قوله تعالى : { وكان الله سميعا بصيرا يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } . يعني : كونوا قائمين بالشهادة بالقسط ، أي : بالعدل لله . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( كونوا قوامين بالعدل ) في الشهادة على من كانت له .
قوله تعالى : { ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } في الرحم ، أي : قولوا الحق ولو على أنفسكم بالإقرار ، أو الوالدين والأقربين ، فأقيموها عليهم ، ولا تحابوا غيناً لغناه ، ولا ترحموا فقيراً لفقره ، فذلك قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } ، منكم ، أي أقيموا على المشهود عليه وإن كان غنياً ، وللمشهود له وإن كان فقيراً ، فالله أولى بهما منكم ، أي كلوا أمرهما إلى الله . وقال الحسن : معناه الله أعلم بهما .
قوله تعالى : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } ، أي تجوروا ، وتميلوا إلى الباطل من الحق ، وقيل : معناه لا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، أي : لتكونوا عادلين ، كما يقال : لا تتبع الهوى لترضي ربك .
قوله تعالى : { وإن تلووا } أي : تحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق .
قوله تعالى : { أو تعرضوا } عنها فتكتموها ، ولا تقيموها ، ويقال : تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة ، يقال : لويته حقه إذا حقه إذا دفعته ، وأبطلته ، وقيل : هذا خطاب مع الحكام في ليهم الاشداق ، يقول : ( وإن تلووا ) أي تميلوا إلى أحد الخصمين ، أو تعرضوا عنه ، قرأ ابن عامر وحمزة { تلوا } بضم اللام ، قيل : أصله تلووا ، فحذفت إحدى الواوين تخفيفاً . وقيل : معناه وإن تلوا القيام بأداء الشهادة ، أو تعرضوا فتتركوا أداءها .
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ }
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا { قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ْ } والقوَّام صيغة مبالغة ، أي : كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق الله وحقوق عباده ، فالقسط في حقوق الله أن لا يستعان بنعمه على معصيته ، بل تصرف في طاعته .
والقسط في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك{[244]} كما تطلب حقوقك . فتؤدي النفقات الواجبة ، والديون ، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به ، من الأخلاق والمكافأة وغير ذلك .
ومن أعظم أنواع القسط القسط في المقالات والقائلين ، فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما ، بل يجعل وجهته العدل بينهما ، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان ، حتى على الأحباب بل على النفس ، ولهذا قال : { شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ْ } أي : فلا تراعوا الغني لغناه ، ولا الفقير بزعمكم رحمة له ، بل اشهدوا بالحق على من كان .
والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدل على دين القائم به ، وورعه ومقامه في الإسلام ، فيتعين على من نصح نفسه وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام ، وأن يجعله نُصْب عينيه ، ومحل إرادته ، وأن يزيل عن نفسه كل مانع وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به .
وأعظم عائق لذلك اتباع الهوى ، ولهذا نبه تعالى على إزالة هذا المانع بقوله : { فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ْ } أي : فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق ، فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب ، ولم توفقوا للعدل ، فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطلا والباطل حقا ، وإما أن يعرف الحق ويتركه لأجل هواه ، فمن سلم من هوى نفسه وفق للحق وهدي إلى الصراط المستقيم .
ولما بيَّن أن الواجب القيام بالقسط نهى عن ما يضاد ذلك ، وهو لي اللسان عن الحق في الشهادات وغيرها ، وتحريف النطق عن الصواب المقصود من كل وجه ، أو من بعض الوجوه ، ويدخل في ذلك تحريف الشهادة وعدم تكميلها ، أو تأويل الشاهد على أمر آخر ، فإن هذا من اللي لأنه الانحراف عن الحق . { أَوْ تُعْرِضُوا ْ } أي : تتركوا القسط المنوط بكم ، كترك الشاهد لشهادته ، وترك الحاكم لحكمه الذي يجب عليه القيام به .
{ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ } أي : محيط بما فعلتم ، يعلم أعمالكم خفيها وجليها ، وفي هذا تهديد شديد للذي يلوي أو يعرض . ومن باب أولى وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد بالزور ، لأنه أعظم جرما ، لأن الأولين تركا الحق ، وهذا ترك الحق وقام بالباطل .
ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك ندائين متتالين إلى المؤمنين أمرهم فيهما بالمداومة على التمسك بفضيلة العدل فى جميع الظروف والأحوال ، وبالثبات على الإِيمان الحق الذى ينالون به ثوابا لله ورضاه ، وتوعد الذين ينحرفون عن طريق الحق بسوء العاقبة فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . . ضَلاَلاً بَعِيداً } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 135 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ( 136 )
وقوله { قَوَّامِينَ } جمع قوام وهو صيغة مبالغة من قائم . والقوام : هو المبالغ فى القيام بالشئ وفى الإِتيان به على أتم وجه وأحسنه .
وقوله { شُهَدَآءَ } جمع شهيد بوزن فعيل . والأصل فى هذه الصغية أنها تدل على الصفات الراسخة فى النفس ككريم وحكيم .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالحق إيمانا صادقا . كونوا مواظبين على إقامة العدل فيما بينكم فى جميع الظروف والأحوال دون أن يصرفكم عن ذلك صارف ، وكونوا " شهداء لله " أى : مقيمين للشهادة بالحق ابتغاء وجه الله لا لغرض من الأغراض الدنيوية . ولا لمطمع من المطامع الشخصية ، فإن الإِيمان الحق يسلتزم منكم أن تعدلوا فى أحكامكم وأن تؤدوا الشهادة على وجهها .
وفى ندائه - سبحانه - لهم بقوله { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } تنبيه إلى الأمر الخير الذى ناداهم من أجله ودعاهم إلى تنفيذه وهو التزام العدالة فى كل أمورهم ، وتحريك لعاطفة الإِيمان فى قلوبهم بمقتضى وصفهم - بهذه الصفة الجليلة .
وعبر - سبحانه - بقوله { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة والمداومة على الشئ ، لتمكين صفة العدالة فى نفوسهم ، وترسيخها فى قلوبهم .
فكأنه - سبحانه - يقول لهم : رضوا أنفسكم على التزام كلمة الحق ، وعودوها على نصرة المظلوم وخذلان الظلم ، وليكن ذلك خلقا من أخلاقكم . وسجية من سجاياكم ، فلا يكفى أن تعدلوا فى أحكامكم مرة أو مرتين ، وإنما الواجب عليكم أن تداوموا على إقامة العدل فى كل الأحوال ، ومع كل الأشخاص .
قال صاحب المنار : وهذه العبارة - وهى قوله - تعالى - { كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط } أبلغ ما يمكن أن يقال فى تأكيد أمر العدل والعناية به فالأمر بالعدل والقسط مطلقا يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض تقول : اعدلوا أو اقسطوا . وتقول : كونوا عادلين أو مقسطين . وهذه العبارة أبلغ ؛ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإِتيان بالقسط الذى يصدق بمرة .
وتقول : أقيموا القسط . وأبلغ منه : كونوا قائمين بالقسط . وأبلغ من هذا وذاك : كونوا قوامين بالقسط . أى : لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم ، بأن تتحروه بالدقة التامة حتى تكون ملكة راسخة فى نفوسكم . والقسط يكون فى العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد ويكون فى الحكم بين الناس . . .
وقوله { شُهَدَآءَ } خبر ثان لكونوا . وقوله { للَّهِ } متعلق بمحذوف حال من ضمير { شُهَدَآءَ } .
أى : كونوا ملازمين للعدل فى كل أمروكم وكونوا مقيمين للشهادة على وجهها حالة كونها لوجه الله ، لا لعرض من أعراض الدنيا .
قال الفخر الرازى : وإنما قدم - سبحانه - الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه :
الأول : أن أكثر الناس من عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف ، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان فى محل المسامحة وأحسن الحسن .
وإذا صدر عن غيرهم كان محل المنازعة . فالله - تعالى - نبه فى هذه الآية على سوء هذه الطريقة . وذلك أنه - سبحانه - أمرهم بالقيام بالقسط أولا ، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيا ، تنبيها على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإِنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير .
الثانى : أن القيام بالشهادة عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير ، وهو الذى عليه الحق . ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير .
الثالث : أن القيام بالقسط فعل ، والشهادة قول والفعل أقوى من القول .
وقوله { وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين } تأكيد للأمر بالتزام الحق فى الأحكام والشهادات .
