اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

قوله تعالى : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . قال ابن عطية{[21822]} : الواو عاطفة جملة كلام على أخرى ، واصلة بين القولين ، وإن لم يكن معناهما واحداً{[21823]} .

وقد أغرب النقاش{[21824]} في حكاية قول : وهو أن قوله : { وما نَتَنَزَّلُ } متصل بقوله : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ }{[21825]} {[21826]} .

وقال أبو البقاء{[21827]} : " وما نَتَنَزَّلُ " أي : وتقول الملائكة{[21828]} . فجعله معمولاً لقول مضمر .

وقيل : هو من كلام أهل الجنة{[21829]} . وهو أقرب مما قبله . و " نَتَنَزَّلُ " مطاوع{[21830]} نزَّل -بالتشديد- ويقتضي العمل في مهلة وقد لا يقتضيها . قال الزمخشري : التنزل{[21831]} على معنيين : معنى النزول على مهل ، ومعنى النزول على الإطلاق ، كقوله :

فَلَسْتُ لإنْسِيّ ولكن لملأكٍ *** تَنَزَّلَ من جَوِّ السَّمَاءِ يصُوبُ{[21832]}

لأنه مطاوع نزل ، ونزل يكون بمعنى أنزل ، ويكون بمعنى التدرج ، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل ، والمراد : أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت{[21833]} .

قال شهاب الدين : وقد تقدم أنه يفرق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضوع{[21834]} .

وقرأ العامة " نَتَنَزَّلُ " بنون الجمع{[21835]} . وقرأ الأعرج{[21836]} " يتنزَّلُ " بياء الغيبة{[21837]} ، وفي الفاعل حينئذ قولان :

أحدهما : أنه ضمير جبريل -عليه السلام{[21838]}- .

قال ابن عطية : ويرده قوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } ، لأنه لا{[21839]} يطرد معه ، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أي : القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها{[21840]} . وقد يجاب ابن عطية بأنه على إضمار القول ، أي : قائلاً ما بين أيدينا{[21841]} .

والثاني : أنه يعود على الوحي ، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل ، والضمير للوحي{[21842]} . ولا بد من إضمار هذا القول أيضاً{[21843]} .

قوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } . استدل بعض النحاة على أن الأزمنة ثلاثة{[21844]} : ماض ، وحاضر ، ومستقبل بهذه الآية{[21845]} وهو كقول زهير{[21846]} :

واعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ *** ولكِنَّنِي عن عِلْمِ ما فِي غدٍ عَمِ{[21847]}

فصل{[21848]}

روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما منعك أن تزورنا " فنزلت { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية{[21849]} . وقال عكرمة{[21850]} والضحاك وقتادة ومقاتل ، والكلبي{[21851]} : " احتبس جبريل -عليه السلام{[21852]}- عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل قومه عن أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح فقال : " أخبركم غداً " ، ولم يقل : إن شاء الله حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون ودَّعهُ ربه وقلاه ، ثم نزل{[21853]} بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبطأت علي حتى ساء ظني ، واشتقت إليك " فقال له جبريل -عليه السلام{[21854]}- إني كنت إليك أشوق ، ولكنني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست .

فنزل قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } ، وقوله : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله }{[21855]} وسورة الضحى{[21856]} وفي هذه الآية سؤال{[21857]} : وهو أن قوله : { تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } كلام الله ، وقوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ } كلام غير الله ، فكيف جاز هذا على ما قبله من غير فصل ؟ .

وأجيب : بأنه إذا كانت القرينة لم يقبح كقوله -تعالى- : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }{[21858]} ، ( وهذا كلام الله تعالى ، ثم عطف عليه ){[21859]} { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه }{[21860]} . واعلم أنَّ ظاهر قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } خطاب جماعة لواحد ، وذلك لا يليق بالذين ينزلون على الرسول ، فلذلك ذكروا في سبب النزول ما تقدم{[21861]} . ثم قال{[21862]} : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا{[21863]} وَمَا خَلْفَنَا } أي : علم ما بين أيدينا قال سعيد بن جبير{[21864]} وقتادة ، ومقاتل : " ما بَيْنَ " أيدِينَا " من أمر الآخرة ، والثواب والعقاب ، " ومَا خَلْفَنَا " من أمر الدنيا ، " ومَا بَيْنَ ذلِكَ " ما يكون في هذا الوقت إلى قيام الساعة . وقيل : " مَا بَيْنَ أيْدِينَا " من أمر الآخرة ، " ومَا خَلْفَنَا " من أمر الدنيا ، " ومَا بَيْنَ ذلِكَ " أي : بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة .

