التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

{ ومَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ومَا خَلْفَنَا ومَا بَيْنَ ذَلِكَ ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا 64 رَبُّ السَّمَاواتِ والْأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ واصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا 65 } [ 64 65 ]

تبدو هاتان الآيتان معترضتين في السياق . وكأنهما لا ارتباط بينهما وبين ما سبقها وما لحقها . ومن جهة أخرى فإن صيغتها صيغة خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم من غير الله كأن أشخاصا غير الله يخاطبون . وعبارتهما واضحة . وهما في صدد تقرير انحصار الأمر والعلم والتصرف في كل شيء في الله تعالى ربّ السماوات والأرض وما بينهما الذي لا مثيل ولا نظير في عظمته وقدرته وربوبيته الشاملة ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ثانيتهما بالثبات في عبادته والخضوع له .

تعليق على آية

{ وما نتنزل إلا بأمر ربك }

لقد تعددت الأحاديث والروايات التي يريها المفسرون في صدد هذه الآيات{[1345]} منها حديث عن ابن عباس رواه البخاري والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت " ومنها حديث عن مجاهد جاء فيه " إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : لقد رثت عليّ حتّى ظنّ المشركون كلّ ظنّ . فنزلت " ، وحديث عن قتادة جاء فيه " إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حينما جاء بعد انحباس : ما جئت حتّى اشتقت إليك فنزلت " . ومما رواه المفسرون أن احتباس جبريل كان اثنتي عشرة ليلة وفي رواية خمسا وأربعين . كما رووا أن الاحتباس كان عندما سأله الكفار بإيعاز من اليهود عن أصحاب الكهف وذي القرنين وعن الروح فقال النبي لهم غدا أجيبكم ، ولم يقل إن شاء الله .

ومع كل هذه الأحاديث والروايات فكان رواية عن مسلم رواها الطبرسي : أن الآيتين حكاية لقول المتقين الذين ذكروا في الآيات السابقة حينما ينزلون منازلهم وباستثناء الحديث الذي يرويه البخاري والترمذي فالأحاديث الأخرى من المراسيل .

والعبارة القرآنية لا تتسق فيما يبدو مع القول بأن الآيتين حكاية لأقوال المتقين حينما ينزلون منازلهم في الجنة وهي أكثر اتساقا مع الأحاديث والروايات التي تذكر أنها حكاية لقول جبريل . مع ما يلحظ مع ذلك أن صيغة المتكلم في الآية صيغة جمع في حين أن الأحاديث والروايات تذكر جبريل وحده الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم ونزل عليه بالآية . ولما كان من الحقائق الإيمانية أن جميع ما في القرآن صادر من الله عز وجل ، وأن الملك الذي يبلغه ليس إلاّ واسطة فقد خرّج المفسرون الكلام الصادر ظاهرا عن الملك بصيغة الجمع على أنه تبليغ رباني عن لسان الملك أو الملائكة .

ويلحظ أن هناك آيات عديدة يكون الكلام موجها من قبل النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ولم يسبق بأمر له بقول ذلك كما جاء في آيات سورة هود هذه { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ1 أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ 2 وأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وإِن تَولَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ 3 إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وهُو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 4 } وفي سورة الأنعام هذه { قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ومَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ 104 } وأن هناك آيات يكون الكلام فيها صادرا في الظاهر عن غير الله كما جاء في آيات سورة الصافات هذه { ومَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ 164 وإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ 165 وإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ 166 } وقد خرّجت هذه الآيات بمثل التخريج الذي خرجت به الآيات التي نحن في صددها .

ولما كان سرّ الوحي القرآني مما لا تدرك ماهيته فالأولى أن يوقف في هذه المسألة الإيمانية الغيبية وأمثالها عندما وقف عنده القرآن من ناحيتها الذاتية وكنهها وأن يقال آمنّا به كل من عند ربّنا .

وهذا لا يمنع من القول : إن هاتين الآيتين وأمثالهما صورة من صور الوحي القرآني تبدو أولا في صيغة الجمع ، وثانيا في حكاية كلام مباشر عن الملائكة حينا وعن النبي صلى الله عليه وسلم حينا . ولعل مما يمكن أن يضاف إلى هذا أن الآيات التي تجمع الروايات على أنها كانت جوابا على تساؤل من النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون نزلت بعد نزول الآيات السابقة لها ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتدوينها فور نزولها بعدها ولو لم يكن بينها ارتباط بحيث يصح أن تشبه بآيات سورة القيامة [ 16 19 ] من ناحية فورية النزول والتدوين والمناسبة وعدم الارتباط بما سبقها وبما لحقها على ما شرحناه في سياقها .

ومما يرد على البال أن يكون ذكر الأنبياء وما حظوا به من عناية ربانية وذكر مريم وظهور الملك لها كان هو المناسبة القريبة للتساؤل عن كيفية نزول الملائكة بأوامر الله فأوحي بهاتين الآيتين عن لسانهم بعد أن تم سياق الكلام في الآيات السابقة . وإذا صح هذا فإنه يوجد ترابطا بين الآيتين وبين السياق السابق كما هو واضح ، وإن كان يتناقض مع الروايات المروية عن سؤاله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام . على أن الاختلاف في روايات النزول مما يسوغ التوقف في الروايات الواردة من حيث الأصل ، والله تعالى أعلم .

هذا ، ويتراءى لنا فيما احتوته الآيتان من إعلان اعتراف الملائكة بحدودهم إزاء العزة الربانية وتقريرهم بإحاطة الله سبحانه بكل شيء وقدرته على كل شيء وعدم طروء ما يطرأ على البشر من غفلة ونسيان عليه ، ونفي أي مشابهة له في الأسماء والصفات والقدرة الشاملة ، وتوكيدهم على النبي صلى الله عليه وسلم وجوب التزام عبادته والخضوع له هدف تدعيمي للتقريرات القرآنية والدعوة الربانية في مختلف فصول القرآن في بيئة يتخذ غالب أهلها الملائكة أولياء وأربابا وشركاء قادرين على النفع والضرر . بل لعل الآيتين قد استهدفتا هذا الهدف بصورة رئيسية والله تعالى أعلم .


[1345]:انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي والكشاف.