أى : كونوا قوامين بالقسط ، وكونوا مقيمين للشهادة بالحق خالصة لوجه الله ، ولو كانت الشهادة على أنفسكم - بأن تقروا بأن الحق عليها إذا كان واقع الأمر كذلك - ولو كانت - أيضا . على والديكم وعلى أقرب الناس إليكم .
قال القرطبى : وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما . ثم ثنى بالأقربين إذهم مظنة المودة والتعصب فكان الأجنبى من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه . . . ولا خلاف بين أهل العلم فى صحة أحكام هذه الآية ، وأن شهادة الولد على الوالدين ماضية ، ولا يمنع ذلك من برهما ، بل أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل . وكان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ ، لأنه لم يكن أحد يتهم فى ذلك من السلف . ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم . وأجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا .
و { لَوْ } فى قوله { وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ } شرطية . والجار والمجرور خبر لكان المحذوفة مع اسمها . وجواب لو محذوف . والتقدير : ولو كانت الشهادة على أنفسهم فاشهدوا علهيا بأن تقروا على أنفسكم بالحق ولا تكتموه .
وقوله - تعالى - { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا } تأكيد لوجوب التزام الحق مع الغنى والفقير والصغير والكبير .
أى : إن يكن المشهود عليه غنيا يرجى فى العادة ويخشى أو فقيراً يترحم عليه فى الغالب ولا يخشى ، فلا تمتنعوا عن الشهادة ، لأن الله - تعالى - هو الأول والأجدر بحساب كل من الغنى والفقير ، وهو الأعلم بمصالح الناس ، والأرحم بهم منكم . وجواب الشرط محذوف ، أى : إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تتركوا الشهادة لأن الشهادة فى مصلحتهما .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم ثنى الضمير فى " أولى بهما " وكان حقه أن يوحد ؛ لأن قوله : إن يكن غنيا أو فقيرا فى معنى إن يكن أحد هذين ؟
قلت قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } لا إلى المذكور ، فلذلك ثنى ولم يفرد ، وهو جنس الغنى وجنس الفقير .
فكأنه قيل : فالله أولى بجنسى الغنى والفقير . أى : بالأغنياء والفقراء . وفى قراءة أبى : فالله أولى بهم وهى شاهدة على ذلك .
وقال ابن جرير : نزلت فى النبى صلى الله عليه وسلم إذا اختصم إليه رجلان : غنى وفقير : وكان ضعله - أى ميله - مع الفقير ؛ لأنه يرى أن الفقير لا يظلم الغنى . فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط فى الغنى والفقير فقال : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا } .
والذى يستفاد من هذه الرواية ومن ظاهر الآية أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا فى التفاوت فى الحكم . ويقاس عليهما غيرهما من أحوال الناس ، لأن الله - تعالى هو الذى نظم الكون بحكمته ، وهو أعلم بمصالح الناس من أنفسهم ، وجعل فيهم الغنى والفقير لأن الغنى والفقر أمران ثابتان فى هذا الوجود ، ولا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإِنسانية ، لأن ذلك تنظيم الله - تعالى ، وإرادته الخالدة ، وهو الذى يتقف مع الطبيعة الإِنسانية ، إذ العقول متفاوتة ، والعزائم مختلفة ، والأعمال متنوعة ، ونتيجة لذلك كانت لثمار ليست متحدة .
والمراد بالهوى فى قوله : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ } الخضوع للشهوات والميل مع نزعات النفس الأمارة بالسوء .
وقوله { أَن تَعْدِلُواْ } فى موضع المفعول لأجله ويحتمل أن يكون بمعنى العدل فيكون علة للمنهى عنه ، ويكون فى الجملة مضاف مقدر . والمعنى : فلا تتبعوا الهوى والميل مع الشهوات كراهة أن تعدلوا بين الناس ويحتمل أن يكون بمعنى العدول عن الحق فيكون علة للنهى بتقدير لا ، أى : أنهاكم عن اتباع الهوى لئلا تميلوا عن الحق وتتركوا العدل .
قال ابن كثير : أى : لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم ، على ترك العدل فى شئونكم . بل ألزموا العدل على أى حال كان . كما قال - تعالى - { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبى صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم ، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلى . ولأنتم أبغض الخلق إلى . وما يحملنى حيى إياه وبغضى لكم على أن لا أعدل فيكم . فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض .
وقوله - تعالى - { وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } تذييل قصد به تهديدهم ووعيدهم على ترك العدل ، وعلى الامتناع عن الشهادة بالحق .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : وفى الآية قراءتان . فقد قرأ الجمهور { تَلْوُواْ } - بواوين قبلهما لام ساكنة - بمعنى الدفع والإِعراض من قولهم : لواه حقه إذا مطله ودفعه .
أو بمعنى التحريف والتبديل من قولهم لوى الشئ إذا فتله .
وقرأ ابن عامر وحمزة { تلوا } بلام مضمومة بعدها واو ساكنة - من الولاية بمعنى مباشرة الشئ والاشتغال به .
والمعنى على قراءة الجمهور : وإن تلووا ألسنتكم عن الشهادة بالحق بأن تحرفوها وتقيموها على غير وجهتها أو تعرضوا عنها رأسا وتتركوها يعاقبكم الله عقابا شديدا فإنه - سبحانه - عليم بدقائق الأشياء ، خبير بخفايا النفوس ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه .
والمعنى على القراءة الثانية : وإن تلوا الشهادة فتباشروها على وجهها يعطكم الله أجرا حسنا ، ون تعرضوا عنها وتتركوها بعاقبكم الله عقابا أليما ، فإن الله - تعالى - خبير بكل أقوالكم وأعمالكم . وقيل : إن القراءتين بمعنى واحد لأن أصل ( تلوا ) - وهى قراءة حمزة وابن عامر - تلْووا - وهى قراءة الجمهور - نقلت حركة الواو - فى قراءة الجمهور - إلى الساكن قبلهما فالتقى واوان ساكنان فحذفت إحداهما فصارت الكلمة ( تلوا ) .
هذا ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تبنى المجتمع الإِسلامى على أقوى القواعد ، وأمتن الأسس وأشرف المبادئ . إنها تبنيه على قواعد العدل والقسط ، وتأمر المؤمنين أن يلتزموا كملة الحق مع أنفسهم ومع أقرب المقربين إليهم مهما تكلفوا فى ذلك من جهاد شاق يقتضيه التزام الحق ، فإن كلمة الحق كثيرا ما تجعل صاحبها عرضة للإِيذاء والاعتداء والاتهام بالباطل من الأشرار والفجار . بل إن كلمة الحق قد تفضى بصاحبها إلى الموت . ولكن لا بأس ، فإن الموت مع التمسك بالحق ، خير من الحياة فى ظلمات الباطل .
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين - إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ؛ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا ) . .
إنه نداء للذين آمنوا . نداء لهم بصفتهم الجديدة . وهي صفتهم الفريدة . صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى ؛ وولدوا ميلاد آخر . ولدت أرواحهم ، وولدت تصوراتهم ، وولدت مبادئهم وأهدافهم ، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم ، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم . . أمانة القوامة على البشرية ، والحكم بين الناس بالعدل . . ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه : يا أيها الذين آمنوا . . . فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة ، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى . وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى . .
وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم ؛ تسبق التكليف الشاق الثقيل :
كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين . إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهمًا . .
إنها أمانة القيام بالقسط . . بالقسط على إطلاقه . في كل حال وفي كل مجال . القسط الذي يمنع البغي والظلم - في الأرض - والذي يكفل العدل - بين الناس - والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين . . ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين - كما رأينا في قصة اليهودي - ويتساوى الأقارب والأباعد . ويتساوى الأصدقاء والأعداء . ويتساوى الأغنياء والفقراء . .
( كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله ) . .
حسبة لله . وتعاملا مباشرا معه . لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم . ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة . ولا تعاملا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية . ولكن شهادة لله ، وتعاملا مع الله . وتجردا من كل ميل ، ومن كل هوى ، ومن كل مصلحة ، ومن كل اعتبار .
( ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) . .
وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها ، وفي وجه عواطفها ، تجاه ذاتها أولا ، وتجاه الوالدين والأقربين ثانيا . . وهي محاولة شاقة . . أشق كثيرا من نطقها باللسان ، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل . . إن مزاولتها عمليا شيء آخر غير إدركها عقليا . ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعيا . . ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة . لأنها لا بد أن توجد . لا بد ان توجد في الأرض هذه القاعدة . ولا بد أن يقيمها ناس من البشر .
ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية ؛ حين يكون المشهود له أو عليه فقيرا ، تشفق النفس من شهادة الحق ضده ، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه . أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية . وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا ؛ تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته . أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده ! وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع . . والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات ، وحب الوالدين والأقربين .
( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) . .
وهي محاولة شاقة . . ولا نفتأ نكرر أنها محاولة شاقة . . وأن الإسلام حين دفع نفوس المؤمنين - في عالم الواقع - إلى هذه الذروة ، التي تشهد بها تجارب الواقع التي وعاها التاريخ - كان ينشى ء معجزة حقيقية في عالم البشرية . معجزة لا تقع إلا في ظل هذا المنهج الإلهي العظيم القويم .
( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) . .
والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها . . حب الذات هوى . وحب الأهل والأقربين هوى . والعطف على الفقير - في موطن الشهادة والحكم - هوى . ومجاملة الغني هوى . ومضارته هوى . والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن - في موضع الشهادة والحكم - هوى . وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين - في موطن الشهادة والحكم - هوى . . وأهواء شتى الصنوف والألوان . . كلها مما ينهي الله الذين آمنوا عن التأثر بها ، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها .
وأخيرًا يجيء التهديد والإنذار والوعيد من تحريف الشهادة ، والإعراض عن هذا التوجيه فيها . .
وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا . .
ويكفي أن يتذكر المؤمن أن الله خبير بما يعمل ، ليستشعر ماذا وراء هذا من تهديد خطير ، يرتجف له كيانه . . فقد كان الله يخاطب بهذا القرآن المؤمنين !
حدث أن عبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - لما بعثه رسول الله [ ص ] يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة ، حسب عهد رسول الله [ ص ] بعد فتح خيبر . . أن حاول اليهود رشوته ليرفق بهم ! فقال لهم : " والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي .
لقد كان - رضي الله عنه - قد تخرج في مدرسة الرسول [ ص ] على المنهج الرباني المنفرد . وكان إنسانا من البشر خاض هذه التجربة الشاقة ونجح ؛ وحقق - كما حقق الكثيرون غيره في ظل ذلك المنهج - تلك المعجزة التي لا تقع إلا في ظل ذلك المنهج !
ولقد مضت القرون تلو القرون بعد تلك الفترة العجيبة ؛ وحفلت المكتبات بكتب الفقه والقانون ؛ وحفلت الحياة بالتنظيمات والتشكيلات القضائية ؛ وضبط الإجراءات والشكليات التنظيمية . وامتلأت الرؤوس بالكلام عن العدالة ؛ وامتلأت الأفواه بالحديث عن إجراءاتها الطويلة . . ووجدت نظريات وهيئات وتشكيلات منوعة لضبط هذا كله . .
ولكن التذوق الحقيقي لمعنى العدالة ؛ والتحقق الواقعي لهذا المعنى في ضمائر الناس وفي حياتهم ؛ والوصول إلى هذه الذروة السامقة الوضيئة . . لم يقع إلا في ذلك المنهج . . في تلك الفترة العجيبة في ذروة القمة . . وبعدها على مدار التاريخ في الأرض التي قام فيها الإسلام . وفي القلوب التي عمرت بهذه العقيدة . وفي الجماعات والأفراد التي تخرجت على هذا المنهج الفريد .
وهذه حقيقة ينبغي أن يتنبه إليها الذين يؤخذون بالتشكيلات القضائية التي جدت ؛ وبالإجراءات القضائية التي استحدثت ؛ وبالأنظمة والاوضاع القضائية التي نمت وتعقدت . فيحسبون أن هذا كله أقمن بتحقيق العدالة وأضمن مما كان في تلك الإجراءات البسيطة في تلك الفترة الفريدة ! في تلك القرون البعيدة ! وأن الأمور اليوم أضبط وأحكم مما كانت على صورتها البسيطة !
