ، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله ، فقال الله تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } {[25688]} .
{ وما كنتم تستترون أن يشهد سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة ، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم بها فما استترتم عنها . وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أنه لا يمر عليه حال إلا وهو عليه رقيب . { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون } فلذلك اجترأتم على ما فعلتم .
قوله عز وجل : { وما كنتم تستترون } يحتمل أن يكون من كلام الجلود ومحاورتها ، ويحتمل أن يكون من كلام الله عز وجل لهم ، أو من كلام ملك يأمره تعالى . وأما المعنى فيحتمل وجهين أحدهما أن يريد : وما كنتم تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر خوف أن يشهد ، أو لأجل أن يشهد ، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم فانهمكتم وجاهرتم ، وهذا هو منحى مجاهد . والستر قد يتصرف على هذا المعنى ونحوه ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
والستر دون الفاحشات وما . . . يلقاك دون الخير من ستر{[10061]}
والمعنى الثاني أن يريد : وما كنتم تمتنعون ولا يمكنكم ولا يسعكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم ، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد ، وهذا هو منحى السدي ، كأن المعنى : وما كنتم تدفعون بالاختفاء والستر أن يشهد ، لأن الجوارح لزيمة لكم ، وفي إلزامه إياهم الظن بأن الله تعالى لا يعلم ، هو إلزامهم الكفر والجهل بالله ، وهذا المعتقد يؤدي بصاحبه إلى تكذيب أمر الرسل واحتقار قدرة الإله ، لا رب غيره .
وفي مصحف ابن مسعود : «ولكن زعمتم أن الله » . وحكى الطبري عن قتادة أنه عبر عن { تستترون } ب «تبطنون » ، وذلك تفسير لم ينظر فيه إلى اللفظ ولا ارتباط فيه معه . وذكر الطبري وغيره حديثاً عن عبد الله بن مسعود قال : إني لمستتر بأستار الكعبة إذ دخل ثلاثة نفر قرشيان وثقفي ، أو ثقفيان وقرشي ، قليل فقه قلوبهم ، كثير شحم بطونهم ، فتحدثوا بحديث ، فقال أحدهم : أترى الله يسمع ما قلنا ؟ قال الآخر إنه يسمع إذا رفعنا ، ولا يسمع إذا أخفينا . وقال الآخر : إن كان يسمع منه شيئاً فإنه يسمعه كله ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ، فنزلت هذه الآية : { وما كنتم تستترون } الآية ، فقرأ حتى بلغ : { وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين } [ فصلت : 28 ] . وذكر النقاش أن الثلاثة : صفوان بن أمية وفرقد بن ثمامة وأبو فاطمة . وذكر الثعلبي أن الثقفي عبد ياليل ، والقرشيين : ختناه :ربيعة وصفوان ابنا أمية بن خلف{[10062]} ، ويشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية{[10063]} ، ويشبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلاً بها عند إخبار عبد الله إياه ، والله أعلم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ" في الدنيا "أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ" يوم القيامة "سَمْعُكُمْ وَلا أبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ".
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: "وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ"؛ فقال بعضهم: معناه: وما كنتم تستَخْفُون...
وقال آخرون: معناه: وما كنتم تتقون...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كنتم تظنون...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: وما كنتم تستَخْفُون، فتتركوا ركوب محارم الله في الدنيا حذرا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم اليوم.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن المعروف من معاني الاستتار الاستخفاء.
فإن قال قائل: وكيف يستخفى الإنسان عن نفسه مما يأتي؟ قيل: قد بيّنا أن معنى ذلك إنما هو الأماني، وفي تركه إتيانه إخفاؤه عن نفسه.
وقوله: "وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنّ اللّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرا مِمّا كنتم تَعْمَلُونَ" يقول جلّ ثناؤه: ولكن حسبتم حين ركبتم في الدنيا من معاصي الله أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون من أعمالكم الخبيثة، فلذلك لم تستتروا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم وجلودكم، فتتركوا ركوب ما حرّم الله عليكم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم)
قال مجاهد (وما كنتم تستترون) أي تتقون. وقال السدي: معناه لم تكونوا في دار الدنيا تستخفون عن معاصي الله بتركها. وقيل: إن الآية نزلت في ثلاثة نفر تساروا، فقال بعضهم لبعض: أترى الله يسمع إسرارنا؟ وقال الفراء: معناه لم تكونوا تخافون ان تشهد عليكم جوارحكم فتستتروا منها ولم تكونوا تقدروا على الاستتار منها، ويكون على وجه التغيير أي ولم تكونوا تستترون منها.
