قوله تعالى : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . قال ابن عطية{[21822]} : الواو عاطفة جملة كلام على أخرى ، واصلة بين القولين ، وإن لم يكن معناهما واحداً{[21823]} .
وقد أغرب النقاش{[21824]} في حكاية قول : وهو أن قوله : { وما نَتَنَزَّلُ } متصل بقوله : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ }{[21825]} {[21826]} .
وقال أبو البقاء{[21827]} : " وما نَتَنَزَّلُ " أي : وتقول الملائكة{[21828]} . فجعله معمولاً لقول مضمر .
وقيل : هو من كلام أهل الجنة{[21829]} . وهو أقرب مما قبله . و " نَتَنَزَّلُ " مطاوع{[21830]} نزَّل -بالتشديد- ويقتضي العمل في مهلة وقد لا يقتضيها . قال الزمخشري : التنزل{[21831]} على معنيين : معنى النزول على مهل ، ومعنى النزول على الإطلاق ، كقوله :
فَلَسْتُ لإنْسِيّ ولكن لملأكٍ *** تَنَزَّلَ من جَوِّ السَّمَاءِ يصُوبُ{[21832]}
لأنه مطاوع نزل ، ونزل يكون بمعنى أنزل ، ويكون بمعنى التدرج ، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل ، والمراد : أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت{[21833]} .
قال شهاب الدين : وقد تقدم أنه يفرق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضوع{[21834]} .
وقرأ العامة " نَتَنَزَّلُ " بنون الجمع{[21835]} . وقرأ الأعرج{[21836]} " يتنزَّلُ " بياء الغيبة{[21837]} ، وفي الفاعل حينئذ قولان :
أحدهما : أنه ضمير جبريل -عليه السلام{[21838]}- .
قال ابن عطية : ويرده قوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } ، لأنه لا{[21839]} يطرد معه ، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أي : القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها{[21840]} . وقد يجاب ابن عطية بأنه على إضمار القول ، أي : قائلاً ما بين أيدينا{[21841]} .
والثاني : أنه يعود على الوحي ، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل ، والضمير للوحي{[21842]} . ولا بد من إضمار هذا القول أيضاً{[21843]} .
قوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } . استدل بعض النحاة على أن الأزمنة ثلاثة{[21844]} : ماض ، وحاضر ، ومستقبل بهذه الآية{[21845]} وهو كقول زهير{[21846]} :
واعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ *** ولكِنَّنِي عن عِلْمِ ما فِي غدٍ عَمِ{[21847]}
فصل{[21848]}
روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما منعك أن تزورنا " فنزلت { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية{[21849]} . وقال عكرمة{[21850]} والضحاك وقتادة ومقاتل ، والكلبي{[21851]} : " احتبس جبريل -عليه السلام{[21852]}- عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل قومه عن أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح فقال : " أخبركم غداً " ، ولم يقل : إن شاء الله حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون ودَّعهُ ربه وقلاه ، ثم نزل{[21853]} بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبطأت علي حتى ساء ظني ، واشتقت إليك " فقال له جبريل -عليه السلام{[21854]}- إني كنت إليك أشوق ، ولكنني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست .
فنزل قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } ، وقوله : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله }{[21855]} وسورة الضحى{[21856]} وفي هذه الآية سؤال{[21857]} : وهو أن قوله : { تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } كلام الله ، وقوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ } كلام غير الله ، فكيف جاز هذا على ما قبله من غير فصل ؟ .
وأجيب : بأنه إذا كانت القرينة لم يقبح كقوله -تعالى- : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }{[21858]} ، ( وهذا كلام الله تعالى ، ثم عطف عليه ){[21859]} { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه }{[21860]} . واعلم أنَّ ظاهر قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } خطاب جماعة لواحد ، وذلك لا يليق بالذين ينزلون على الرسول ، فلذلك ذكروا في سبب النزول ما تقدم{[21861]} . ثم قال{[21862]} : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا{[21863]} وَمَا خَلْفَنَا } أي : علم ما بين أيدينا قال سعيد بن جبير{[21864]} وقتادة ، ومقاتل : " ما بَيْنَ " أيدِينَا " من أمر الآخرة ، والثواب والعقاب ، " ومَا خَلْفَنَا " من أمر الدنيا ، " ومَا بَيْنَ ذلِكَ " ما يكون في هذا الوقت إلى قيام الساعة . وقيل : " مَا بَيْنَ أيْدِينَا " من أمر الآخرة ، " ومَا خَلْفَنَا " من أمر الدنيا ، " ومَا بَيْنَ ذلِكَ " أي : بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة .
وقيل : " مَا بَيْنَ أدينَا " ما بقي من أمر الدنيا ، " ومَا خَلْفَنَا " ما مضى منها ، " ومَا بَيْنَ ذَلِكَ " هذه حياتنا . وقيل : " مَا بَيْنَ أيْدِينَا " بعد أن نموت ، " وما خلفنا " قبل أن نخلق ، " ومَا بَيْن ذلكَ " مدة الحياة . وقيل : " مَا بَيْنَ أيدِينَا " الأرض إذا أردنا النزول إليها ، " ومَا خَلْفَنَا " السماء وما أنزل منها ، " ومَا بَيْنَ ذلِكَ " الهواء ، يريد أن ذلك كله لله -عز وجل- فلا يقدر على شيء إلاَّ بأمره . ثم قال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي : ناسياً ، أي : ما نسيك ربك بمعنى تركك ، والناسي التارك{[21865]} ، كقوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى }{[21866]} أي : ما كان امتناع النزول لترك الله لك وتوديعه إياك{[21867]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.