هذا وهم تنشئه الأشكال والأحجام في تصورات من لا يدركون حقائق الأشياء والأوضاع . . إن المنهج الرباني وحده هو الذي يبلغ بالناس ما بلغ على بساطة الأشكال وبساطة الأوضاع . . وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالناس هذا المستوى على ما استحدث من الأشكال والأوضاع !
وليس معنى هذا أن نلغي التنظيمات القضائية الجديدة . ولكن معناه أن نعرف أن القيمة ليست للتنظيمات . ولكن للروح التي وراءها . أيا كان شكلها وحجمها وزمانها ومكانها . . والفضل للأفضل بغض النظر عن الزمان والمكان ! ! !
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط ، أي بالعدل ، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله{[8464]} لومة لائم ، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه .
وقوله : { شُهَدَاءَ لِلَّهِ } كَمَا قَالَ { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي : ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا ، خالية من التحريف والتبديل والكتمان ؛ ولهذا قال : { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي : اشهد الحق{[8465]} ولو عاد ضررها عليك وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه ، وإن كان مَضرة عليك ، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه .
وقوله : { أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } أي : وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك ، فلا تُراعهم فيها ، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم ، فإن الحق حاكم على كل أحد ، وهو مقدم على كل أحد .
وقوله : { إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } أي : لا ترعاه{[8466]} لغناه ، ولا تشفق عليه لفقره ، الله يتولاهما ، بل هو أولى بهما منك ، وأعلم بما فيه صلاحهما .
وقوله { فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } أي : فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغْضَة الناس إليكم ، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ، كما قال تعالى : { ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ]
ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة ، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم ، فأرادوا أن يُرْشُوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حُبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم . فقالوا : " بهذا قامت السماوات والأرض " . وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة ، إن شاء الله [ تعالى ]{[8467]} .
وقوله : { وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا } قال مجاهد وغير واحد من السلف : { تَلْوُوا } أي : تحرفوا الشهادة وتغيروها ، " واللّي " هو : التحريف وتعمد الكذب ، قال الله تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ] {[8468]} } [ آل عمران : 78 ] . و " الإعراض " هو : كتمان الشهادة وتركها ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها " . ولهذا توعدهم الله بقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } أي : وسيجازيكم بذلك .
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته . { شهداء لله } بالحق تقيمون شهاداتكم لوجه الله سبحانه وتعالى ، وهو خبر ثان أو حال . { ولو على أنفسكم } ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن تقروا عليها ، لأن الشهادة بيان للحق سواء كان عليه أو على غيره . { أو الوالدين والأقربين } ولو على والديكم وأقاربكم . { إن يكن } أي المشهود عليه أو كل واحد منه ومن المشهود له . { غنيا أو فقيرا } فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة ، أو لا تجوروا فيها ميلا أو ترحما . { فالله أولى بهما } بالغني والفقير وبالنظر لهما فلو لم تكن الشهادة عليهما أو لهما صلاحا لما شرعها ، وهو علة الجواب أقيمت مقامه والضمير في بهما راجع لما دل عليه المذكور ، وهو جنسا الغني والفقير لا إليه وإلا لوحد ، ويشهد عليه أنه " قرئ فالله أولى بهم " . { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } لأن تعدلوا عن الحق أو كراهة أن تعدلوا من العدل . { وإن تلووا } ألسنتكم عن شهادة الحق ، أو حكومة العدل . قرأه نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإسكان اللام وبعدها وأوان الأولى مضمومة ، والثانية ساكنة . وقرأ حمزة وابن عامر " وإن تلوا " بمعنى وإن وليتم إقامة الشهادة فأديتموها . { أو تعرضوا } عن آدائها . { فإن الله كان بما تعملون خبيرا } فيجازيكم عليه .
