قوله تعالى : { لقوم يؤمنون هل ينظرون } أي : هل ينتظرون .
قوله تعالى : { إلا تأويله } قال مجاهد : جزاءه ، وقال السدي : عاقبته ، ومعناه : هل ينتظرون إلا ما يؤول إليه أمرهم ، من العذاب ومصيرهم إلى النار .
قوله تعالى : { يوم يأتي تأويله } أي جزاؤه وما يؤول إليه أمرهم .
قوله تعالى : { يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } ، اعترفوا به حين لا ينفعهم الاعتراف .
قوله تعالى : { فهل لنا } اليوم .
قوله تعالى : { من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد } ، إلى الدنيا .
قوله تعالى : { فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم } ، أهلكوها بالعذاب .
ولهذا قال : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ } أي : وقوع ما أخبر به كما قال يوسف عليه السلام حين وقعت رؤياه : { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ }
{ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ } متندمين متأسفين على ما مضى منهم ، متشفعين في مغفرة ذنوبهم . مقرين بما أخبرت به الرسل : { قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ } إلى الدنيا { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } وقد فات الوقت عن الرجوع إلى الدنيا . { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }
وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ، ليعملوا غير عملهم كذب منهم ، مقصودهم به ، دفع ما حل بهم ، قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
{ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } حين فوتوها الأرباح ، وسلكوا بها سبيل الهلاك ، وليس ذلك كخسران الأموال والأثاث أو الأولاد ، إنما هذا خسران لا جبران لمصابه ، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } في الدنيا مما تمنيهم أنفسهم به ، ويعدهم به الشيطان ، قدموا على ما لم يكن لهم في حساب ، وتبين لهم باطلهم وضلالهم ، وصدق ما جاءتهم به الرسل
ثم بين - سبحانه - عاقبة هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن الذي أنزله الله هداية ورحمة فقال : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } .
النظر هنا بمعنى الانتظار والتوقع لا بمعنى الرؤية . فالمراد بينظرون : ينتظرون ويتوقعون ، وتأويل الشىء : مرجعه ومصيره الذي يئول إليه ذلك الشىء والاستفهام بمعنى النفى .
والمعنى : إن هؤلاء المشركين ليس أمامهم شىء ينتظرونه بعد أن أصروا على شركهم إلا ما يئول إليه أمر هذا الكتاب وما تتجلى عنه عاقبته ، من تبين صدقه ، وظهور صحة ما أخبر به من الوعد والوعيد والبعث والحساب ، وانتصار المؤمنين به واندحار المعرضين عنه .
فإن قيل : كيف ينتظرون ذلك مع كفرهم به ؟
فالجواب : أنهم قبل وقوع ما هو محقق الوقوع ، صاروا كالمنتظرين له ، لأن كل آت قريب ، فهم على شرف ملاقاة ما وعدوا به ، وسينزل بهم لا محالة .
ثم بين - سبحانه - حالهم يوم الحساب فقال : { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } .
أى : يوم يأتى يوم القيامة الذي أخبر عنه القرآن ، والذى يقف الناس فيه أمام خالقهم للحساب ، يقول هؤلاء الكافرون الذين جحدوا هذا اليوم عندما تكشف لهم الحقائق ، { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق } وتبين صدقهم ولكننا نحن الذين كذبناهم وسرنا في طريق الضلال ، { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } في هذه الساعة العصبية ويدفعوا عنا ما نحن فيه من كرب وبلاء ، أو نرد إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا غير الذي كنا نعمله من الجحود واللهو واللعب .
أى : أنه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين ، وهو أن يشفع لنا شفيع فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب ، أو يردنا الله إلى الدنيا حتى نعمل غير ما كنا نعمل .
فالجملة الكريمة تصور حسرتهم يوم القيامة تصويرا يهز المشاعر ، ويحمل العقلاء على الإيمان والعمل الصالح .
والاستفهام في قوله : { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ } للتمنى والتحسر ، ومن مزيدة للاستغراق والتأكيد وشفعاء مبتدأ مؤخر ولنا خبر مقدم .
ثم بين - سبحانه - نهايتهم فقال : { قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .
أى : قد خسر هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا أنفسهم ، بسبب إشراكهم بالله ، وذهب عنهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من أن أصنامهم ستشفع لهم يوم الجزاء ، وأيقنوا أنهم كانوا كاذبين في دعواهم .
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
ثم إذا صوت البشر عامة يتوارى ، لينطق رب العزة والجلالة ، وصاحب الملك والحكم :
( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا . وما كانوا بآياتنا يجحدون . ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ، هدى ورحمة لقوم يؤمنون . هل ينظرون إلا تأويله ؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل : قد جاءت رسل ربنا بالحق ، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل . قد خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . .
