فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

{ وما نتنزل إلا بأمر ربك } أي قال الله سبحانه قل يا جبريل ، وما نتنزل وقتا غب وقت ، إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ نزول جبريل عليه حين سألوه في أمر الروح ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، فأمر جبريل أن يخبره بأن الملائكة ما تتنزل إلا بأمر الله ، قيل احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوما ، وقيل خمسة عشر ، وقيل اثني عشر ، وقيل ثلاثة أيام ، وقيل إن هذا حكاية عن أهل الجنة ، وإنهم يقولون عند دخولها وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك ، والأول أولى بدلالة ما قبله ، ومعناه يحتمل وجهين :

الأول : وما نتنزل عليك إلا بأمر ربك لنا بالتنزل .

والثاني : وما نتنزل عليك إلا بأمر ربك الذي يأمرك به بما شرعه لك ولأمتك . والتنزل : النزول على مهل فإنه مطاوع نزل بالتشديد وقد يطلق على مطلق النزول كما يطلق نزل المشدد بمعنى أنزل .

وقد أخرج البخاري وغيره ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟{[1170]} فنزلت هذه الآية إلى آخرها وكان ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وفي الباب روايات تدل على أنه السبب في النزول ، ثم أكد جبريل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال .

{ له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } أي من الجهات والأماكن أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة وما بينهما من الزمان أو المكان الذي نحن فيه ، فلا نقدر أن ننتقل من جهة إلى جهة ، ومن مكان إلى مكان أو من زمان على زمان إلا بأمر ربك ومشيئته ، وقيل المعنى له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة . قاله سعيد بن جبير .

وقيل ما أمامنا من أمور الآخرة وما خلفنا من أمور الدنيا وما بين ذلك أي ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة ، وقيل هو ما بين النفختين قاله قتادة ، وقبل الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وقيل ما مضى من أعمارنا وما غبر منها ؛ والحالة التي نحن فيها وعلى هذه الأقوال كلها يكون المعنى : أن الله سبحانه هو المحيط بكل شيء : لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة ، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه ، وقال مابين ذلك ولم يقل ما بين ذينك لأن المراد ما بين ما ذكرنا كما قوله سبحانه عوان بين ذلك .

{ وما كان ربك نسيا } ناسيا أي لم ينسك ولم يتركك وإن تأخر عنك الوحي وقيل المعنى أنه عالم بجميع الأشياء لا ينسى منها شيئا ، وقيل المعنى وما كان ربك ينسى الإرسال إليك عند الوقت الذي يرسل فيه رسله .

أخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن مردويه والطبراني والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رفع الحديث ، قال : ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا : { وما كان ربك نسيا } {[1171]} ومن حديث جابر عند ابن مردويه مثله .


[1170]:البخاري كتاب التوحيد باب 28-الإمام أحمد 1/231.
[1171]:المستدرك كتاب التسيير2/375.