الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَمَا كُنتُمۡ تَسۡتَتِرُونَ أَن يَشۡهَدَ عَلَيۡكُمۡ سَمۡعُكُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُكُمۡ وَلَا جُلُودُكُمۡ وَلَٰكِن ظَنَنتُمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعۡلَمُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَعۡمَلُونَ} (22)

وقوله تعالى : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ } يحتمل أنْ يكون من كلام الجلود ، ويحتمل أنْ يكون من كلام اللَّه عز وجل ، وجمهور الناس على أَنَّ المراد بالجلود الجلودُ المعروفةُ ، وأمَّا معنى الآية فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يريد وما كنتم تَتَصَاونُونَ وتَحْجِزُونَ أَنْفُسَكُمْ عن المعاصي والكُفْر ؛ خوفَ أَنْ يشهد ، أو لأَجْلِ { أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ } الآية ، وهذا هو منحى مجاهد ، والمعنى الثاني أنْ يريد : وما يمكنكم ولاَ يسَعُكُمْ الاخْتفاءُ عن أَعْضَائِكُمْ ، والاستتارُ عنها بكُفْرِكُمْ ومعاصيكم ، وهذا هو مَنْحَى السُّدِّيِّ ، وعن ابن مسعود قال : " إِنِّي لمستترٌ بأستارِ الكعبةِ ، إذْ دَخَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ : قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وقُرَشِيٌّ ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلوبِهِمْ ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ ، فَتَحَدَّثُوا بِحَدِيثٍ ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ : أَترَى اللَّهَ يَسْمَعُ مَا قُلْنَا ؟ فَقَالَ الآخَرُ : يَسْمَعُ إذَا رفَعْنَا ، وَلا يَسْمَعُ إذَا أَخْفَيْنَا ، وَقَالَ الآخَرُ : إنْ كَانَ يَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئاً فَإنَّهُ يَسْمَعُهُ كُلَّهُ ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ } ، وقرأ حتى بلغ : { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } " . قال الشيخ أبو محمَّدِ بْنُ أبي زَيْدٍ في آخر : مُخْتَصَرِ المُدَوَّنَةِ له : واعلم أنَّ الأجساد التي أطاعت أو عصت ، هي التي تُبْعَثُ يومَ القيامة لتجازى ، والجلودُ التي كانَتْ في الدنيا ، والألسنةُ ، والأيْدِي ، والأرجُلُ هي التي تشهد عليهم يوم القيامة على مَنْ تشهَدُ ، انتهى .

قال القرطبيُّ في «تذكرته » : واعلم أَنَّ عند أهل السنة أَنَّ تلك الأجسادَ الدُّنْيَوِيَّةَ تُعَادُ بأعيانها وأعراضِهَا بلا خلافٍ بينهم في ذلك ، انتهى .