وهكذا تتوالى صفحات المشهد جيئة وذهوباً . . لمحة في الآخرة ولمحة في الدنيا . لمحة مع المعذبين في النار ، المنسيين كما نسوا لقاء يومهم هذا وكما جحدوا بآيات الله ، وقد جاءهم بها كتاب مفصل مبين . فصله الله - سبحانه - على علم - فتركوه واتبعوا الأهواء والأوهام والظنون . . ولمحة معهم - وهم بعد في الدنيا - ينتظرون مآل هذا الكتاب وعاقبة ما جاءهم فيه من النذير ؛ وهم يُحذّرون أن يجيئهم هذا المآل . فالمآل هو مايرون في هذا المشهد من واقع الحال !
إنها خفقات عجيبة في صفحات المشهد المعروض ؛ لا يجليها هكذا إلا هذا الكتاب العجيب !
وهكذا ينتهي ذلك الاستعراض الكبير ؛ ويجيء التعقيب عليه متناسقاً مع الابتداء . تذكيراً بهذا اليوم ومشاهده ، وتحذيراً من التكذيب بآيات الله ورسله ، ومن انتظار تأويل هذا الكتاب فهذا هو تأويله ، حيث لا فسحة لتوبة ، ولا شفاعة في الشدة ، ولا رجعة للعمل مرة أخرى .
نعم . . هكذا ينتهي الاستعراض العجيب . فنفيق منه كما نفيق من مشهد أخاذ كنا نراه .
ونعود منه إلى هذه الدنيا التي فيها نحن ! وقد قطعنا رحلة طويلة طويلة في الذهاب والمجيء !
إنها رحلة الحياة كلها ، ورحلة الحشر والحساب والجزاء بعدها . . ومن قبل كنا مع البشرية في نشأتها الأولى ، وفي هبوطها إلى الأرض وسيرها فيها !
وهكذا يرتاد القرآن الكريم بقلوب البشر هذه الآماد والأكوان والأزمان . يريها ما كان وما هو كائن وما سيكون . . كله في لمحات . . لعلها تتذكر ، ولعلها تسمع للنذير :
( كتاب أنزل إليك ، فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين . اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ، ولا تتبعوا من دونه أولياء ، قليلاً ما تذكرون ) . .
أي : ما وُعِدَ من العذاب والنكال والجنة والنار . قاله مجاهد وغير واحد .
وقال مالك : ثوابه . وقال الربيع : لا يزال يجيء تأويله أمر ، حتى يتم يوم الحساب ، حتى يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فيتم تأويله يومئذ .
{ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } أي : يوم القيامة ، قاله ابن عباس - { يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ } أي : تركوا العمل به ، وتناسوه في الدار الدنيا : { قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا } أي : في خلاصنا مما نحن فيه ، { أَوْ نُرَدُّ } إلى الدار الدنيا { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } كما قال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 27 ، 28 ] كما قال هاهنا : { قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : [ قد ]{[11810]} خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيه ، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا ينصرونهم ، ولا يشفعون لهم{[11811]} ولا ينقذونهم مما هم فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ فَهَل لّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذّبون بآيات الله ويجحدون لقاءه ، إلاّ تأويله ؟ يقول : إلاّ ما يئول إليه أمرهم من ورودهم على عذاب الله ، وصليّهم جحيمه ، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به . وقد بيّنا معنى التأويل فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْويلَهُ : أي ثوابه يَوْمَ يَأْتي تَأْوِيلُهُ أي ثوابه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ قال : تأويله : عاقبته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ قال : جزاءه ، يَوْمَ يَأْتي تَأْوِيلُهُ قال : جزاؤه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : هَلْ يَنْظُرُون إلاّ تَأْوِيلَهُ أما تأويله : فعواقبه مثل وقعة بدر ، والقيامة ، وما وعد فيه من موعد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتي تَأْويلُهُ يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ فلا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتمّ تأويله يوم القيامة ، ففي ذلك أنزل : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ حيث أثاب الله تبارك وتعالى أولياءه وأعداءه ثواب أعمالهم ، يَقُولُ يومئذ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ . . . الاَية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتي تَأْويلُهُ قال : يوم القيامة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَوْمَ يَأْتي تَأْوِيلُهُ قال : يأتي تحقيقه . وقرأ قول الله تعالى : هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قال : هذا تحقيقها . وقرأ قول الله : وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاّ اللّهُ قال : ما يعلم حقيقته ومتى يأتي إلاّ الله تعالى .
