فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَا كُنتُمۡ تَسۡتَتِرُونَ أَن يَشۡهَدَ عَلَيۡكُمۡ سَمۡعُكُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُكُمۡ وَلَا جُلُودُكُمۡ وَلَٰكِن ظَنَنتُمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعۡلَمُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَعۡمَلُونَ} (22)

{ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ } هذا تقريع لهم وتوبيخ من جهة الله سبحانه أو من كلام الجلود ، أي ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة وارتكاب الفواحش بالحيطان والحجب ، حذرا من شهادة الجوارح عليكم ، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلا هو قول أكثر العلماء . ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية ، وقيل : معنى الاستتار الاتقاء أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة ، فتتركوا المعاصي خوفا من هذه الشهادة ، ومعنى أن تشهد لأجل أن تشهد ، أو مخافة أن تشهد ، وقيل إن الاستتار مضمن معنى الظن ، أي وما كنتم تظنون أن تشهد وهو بعيد .

وأخرج عبد الرزاق وأحمد والنسائي وابن حاتم والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث عن معاوية ابن حيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تحشرون ههنا وأومأ بيده إلى الشام مشاة وركبانا وعلى وجوهكم ، وتعرضون على الله وعلى أفواهكم الفدام وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه وكفه وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كنتم تستترون " الخ .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : ( كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان أو ثقفي وقرشيان ، كثير لحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ، فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ؟ فقال الآخر : إن لنا آنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه ، وإنا إذا لم نرفعه لم يسمعه ، فقال الآخر إنه إن سمع منه شيئا سمعه كله ، قال : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم إلى قوله من الخاسرين ) .

{ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ } عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم { أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ } من المعاصي فاجترأتم على فعلها قيل : كان الكفار يقولون : إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ، ولكن يعلم ما نظهر دون ما نسر ، قال قتادة : الظن هنا بمعنى العلم ، وقيل : أريد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي ، وما هو فوقه من العلم .