وقوله (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) وصف لهؤلاء الكفار بأنهم ظنوا انه تعالى يخفى عليه أسرارهم ولا يعلمها، فبين الله بذلك جهلهم به تعالى، وانهم وإن علموه من جهة انه قادر غير عاجز وعالم بما فعلوا فاذا ظنوا انه يخفى عليه شيء منها فهو جاهل على الحقيقة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وفي قراءة عبدالله (ولكن زعمتم) قال الفراء: الزعم والظن يكونان بمعنى واحد وقد يختلفان.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
فيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أنه لا يمر عليه حال إلا وهو عليه رقيب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قلّ من تصدى من المفسرين لبيان اتصال هذه الآيات الثلاث بما قبلها، ومن تصدّى منهم لذلك لم يأت بما فيه مقْنع، وأوْلى كلام في ذلك كلام ابن عطية ولكنه وَجيز وغير محرر وهو وبعض المفسرين ذكروا سبباً لنزولها فزادوا بذلك إشكالاً وما أبانوا انفصالاً، ولنبدأ بما يقتضيه نظم الكلام، ثم نأتي على ما روي في سبب نزولها بما لا يفضي إلى الانفصام. فيجوز أن تكون جملة {وَمَا كُنتُم تَسْتتِرُونَ} بتمامها معطوفة على جملة {وَهُوَ خَلَقَكُم أوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت: 21] الخ فتكون مشمولة للاعتراض متصلة بالتي قبلها على كلا التأويلين السابقين في التي قبلها. ويجوز أن تكون مستقلة عنها: إمّا معطوفة على جملة {وَيَوْمَ نَحْشُر أعْدَاءَ الله إلى النَّارِ} [فصلت: 19] الآيات، وإما معترضة بين تلك الجملة وجملةِ {فَإِنْ يَصبِرُوا فالنَّارُ مَثْوَىً لَهُم} [فصلت: 24]، وتكون الواو اعتراضية، ومناسبة الاعتراض ما جرى من ذكر شهادة سمعهم وأبصارهم وجلودهم عليهم. فيكون الخطاب لجميع المشركين الأحياء في الدنيا، أو للمشركين في يوم القيامة. وعلى هذه الوجوه فالمعنى ما كنتم في الدنيا تخفون شرككم وتستترون منه؛ بل كنتم تجهرون به وتفخرون باتباعه فماذا لومكم على جوارحكم وأجسادكم أن شهدت عليكم بذلك، فإنه كان أمراً مشهوراً؛ فالاستتار مستعمل في الإخبار مجازاً؛ لأن حقيقة الاستتار إخفاء الذوات والذي شهدت به جوارحهم هو اعتقاد الشرك والأقوال الداعية إليه. وحرف {ما} نفي بقرينة قوله بعده: {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ} الخ، ولا بد من تقدير حرف جر يتعدى به فعل {تَستتِرُونَ} إلى {أَن يَشْهَدَ} وهو محذوف على الطريقة المشهورة في حذف حرف الجر مع (أَنْ)، وتقديره: بحسب ما يدل عليه الكلام وهو هنا يقدر حرفَ مِن، أي ما كنتم تستترون من شهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم، أي ما كنتم تستترون من تلك الشهود، وما كنتم تتقون شهادتها؛ إذ لا تحسبون أن ما أنتم عليه ضائر إذ أنتم لا تؤمنون بوقوع يوم الحساب؛ فأما ما ورد في سبب نزول الآية فهو حديث « الصحيحين» و« جامع الترمذي» بأسانيد يزيد بعضها على بعض إلى عبد الله بن مسعود قال: « كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي قليلٌ فِقْهُ قلوبهم كثيرٌ شحْم بطونهم فتكلموا بكلام لم أفهمه، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول، فقال الآخر: يَسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، قال عبد الله: فذكرتُ ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كُنْتم تَستَتِرُونَ أَن يَشْهَد عَلَيكُم سَمْعُكُم وَلا أبصاركم} إلى قوله: {فَأَصْبَحْتُم مِنَ الخاسرين}. وهذا بظاهره يقتضي أن المخاطب به نفر معين في قضية خاصة مع الصلاحية لشمول من عسى أن يكون صدر منهم مثل هذا العمل للتساوي في التفكير، ويجعل موقعها بين الآيات التي قبلها وبعدها غريباً، فيجوز أن يكون نزولها صادف الوقت الموالي لنزول التي قبلها ويجوز أن تكون نزلت في وقت آخر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها في موضعها هذا لمناسبة ما في الآية التي قبلها من شهادة سمعهم وأبصارهم، ومع هذا فهي آية مكية إذ لم يختلف المفسرون في أن السورة كلها مكية. وقال ابن عطية: يشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية، ويشبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلاً بها عند إخبار عبد الله إياه اهـ، وفي كلامه الأول مخالفة لما جزم به هو وغيرهُ من المفسرين أن السورة كلها مكية، وكيف يصح كلامه ذلك وقد ذكر غيرهُ أن النفر الثلاثة هم: عبد ياليل الثقفي وصفوان وربيعة ابنا أمية بنِ خلف، فأما عبد ياليل فأسلم وله صحبة عند ابن إسحاق وجماعة، وكذلك صفوان بن أمية، وأما ربيعة بن أمية فلا يعرف له إسلام فلا يلاقي ذلك أن تكون الآية نزلت بعد فتح مكة. وأحسن ما في كلام ابن عطية طرفه الثاني وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلاً بها فإن ذلك يُؤَوِّل قول ابن مسعود فأنزل الله تعالى الآية، ويبين وجه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم إياها عندما أخبره ابن مسعود بأنه قرأها تحقيقاً لمثال من صور معنى الآية، وهو أن مثل هذا النفر ممن يَشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، وذلك قاض بأن هؤلاء النفر كانوا مشركين يومئذٍ، والآية تحق على من مات منهم كافراً مثل ربيعة بن أمية بن خلف. وعلى بعض احتمالات هذا التفسير يكون فعل {تَستَتِرُونَ} مستعملاً في حقيقته أي تستترون بأعمالكم عن سمعكم وأبصاركم وجلودكم، وذلك توبيخ كناية عن أنهم ما كانوا يرون ما هم عليه قبيحاً حتى يستتروا منه وعلى بعض الاحتمالات فيما ذكر، يكون فعل {تستترون} مستعملاً في حقيقته ومجازه، ولا يُعوزك توزيع أصناف هذه الاحتمالات بعضها مع بعض في كل تقدير تَفرِضُه. وحاصل معنى الآية على جميع الاحتمالات: أن الله عليم بأعمالكم ونياتكم لا يخفى عليه شيء منها إن جهرتم أو سترتم وليس الله بحاجة إلى شهادة جوارحكم عليكم وما أوقعكم في هذا الضر إلا سوء ظنكم بجلال الله...