وأما قوله : يَوْمَ يَأْتي تَأْويلُهُ يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ فإن معناه : يوم يجيء ما يئول إليه أمرهم من عقاب الله ، يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ : أي يقول الذين ضيعوا وتركوا ما أمروا به من العمل المنجيهم مما آل إليه أمرهم يومئذٍ من العذاب من قبل ذلك في الدنيا : لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ أقسم المساكين حين عاينوا البلاء وحلّ بهم العقاب أنّ رسل الله التي أتتهم بالنذارة وبلغتهم عن الله الرسالة ، قد كانت نصحت لهم وصَدَقتهم عن الله ، وذلك حين لا ينفعهم التصديق ولا ينجيهم من سخط الله وأليم عقابه كثرة القيل والقال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يقول الّذِينَ نَسُوهُ منْ قَبْلُ قَدْ جاءَت رسُلُ رَبّنا بالحَقّ أما الذين نسوه فتركوه ، فلما رأوا ما وعدهم أنبياؤهم استيقنوا فقالوا : قد جاءت رسل ربنا بالحقّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ قال : أعرضوا عنه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أوْ نُرَدّ فَنَعْمَلَ غيرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم أنهم يقولون عند حلول سخط الله بهم وورودهم أليم عذابه ومعاينتهم تأويل ما كانت رسل الله تعدهم : هل لنا من أصدقاء وأولياء اليوم ، فيشفعوا لنا عند ربنا ، فتنجينا شفاعتهم عنده مما قد حلّ بنا من سوء فعالنا في الدنيا ، أو نردّ إلى الدنيا مرّة أخرى ، فنعمل فيها بما يرضيه ويعتبه من أنفسنا ؟ قال : هذا القول المساكين هنالك ، لأنهم كانوا عهدوا في الدنيا أنفسهم لها شفعاء تشفع لهم في حاجاتهم ، فيذكروا ذلك في وقت لا خلة فيه لهم ولا شفاعة ، يقول الله جلّ ثناؤه : قَدْ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ يقول : غبنوا أنفسهم حظوظها ببيعهم ما لا خطر له من نعيم الاَخرة الدائم بالخسيس من عرض الدنيا الزائل ، وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ يقول : وأسلمهم لعذاب الله ، وحاد عنهم أولياؤهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ، ويزعمون كذبا وافتراء أنهم أربابهم من دون الله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : قَدْ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ يقول : شروْها بخسران .
وإنما رفع قوله أوْ نُرَدّ ولم ينصب عطفا على قوله : فَيَشْفَعُوا لَنا لأن المعنى : هل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ، أو هل نردّ فنعمل غير الذي كنا نعمل . ولم يرد به العطف على قوله فَيَشْفَعُوا لَنا .
جملة { هل ينظرون إلا تأويله } مستأنفة استينافاً بيانياً ، لأنّ قوله : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون } يثير سؤال من يسأل : فماذا يؤخّرهم عن التّصديق بهذا الكتاب الموصوف بتلك الصّفات ؟ وهل أعظم منه آية على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم فكان قوله : { هل ينظرون } كالجواب عن هذا السّؤال ، الذي يجيش في نفس السّامع . والاستفهام إنكاري ولذلك جاء بعده الاستثناء .
ومعنى { ينظرون } ينتظرون من النّظرة بمعنى الانتظار ، والاستثناء من عموم الأشياء المنتظرات ، والمراد المنتَظرات من هذا النّوع وهو الآيات ، أي ما ينتظرون آية أعظم إلاّ تأويل الكتاب ، أي إلاّ ظهور ما تَوَعدَّهم به ، وإطلاق الانتظار هنا استعارة تهكميّة : شبه حال تمهّلهم إلى الوقت الذي سيحلّ عليهم فيه ما أوعدهم به القرآن بحال المنتظرين ، وهم ليسوا بمنتظرين ذلك إذ هم جاحدون وقوعه ، وهذا مثل قوله تعالى : { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة } [ محمد : 18 ] وقوله { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } [ يونس : 102 ] والاستثناء على حقيقته وليس من تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه لأنّ المجاز في فعل { ينظرون } فقط .
والقصر إضافي ، أي بالنّسبة إلى غير ذلك من أغراض نسيانهم وجحودهم بالآيات ، وقد مضى القول في نظير هذا التّركيب عند قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } في سورة الأنعام ( 158 ) .