وقيل : " مَا بَيْنَ أدينَا " ما بقي من أمر الدنيا ، " ومَا خَلْفَنَا " ما مضى منها ، " ومَا بَيْنَ ذَلِكَ " هذه حياتنا . وقيل : " مَا بَيْنَ أيْدِينَا " بعد أن نموت ، " وما خلفنا " قبل أن نخلق ، " ومَا بَيْن ذلكَ " مدة الحياة . وقيل : " مَا بَيْنَ أيدِينَا " الأرض إذا أردنا النزول إليها ، " ومَا خَلْفَنَا " السماء وما أنزل منها ، " ومَا بَيْنَ ذلِكَ " الهواء ، يريد أن ذلك كله لله -عز وجل- فلا يقدر على شيء إلاَّ بأمره . ثم قال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي : ناسياً ، أي : ما نسيك ربك بمعنى تركك ، والناسي التارك{[21865]} ، كقوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى }{[21866]} أي : ما كان امتناع النزول لترك الله لك وتوديعه إياك{[21867]} .


[21822]:تقدم.
[21823]:تفسير ابن عطية 9/500.
[21824]:تقدم.
[21825]:[مريم: 19].
[21826]:انظر البحر المحيط 6/203.
[21827]:تقدم.
[21828]:التبيان 2/877.
[21829]:وهو قول أبي مسلم. الفخر الرازي 21/240.
[21830]:المطاوعة: التأثر وقبول أثر الفعل، سواء كان التأثر متعديا نحو علّمته الفقه فعلمه، أي: قبل التعليم، فالتعليم تأثير والتعلم تأثر وقبول ذلك الأثر، وهو متعد أو كان لازما نحو كسرته فانكسر، أي: تأثر بالكسر، انظر شرح الشافية 2/103، 105، 107.
[21831]:في ب: التنزيل. وهو تحريف.
[21832]:البيت من بحر الطويل، قاله علقمة الفحل. ملأك أصلها ملك، نقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها، ثم خففت الهمزة بحذفها، وقيل: ملأك أصلها مألك، قدمت اللام على الهمزة، ثم خففت الهمزة بحذفها فلما جمعوه ردوا الهمزة إلى أصلها، فقالوا: ملائكة، وملائك. يصوب: ينزل والشاهد فيه أن التنزيل بمعنى النزول المطلق وقد تقدم.
[21833]:الكشاف 2/416.
[21834]:الدر المصون 5/11.
[21835]:تفسير ابن عطية 9/498، البحر المحيط 6/204.
[21836]:في ب: الأعمش. وهو تحريف.
[21837]:المختصر (85)، الكشاف 2/417، تفسير ابن عطية 9/498، البحر المحيط 6/204.
[21838]:عليه السلام: سقط من ب.
[21839]:لا: سقط من ب.
[21840]:تفسير ابن عطية 9/498.
[21841]:انظر البحر المحيط 6/204.
[21842]:الكشاف: 2/417.
[21843]:انظر البحر المحيط 6/204.
[21844]:في ب: ثلاث.
[21845]:قال ابن الأنباري: (وله ما بين أيدينا خلفنا وما بين ذلك في هذه الآية دلالة على أن الأزمنة ثلاثة: ماض، وحاضر، ومستقبل) البيان 2/129.
[21846]:تقدم.
[21847]:البيت من بحر الطويل، قاله زهير، رجل عم في أمره: لا يبصره. وقد أورده ابن عادل شاهدا على أن الأزمنة ثلاثة ماض، وحاضر، ومستقبل فقوله: (اليوم) يدل على الزمن الحاضر، و(الأمس) يدل على الماضي، و(غد) يدل على المستقبل. وقد تقدم.
[21848]:فصل: سقط من ب.
[21849]:أخرجه البخاري (بدء الخلق) 2/213، (كتاب التفسير) 3/157، والترمذي (التفسير) 4/377، والإمام أحمد 1/231، 134، 257.
[21850]:تقدم.
[21851]:تقدم.
[21852]:في : عليه الصلاة والسلام.
[21853]:في ب: ثم نزل عليه.
[21854]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[21855]:[الكهف: 23،24].
[21856]:انظر البغوي 5/384 -385.
[21857]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 21/239.
[21858]:[مريم: 35].
[21859]:ما بين القوسين سقط من ب. وفيه: وقوله.
[21860]:[مريم: 36]، وفي ب بعد ذكر هذه الآية: عطف عليه.
[21861]:آخر ما نقله عن الفخر الرازي 21/239.
[21862]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/385 -386.
[21863]:ما بين القوسين سقط من ب.
[21864]:تقدم.
[21865]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/385-386.
[21866]:[الضحى: 3].
[21867]:الفخر الرازي 21/240.