التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَمَا كُنتُمۡ تَسۡتَتِرُونَ أَن يَشۡهَدَ عَلَيۡكُمۡ سَمۡعُكُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُكُمۡ وَلَا جُلُودُكُمۡ وَلَٰكِن ظَنَنتُمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعۡلَمُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَعۡمَلُونَ} (22)

ثم حكى - سبحانه - ما يقال لهؤلاء الكافرين يوم القيامة من جهته - تعالى - أو من جهة جوارحهم التى شهدت عليهم فقال - تعالى - : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } .

وقوله : { تَسْتَتِرُونَ } من الاستتار بمعنى الاستخفاء ، " وما " نافية . وقوله : { أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ . . . } فى موضع نصب على نزع الخافض أى : من أن يشهد عليكم . . أو مفعول لأجله .

أى : مخافة أو خشية أن يشهد عليكم سمعكم .

والمعنى : أن جوارحهم تقول لهم يوم القيامة على سبيل التبكيت : أنتم - أيها الكافرون - لم تكونوا فى الدنيا تخفون أعمالكم السيئة ، خوفا من أن نشهد عليكم ولكنكم كنتم تخفونها .

لاعتقادكم أن الله - تعالى - لا يعلم ما تخفونه من أعمالكم ، ولكنه يعلم ما تظهرونه منها .

وما حملكم على هذا الاعتقاد الباطل إلا جهلكم بصفات الله - تعالى - وكفركم باليوم الآخر وما فيه من حسبا وجزاء ، واستبعادكم أننا سنشهد عليكم .

قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ . . . } يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم ، ويجوز أن يكون من قول الله - تعالى - لهم ، أو الملائكة .

وفى صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثلاثة نفر ، قرشيان وثقفى ، - أى شخص من قبيلة ثقيف - أو ثقيفان وقرشى ، قليل فقه قلوبهم ، كثير شحم بطونهم . فقال أحدهم : أترون الله - تعالى - يسمع ما نقول : فقال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا .

فأنزل الله - عز وجل - : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ } .

فالآية الكريمة تنعى على المشركين جهالاتهم الفاضحة ، حيث ظنوا أن الله - تعالى - لا يعلم الكثير من أعمالهم ، وتنبه المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يعلموا أن الله - تعالى - معهم ، ولا يخفى عليه شئ من أقوالهم أو أفعالهم ، وأنه - سبحانه - يعلم السر ، وأخفىورحم الله من قال :

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل . . . خلوت . ولكن قل : على رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة . . . ولا أن ما يخفى عليك ، يغيب