والتّأويل توضيحُ وتفسير ما خفي ، من مقصد كلام أوْ فعل ، وتحقيقه ، قال تعالى : { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } [ الكهف : 78 ] وقال : { هذا تأويل رؤياي من قبل } [ يوسف : 100 ] وقال : { ذلك خير وأحسن تأويلاً } [ النساء : 59 ] وقد تقدّم اشتقاقه ومعناه في المقدّمة الأولى من مقدّمات هذا التّفسير . وضمير { تأويله } عائد إلى ( كتابٍ ) من قوله : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } [ الأعراف : 52 ] .
وتأويله وضوح معنى ما عَدّوه محالا وكذباً ، من البعث والجزاء ورسالة رسول من الله تعالى ووحدانية الإله والعقاب ، فذلك تأويل ما جاء به الكتاب أي تحقيقه ووضوحه بالمشاهدة ، وما بعد العّيان بيان .
وقد بيّنتْه جملة { يوم يأتي تأويله يقول } إلخ ، فلذلك فصلت ، لأنّها تتنزل من التي قبلها منزّلة البيان للمراد من تأويله ، وهو التأويل الذي سيظهر يوم القيامة ، فالمراد باليوم يوم القيامة ، بدليل تعلّقه بقوله : { يقول الذين نسوه من قبل } الآية فإنّهم لا يعلمون ذلك ولا يقولونه إلاّ يوم القيامة . وإتيان تأويله مجازٌ في ظهوره وتبيّنِه بعلاقة لزوم ذلك للإتيان . والتّأويل مراد به ما به ظهور الأشياء الدّالة على صدق القرآن . فيما أخبرهم وما توعّدهم .
و { الذين نسوه } هم المشركون ، وهم معاد ضمير { ينظرون } فكان مقتضى الظّاهر أن يقال : يقُولون ، إلاّ أنّه أظهر بالموصولية لقصد التّسجيل عليهم بأنّهم نسُوه وأعرضوا عنه وأنكروه ، تسجيلاً مراداً به التّنبيه على خطئِهم والنَّعي عليهم بأنّهم يجرّون بإعراضهم سوء العاقبه لأنفسهم .
والنّسيان مستعمل في الإعراض والصدّ ، كما تقدّم في قوله : { كما نسوا لقاء يومهم هذا } [ الأعراف : 51 ]
والمضاف إليه المقدّرُ المنبيء عنه بناءُ ( قبلُ ) على الضم : هو التّأويلُ ، أو اليوم ، أي من قبل تأويله ، أو من قبل ذلك اليوم ، أي في الدّنيا . والقول هنا كناية عن العلم والاعتقاد ، لأنّ الأصل في الأخبار مطابقتها لاعتقاد المخبر ، أي يتبيّن لهم الحقّ ويصرّحون به .
وهذا القول يقوله بعضهم لبعض اعترافاً بخطئهم في تكذيبهم الرّسول صلى الله عليه وسلم وما أخبر به عن الرّسل من قبله ، ولذلك جمع الرّسل هنا ، مع أنّ الحديث عن المكذّبين محمّداً صلى الله عليه وسلم وذلك لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم الأمثال بالرّسل السابقين ، وهم لما كذّبوه جرَّأهم تكذيبه على إنكار بعثة الرّسل إذ قالوا { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] أو لأنّهم مشاهدون يومئذ ما هو عقاب الأمم السّابقة على تكذيب رسلهم ، فيصدر عنهم ذلك القول عن تأثّر بجميع ما شاهدوه من التّهديد الشّامل لهم ولمن عداهم من الأمم .
وقولهم : { قد جاءت رسل ربنا بالحق } خبر مستعمل في الإقرار بخطَئهم في تكذيب الرّسل ، وإنشاء للحسرة على ذلك ، وإبداء الحيرة فيما ذا يَصْنعون . ولذلك رتّبوا عليه وفرعوا بالفاء قولهم : { فهل لنا من شفعاء } إلى آخره .
والاستفهام يجوز أن يكون حقيقياً يقوله بعضهم لبعض ، لَعلّ أحدهم يرشدهم إلى مخلص لهم من تلك الورطة ، وهذا القول يقولونه في ابتداء رؤية ما يهدّدهم قبل أن يوقنوا بانتفاء الشّفعاء المحكي عنهم في قوله تعالى : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } [ الشعراء : 100 ، 101 ] ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملاً في التّمني ، ويجوز أن يكون مستعملاً في النّفي . على معنى التّحسّر والتّندم . و { من } زائدة للتّوكيد . على جميع التّقادير . فتفيد توكيد العموم في المستفهم عنه ، ليفيد أنّهم لا يسألون عمن توهموهم شفعاء من أصنامهم ، إذ قد يئسوا منهم . كما قال تعالى : { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } [ الأعراف : 94 ] بل هم يتساءلون عن أي شفيع يشفع لهم . ولو يكون الرّسول عليه الصّلاة والسّلام الذي ناصبوه العَداء في الحياة الدّنيا . ونظيره قوله تعالى في سورة المؤمن ( 11 ) { فهل إلى خروج من سبيل . } وانتصب { فيشفعوا } على جواب الاستفهام ، أو التّمنّي ، أو النّفي .
