قوله تعالى : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا خلاد بن يحيى ، أنا عمر بن ذر قال : سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا فنزلت : { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا }الآية : قال : كان هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم " . وقال عكرمة ، و الضحاك ، و قتادة ، و مقاتل ، و الكلبي : " احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، فقال :أخبركم غداً ، ولم يقل : إن شاء الله ، حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال له جبريل : إني كنت أشوق ، ولكني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ، فأنزل الله : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } وأنزل : { والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } " . { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } ، أي : له علم ما بين أيدينا . واختلفوا فيه : فقال سعيد بن جبير ، وقتادة ومقاتل : { ما بين أيدينا } : من أمر الآخرة والثواب والعقاب ، { وما خلفنا } : ما مضى من الدنيا . { وما بين ذلك } : ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة . وقيل { ما بين أيدينا } : ما بقي من الدنيا ، { وما خلفنا } : ما مضى منها ، { وما بين ذلك } أي : ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة . وقيل : { ما بين أيدينا } ما بقي من الدنيا ، { وما خلفنا } : ما مضى منها ، { وما بين ذلك } : مدة حياتنا . وقيل : { ما بين أيدينا } : بعد أن نموت ، { وما خلفنا } : قبل أن نخلق ، { وما بين ذلك } : مدة الحياة . وقيل : { ما بين أيدينا } : الأرض إذا أردنا النزول إليها ، { وما خلفنا } : السماء إذا نزلنا منها ، { وما بين ذلك } : الهواء ، يريد : أن ذلك كله لله عز وجل ، فلا نقدر على شيء إلا بأمره . { وما كان ربك نسياً } ، أي : ناسياً ، يقول : ما نسيك ربك أي : ما تركك ، والناسي التارك .
{ 64 - 65 } { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }
استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام مرة في نزوله إليه فقال له : " لو تأتينا أكثر مما تأتينا " -تشوقا إليه ، وتوحشا لفراقه ، وليطمئن قلبه بنزوله- فأنزل الله تعالى على لسان جبريل : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ } أي : ليس لنا من الأمر شيء ، إن أمرنا ، ابتدرنا أمره ، ولم نعص له أمرا ، كما قال عنهم : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } فنحن عبيد مأمورون ، { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } أي : له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة ، في الزمان والمكان ، فإذا تبين أن الأمر كله لله ، وأننا عبيد مدبرون ، فيبقى الأمر دائرا بين : " هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه ؟ أم لا تقتضيه فيؤخره " ؟ ولهذا قال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } أي : لم يكن لينساك ويهملك ، كما قال تعالى : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } بل لم يزل معتنيا بأمورك ، مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة ، وتدابيره الجميلة .
أي : فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد ، فلا يحزنك ذلك ولا يهمك ، واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك ، لما له من الحكمة فيه .
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، وشمول علمه ، فقال - تعالى - : { وَمَا نَتَنَزَّلُ . . . } .
التنزل : النزول على مهل . فإنه مطاوع نزل - بالتشديد - ، يقال : نزلته فتنزل ، إذا حدث النزول على مهل وتدرج . وقد يطلق التنزيل بمعنى النزول مطلقاً ، إلا أن المناسب هنا هو المعنى الأول .
والآية الكريمة حكاية لما قاله جبريل للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ذكر كثير من المفسرين أن الوحى احتبس عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفترة من الوقت بعد أن سأله المشركون أسئلة تتعلق بأصحاب الكهف . وبذى القرنين وبالروح ، حتى قال المشركون : إن رب محمد - صلى الله عليه وسلم - قد قلاه - أى : أبغضه وكرهه - فلما نزل جبريل على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد فترة من غياب - قيل خمسة عشر يوماً وقيل أكثر قال له : يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى واشتقت إليك فقال له جبريل : إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور ، إذا بعثت جئت ، وإذا حبست احتبست ، وأنزل الله - تعالى - هذه الآية وسورة الضحى " .
وقال الآلوسى : " ولا يأبى ما تقدم فى سبب النزول ما أخرجه أحمد ، والبخارى والترمذى ، والنسائى ، وجماعة ، فى سببه عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ فنزلت : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ . . } لجواز أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك فى محاورته السابقة - أيضاً - ، واقتصر فى كل رواية على شىء مما وقع فى المحاورة . . . " .
والمعنى : قال جبريل للرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سأله عن سبب احتباسه عنه لفترة من الوقت : يا محمد إنى ما أتنزل عليك وقتاً بعد وقت ، إلا بأمر ربك وإرادته ، فأنا عبده الذى لا يعصى له أمراً . . .
{ لَهُ } - سبحانه - { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك } أى : له وحده جميع الجهات والأماكن ، وجميع الأزمان الحاضرة والماضية والمستقبلية ، وما بين ذلك ، فلا نقدر أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من وقت إلى وقت إلا بأمر ربك ومشيئته .
فالجملة الكريمة مسوقة لبيان ملكية الله - تعالى - لكل شىء ، وقدرته على كل شىء وعلمه بكل شىء .
وقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } مؤكد لما قبله من إثبات قدرة الله - تعالى - وعلمه .
أى : وما كان ربك - أيها الرسول الكريم - ناسيا أو تاركاً لك أو مهملاً لشأنك ، ولكنه - سبحانه - محيط بأحوالك وبأحوال جميع المخلوقات { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
قال ابن كثير : " قال ابن أبى حاتم : حدثنا يزيد بن محمد . . . عن أبى الدرداء يرفعه قال : " ما أحل الله فى كتابه فهو حلال ، وما حرمه هو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً " ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } .
ويختم هذا الدرس بإعلان الربوبية المطلقة لله ، والتوجيه إلى عبادته والصبر على تكاليفها . ونفي الشبيه والنظير :
( وما نتنزل إلا بأمر ربك ، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ، وما كان ربك نسيا . رب السماوات والأرض وما بينهما ، فاعبده واصطبر لعبادته . هل تعلم له سميا ? ) . .
وتتضافر الروايات على أن قوله ( وما نتنزل إلا بأمر ربك . . )مما أمر جبريل عليه السلام أن يقوله للرسول [ ص ] ردا على استبطائه للوحي فترة لم يأته فيها جبريل . فاستوحشت نفسه ، واشتاقت للاتصال الحبيب . فكلف جبريل أن يقول له : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك )فهو الذي يملك كل شيء من أمرنا :
له من بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وهو لا ينسى شيئا ، إنما ينزل الوحي عندما تقتضي حكمته أن ينزل ( وما كان ربك نسيا )فناسب بعد ذلك أن يذكر الاصطبار على عبادة الله مع إعلان الربوبية له دون سواه :
قال الإمام أحمد : حدثنا يَعْلى ووكيع قالا حدثنا عمر بن ذَرّ ، عن أبيه ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ " قال : فنزلت { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية .
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم ، عن عمر بن ذر به . ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث عمر بن ذر به{[18997]} وعندهما زيادة في آخر الحديث ، فكان
ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقال العَوْفي عن ابن عباس : احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحَزَن ، فأتاه جبريل وقال : يا محمد ، { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }
وقال مجاهد : لبث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة ، ويقولون [ قُلِيَ ]{[18998]} فلما جاءه قال : يا جبريل لقد رِثْتَ عليّ حتى ظن المشركون كل ظن . فنزلت : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ [ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ]{[18999]} وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال : وهذه الآية كالتي في الضحى .
وكذلك قال الضحاك بن مُزَاحم ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد : إنها نزلت في احتباس جبريل .
وقال الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : أبطأ جبريل النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يومًا ، ثم نزل ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما نزلت حتى اشتقت إليك " فقال له جبريل : بل أنا كنت إليك أشوق ، ولكني مأمور ، فأوحِيَ إلى جبريل أن قل له : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . رواه ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، وهو غريب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مجاهد قال : أبطأت الرسلُ على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه جبريل فقال له : ما حبسك يا جبريل ؟ فقال له جبريل : وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ، ولا تُنْقُون براجمكم ، ولا تأخذون شواربكم ، ولا تستاكون ؟ ثم قرأ : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية .
وقد قال الطبراني : حدثنا أبو عامر النحوي ، حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن [ الدمشقي ]{[19000]} حدثنا إسماعيل بن عياش ، أخبرني ثعلبة بن مسلم ، عن أبي كعب مولى ابن عباس ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن جبريل أبطأ عليه ، فذكر ذلك له فقال : وكيف وأنتم لا تَسْتَنّون ، ولا تُقَلّمُون أظفاركم ، ولا تقصون شواربكم ، ولا تُنْقُون رواجبكم .
وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن أبي اليمان ، عن إسماعيل بن عياش ، به نحوه{[19001]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سَيَّار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا المغيرة بن حبيب - [ ختن ]{[19002]} مالك بن دينار - حدثني شيخ من أهل المدينة ، عن أم سلمة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أصلحي لنا المجلس ، فإنه ينزل{[19003]} ملك إلى الأرض ، لم ينزل إليها قط " {[19004]}
وقوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } قيل : المراد ما بين أيدينا : أمر الدنيا ، وما خلفنا : أمر الآخرة ، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } ما بين النفختين . هذا قول أبي العالية ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير . وقتادة ، في رواية عنهما ، والسدي ، والربيع بن أنس .
وقيل : { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } ما نستقبل من أمر الآخرة ، { وَمَا خَلْفَنَا } أي : ما مضى من الدنيا ، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } أي : ما بين الدنيا والآخرة . يروى نحوه عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة ، وابن جريج ، والثوري . واختاره ابن جرير أيضًا ، والله أعلم .
وقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال مجاهد [ والسُّدِّيّ ]{[19005]} معناه : ما نسيك ربك .
وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [ الضحى : 1 - 3 ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي ، حدثنا محمد بن عثمان{[19006]} - يعني أبا الجماهر{[19007]} - حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة ، عن أبيه ، عن أبي الدرداء يرفعه قال : " ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت [ عنه ]{[19008]} فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى{[19009]} شيئا " ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }{[19010]}
{ وما نتنزل إلا بأمر ربك } حكاية قول جبريل عليه الصلاة والسلام حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيب ، ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه خمسة عشر يوما ، وقيل أربعين يوما حتى قال المشركون ودعه ربه وقلاه ، ثم نزل ببيان ذلك . والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى أنزل ، والمعنى وما ننزل وقتا غب وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته ، وقرئ " وما يتنزل " بالياء والضمير للوحي { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين لا ننتقل من مكان إلى مكان ، ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته . { وما كان ربك نسيا } تاركا لك أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة رآها فيه . وقيل أول الآية حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة والمعنى وما ننزل الجنة إلا بأمر الله ولطفه ، وهو مالك الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضله وقوله { وما كان ربك نسيا } تقرير من الله لقولهم أي وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين وما وعد لهم من الثواب عليها .
قرأ الجمهور «وما نتنزل » بالنون كأن جبريل عن نفسه والملائكة ، وقرأ الأعرج وما «يتنزل » بالياء على أنه خبر من الله أن جبريل لا يتنزل ، قال هذا التأويل بعض المفسرين ، ويرده قوله { ما بين أيدينا } لأنه لا يطرد معه وإنما يتجه أن يكون خبراً من جبريل أن القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها . ورويت قراءة الأعرج بضم الياء ، وقرأ ابن مسعود «إلا بقول ربك » ، وقال ابن عباس وغيره : سبب هذه الآية ، أن النبي عليه السلام أبطأ عنه جبريل مرة فلما جاءه قال «يا جبريل قد اشتقت اليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا »{[7992]} فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد والضحاك : سببها أن جبريل تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف{[7993]} «غداً أخبركم » حتى فرح بذلك المشركون واهتم رسول الله صلى عليه وسلم ، ثم جاء جبريل ونزلت هذه في ذلك المعنى ، فهي كالتي في الضحى{[7994]} ، وهذه الواو التي في قوله { وما نتنزل } هي عاطفة جملة كلام على أخرى وواصلة بين القولين وإن لم يكن معناهما واحداً . وحكى النقاش عن قوم أن قوله { وما نتنزل } متصل بقوله { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } [ مريم : 19 ] ، وهذا قول ضعيف ، وقوله { ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } لفظ يحتاج إلى ثلاث مراتب ، واختلف المفسرون فيها ، فقال أبو العالية «ما بين الأيدي » في الدنيا بأسرها الى النفخة الأولى ، «وما خلف » الآخرة من وقت البعث { وما بين ذلك } ما بين النفختين . وقال ابن جريج «ما بين الأيدي » هو ما مر من الزمن قبل إيجاد من في الضمير ، «وما خلف » هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة { وما بين ذلك } هو مدة الحياة .
قال القاضي أبو محمد : والآية إنما المقصد بها الإشعار بملك الله تعالى لملائكه وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان ، إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم له ، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد ب «ما بين الأيدي وما خلف » الأمكنة التي فيها تصرفهم ، والمراد ب { ما بين ذلك } هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجهها كأنه قال نحن مقيدون بالقدرة لا ننتقل ولا نتتزل إلا بأمر ربك{[7995]} . وقال ابن عباس وقتادة فيما روي وما أراه صحيحاً عنهما «ما بين الأيدي هي الآخرة وما خلف هو الدنيا » وهذا مختل المعنى إلا على التشبيه بالمكان لأن ما بين اليد إنما هو ما تقدم وجوده في الزمن بمثابة التوارة والإنجيل من القرآن وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم وهذه المقالة هي للملائكة فتأمله .
وقوله { وما كان ربك نسياً } أي ممن يلحقه نسيان بعثنا إليكم في وقت المصلحة به فإنما ذلك عن قدر له أي فلا تطلب أنت يا محمد الزيارة أكثر مما شاء الله هذا ما تقتضيه قوة الكلام على التأويل الواحد أو فلا تهتم يا محمد بتأخيري ولا تلفت لفرح المشركين بذلك على التأويل الثاني و { نسياً } فعيل من النسيان والذهول عن الأمور ، وقالت فرقة { نسياً } هنا معناه تاركاً ، ع : وفي هذا ضعف لأنه إنما نفي النسيان مطلقاً فيتمكن ذلك في النسيان الذي هو نقص وأما الترك فلا ينتفي مطلقاً ألا ترى قوله تعالى : { وتركهم في ظلمات }{[7996]} [ البقرة : 17 ] وقوله { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض }{[7997]} [ الكهف : 99 ] فلو قال نسيك أو نحوه من التقييد لصح حمله على الترك ، ولا حاجة لنا أن نقول إن التقييد في النية لأن المعنى الآخر أظهر . وقرأ ابن مسعود «وما بين ذلك وما نسيك ربك » وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهي عافيته فاقبلوا » ثم تلا هذه الآية{[7998]} .