ثم خاطب تعالى المؤمنين بقوله { كونوا قوامين } الآية ، وهذا بناء مبالغة ، أي ليتكرر منكم القيام . { بالقسط } وهو العدل ، وقوله { شهداء } نصب على خبر بعد خبر والحال فيه ضعيفة في المعنى ، لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط ، قوله { لله } المعنى لذات الله ولوجهه ولمرضاته ، وقوله { ولو على أنفسكم } متعلق ب { شهداء }{[4326]} هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس ، وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق ، ويحتمل أن يكون قوله { شهداء لله } معناه بالوحدانية ، ويتعلق قوله { ولو على أنفسكم } ب { قوامين بالقسط } ، والتأويل الأول أبين ، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقائق وقوله الحق في كل أمر ، وقيامه بالقسط عليها كذلك ، ثم ذكر { الوالدين } لوجوب برهما وعظم قدرهما ، ثم ثنى ب { الأقربين } إذ هم مظنة المودة والتعصب ، فجاء الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه ، وهذه الآية إنما تضمنت الشهادة على القرابة ، فلا معنى للتفقه منها في الشهادة لهم كما فعل بعض المفسرين ولا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية ، وقوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } معناه : إن يكن المشهود عليه غنياً فلا يراعى لغناه ، ولا يخاف منه ، وإن يكن فقيراً فلا يراعى إشفاقاً عليه فإن الله تعالى أولى بالنوعين وأهل الحالين ، والغني والفقير اسما جنس والمشهود عليه كذلك ، فلذلك ثنى الضمير في قوله { بهما } ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «فالله أولى بهم » على الجمع ، وقال الطبري : ثنى الضمير لأن المعنى فالله أولى بهذين المعنيين ، غنى الغني وفقر الفقير ، أي : وهو أنظر فيهما ، وقد حد حدوداً وجعل لكل ذي حق حقه ، وقال قوم { أو } بمعنى الواو ، وفي هذا ضعف .
وذكر السدي : أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ، اختصم إليه غني وفقير ، فكان في ضلع الفقيرعلما منه أن الغني أحرى أن يظلم الفقير ، فأبى إلا أن يقوم بالقسط بين الغني والفقير .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وارتبط هذا الأمر على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «فأقضي له على نحو ما أسمع »{[4327]} أما أنه قد أبيح للحاكم أن يكون في ضلع الضعيف{[4328]} ، بأن يعتد له المقالات ويشد على عضده ، ويقول له : قل حجتك مدلاً ، وينبهه تنبيهاً لا يفت في عضد الآخر ، ولا يكون تعليم خصام ، هكذا هي الرواية عن أشهب وغيره .
وذكر الطبري : أن هذه الآية هي بسبب نازلة طعمة بن أبيرق ، وقيام من قام في أمره بغير القسط ، وقوله تعالى : { فلا تتبعوا الهوى } نهي بيِّن ، واتباع الهوى مردٍ مهلك ، وقوله تعالى : { أن تعدلوا } يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا ، ويكون لعدل هنا بمعنى العدول عن الحق ، ويحتمل أن يكون معناه محبة أن تعدلوا ، ويكون العدل بمعنى القسط ، كأنه قال : انتهوا خوف أن تجوروا أو محبة أن تقسطوا ، فإن جعلت العامل { تتبعوا } فيحتمل أن يكون المعنى محبة أن تجوروا ، وقوله تعالى : { وأن تلووا أو تعرضوا } قال ابن عباس : هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر فاللّي على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنقاذه للذي يميل القاضي عليه ، وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك ، والله حسيب الكل ، وقال ابن عباس أيضاً ، ومجاهد ، وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم : هي في الشاهد يلوي الشهادة بلسانه ويحرفها ، فلا يقول الحق فيها ، أو يعرض عن أداء الحق فيها .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة والتوسط بين الناس ، وكل إنسان مأخوذ بأن يعدل ، والخصوم مطلوبون بعدل ما في القضاة فتأمله . وقرأ جمهور الناس «تلووا » بواوين من لوى يلوي على حسب ما فسرناه ، وقرأ حمزة وابن عامر وجماعة في الشاذ «وأن تلُو » بضم اللام وواو واحدة ، وذلك يحتمل أن يكون أصله «تلئوا » على القراءة الأولى ، همزت الواو المضمومة كما همزت في أدؤر ، وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء «لوى » ثم حذفت لاجتماع ساكنين ، ويحتمل أن تكون «تلوا » من قولك ولي الرجل الأمر ، فيكون في الطرف الآخر من { تعرضوا } كأنه قال تعالى للشهود وغيرهم : وإن وليتم الأمر وأعرضتم عنه فالله تعالى خبير بفعلكم ومقصدكم فيه ، فالولاية والإعراض طرفان ، والليّ والإعراض في طريق واحد ، وباقي الآية وعيد .