« والشفعاء » جمع شفيع وهو الذي يسعى بالشّفاعة ، وهم يُسمّون أصنامهم شفعاء قال تعالى : { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] .
وتقدّم معنى الشّفاعة عند قوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة } في سورة البقرة ( 48 ) . وعند قوله : { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } في سورة البقرة ( 254 ) وعند قوله : { من يشفع شفاعة حسنة } في سورة النّساء ( 85 ) .
وعطف فعل { نرد } ب ( أو ) على مدخول الاستفهام ، فيكون الاستفهام عن أحد الأمرين ، لأنّ أحدهما لا يجتمع مع الآخر ، فإذا حصلت الشّفاعة فلا حاجة إلى الردّ ، وإذا حصل الردّ استغني عن الشّفاعة .
وإذ كانت جملة { لنا من شفعاء } واقعة في حيز الاستفهام ، فالتي عطفت عليها تكون واقعة في حيز الاستفهام ، فلذلك تعين رفع الفعل المضارع في القراءات المشهورة ، ورفعه بتجّرده عن عامل النّصب وعامل الجزم ، فوقع موقع الاسم كما قدّره الزمخشري تبعاً للفراء ، فهو مرفوع بنفسه من غير احتياج إلى تأويل الجملة التي قبله ، بردّها إلى جملة فعليّة ، بتقدير : هل يشفع لنا شفعاء كما قدّره الزّجاج ، لعدم المُلجىء إلى ذلك ، ولذلك انتصب : { فنعمل } في جواب { نرد } كما انتصب { فيشفعوا } في جواب { فهل لنا من شفعاء } .
والمراد بالعمل في قولهم : { فنعمل } ما يشمل الاعتقاد ، وهو الأهم ، مثل اعتقاد الوحدانيّه والبعث وتصديق الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، لأنّ الاعتقاد عمل القلب ، ولأنّه تترتّب عليه آثار عمليّة ، من أقوال وأفعال وامتثال . والمراد بالصّلة في قوله : { الذي كنا نعمل } ما كانوا يعملونه من أمور الدين بقرينة سياق قولهم : { قد جاءت رسل ربنا بالحق } أي فنعمل ما يغاير ما صممنا عليه بعد مجيء الرّسول عليه الصّلاة والسّلام .
وجملة : { قد خسروا أنفسهم } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تذييلاً وخلاصة لقصّتهم ، أي فكان حاصل أمرهم أنّهم خسروا أنفسهم من الآن وضلّ عنهم ما كانوا يفترون .
والخسارة مستعارة لعدم الانتفاع بما يرجى منه النّفع ، وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } في سورة الأنعام ، ( 12 ) وقوله : { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } في أوّل هذه السّورة ( 9 ) . والمعنى : أنّ ما أقحموا فيه نفوسهم من الشّرك والتّكذيب قد تبيّن أنّه مفض بهم إلى تحقّق الوعيد فيهم ، يوم يأتي تأويل ما توعّدهم به القرآن ، فبذلك تحقّق أنّهم خسروا أنفسهم من الآن ، وإن كانوا لا يشعرون .
وأما قوله : وضل عنهم ما كانوا يفترون } فالضّلال مستعار للعدم طريقة التّهكّم شبه عدم شفعائهم المزعومين بضلال الإبل عن أربابها تهكّماً عليهم ، وهذا التّهكّم منظور فيه إلى محاكاة ظنّهم يوم القيامة المحكي عنهم في قوله قبل { قالوا ضلوا عنا } [ الأعراف : 37 ] .
و ( مَا ) من قوله : { ما كانوا يفترون } موصولة ، ما صْدَقها الشّفعاء الذين كانوا يدعونهم من دون الله . وحُذف عائد الصّلة المنصوب ، أي ما كانوا يفترونه ، أي يَكْذِبونه إذ يقولون { هؤلاء شفعاؤنا } [ يونس : 18 ] ، وهم جماد لاحظَّ لهم في شؤون العقلاء حتى يشفعوا ، فهم قد ضلوا عنهم من الآن ولذلك عبّر بالمضي لأنّ الضّلال المستعار للعدم متحقّق من ماضي الأزمنة .