قوله تعالى : { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً } ، تستظلون بها من شدة الحر ، وهي ظلال الأبنية والأشجار ، { وجعل لكم من الجبال أكنانا } ، يعني : الأسراب ، والغيران ، واحدهما كن ، { وجعل لكم سرابيل } ، قمصاً من الكتان والقز ، والصوف ، { تقيكم } ، تمنعكم { الحر } ، قال أهل المعاني : أراد الحر والبرد ؛ فاكتفى بذكر أحدهما لدلالة الكلام عليه . { وسرابيل : تقيكم بأسكم } ، يعني : الدروع ، والبأس : الحرب ، يعني : تقيكم في بأسكم السلاح أن يصيبكم . { كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } ، تخلصون له الطاعة . قال عطاء الخرساني : إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم ، فقال : وجعل لكم من الجبال أكناناً ، وما جعل لهم من السهول أكثر وأعظم ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال كما قال : { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } ؛ لأنهم كانوا أصحاب وبر ، وشعر ، وكما قال : { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } [ النور – 43 ] ، وما أنزل من الثلج أكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفون الثلج . وقال : { تقيكم الحر } ، وما تقي من البرد أكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب حر .
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ } ، أي : من مخلوقاته التي لا صنعة لكم فيها ، { ظِلَالًا } ، وذلك كأظلة الأشجار والجبال والآكام ونحوها ، { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } أي : مغارات تكنكم من الحر والبرد والأمطار والأعداء .
{ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } ، أي : ألبسة وثيابا ، { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ، ولم يذكر الله البرد ؛ لأنه قد تقدم أن هذه السورة أولها في أصول النعم ، وآخرها في مكملاتها ومتمماتها ، ووقاية البرد من أصول النعم ، فإنه من الضرورة ، وقد ذكره في أولها في قوله { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } .
{ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، أي : وثيابا تقيكم وقت البأس والحرب من السلاح ، وذلك كالدروع والزرد ونحوها ، كذلك يتم نعمته عليكم ، حيث أسبغ عليكم من نعمه ما لا يدخل تحت الحصر ، { لَعَلَّكُمْ } إذا ذكرتم نعمة الله ورأيتموها غامرة لكم من كل وجه ، { تُسْلِمُونَ } لعظمته وتنقادون لأمره ، وتصرفونها في طاعة موليها ومسديها ، فكثرة النعم من الأسباب الجالبة من العباد مزيد الشكر ، والثناء بها على الله تعالى ، ولكن أبى الظالمون إلا تمردا وعنادا .
وبعد الحديث عن نعمة البيوت والأنعام جاء الحديث عن نعمة الظلال والجبال واللباس ، فقال - تعالى - : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً . . . } .
والظلال : جمع ظل ، وهو ما يستظل به الإِنسان . أي : والله - تعالى - بفضله وكرمه جعل لكم ما تستظلون به من شدة الحر والبرد ، كالأبنية والأشجار ، وغير ذلك من الأشياء التي تستظلون بها . وقوله - تعالى - { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً . . . } نعمة ثانية ، والأكنان جمع كِن - بكسر الكاف - وأصله السُّتْرَةُ ، والجمع : أكنان وأَكِنَّة ، ومنه قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ . . . } ، أي : في أستار وأغطية فلا يصل إليها قولك . . .
والمراد بالأكنان هنا : المغارات والأسراب والكهوف المنحوتة في بطون الجبال . أي : وجعل لكم - سبحانه - من الجبال مواضع تستترون فيها من الحر أو البرد أو المطر ، أو غير ذلك من وجوه انتفاعكم بتلك الأكنان .
وقوله - سبحانه - : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } نعمة ثالثة . والسرابيل : جمع سربال ، وهي كل ما يتسربل به : أي : يلبسها الناس للتستر والوقاية كالقمصان والثياب والدروع وغيرها . أي : وجعل لكم من فضله وكرمه ملابس تتقون بها ضرر الحر وضرر البرد ، وملابس أخرى هي الدروع وما يشبهها - تتقون بها الضربات والطعنات التي تسدد إليكم في حالة الحرب .
وقال - سبحانه - : { تقيكم الحر } ، مع أنها تقي من الحر والبرد ، اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر ، أو اكتفى بذكر الحر لأنه الأهم عندهم ، إذ من المعروف أن بلاد العرب يغلب عليها الحر لا البرد .
قال صاحب الكشاف : لم يذكر البرد ؛ لأن الوقاية من الحر أهم عندهم ، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيرا محتملا ، وقيل : ما يقي من الحر يقي من البرد ، فدل ذكر الحر على البرد .
وقال القرطبى : قال العلماء : في قوله - تعالى - : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } ، دليل على اتخاذ الناس عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الأعداء . وقد لبسها النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه . . .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } ، أي : كذلك الإِتمام السابغ للنعم التي أنعم بها - سبحانه - على عباده يتم نعمته عليكم المتمثلة في نعم الدين والدنيا ، لعلكم بذلك تسلمون وجوهكم لله - عز وجل - ، وتدخلون في دين الإِسلام عن اختيار واقتناع ، فإن من شاهد كل هذه النعم ، لم يسعه إلا الدخول في الدين الحق .
ويرق التعبير في جو السكن والطمأنينة ، وهو يشير إلى الظلال والأكنان في الجبال ، وإلى السرابيل تقي في الحر وتقي في الحرب : ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا ، وجعل لكم من الجبال أكنانا ، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ) وللنفس في الظلال استرواح وسكن ، ولها في الأكنان طمأنينة ووسن ، ولها في السرابيل التي تقي الحر من الأردية والأغطية راحة وفي السرابيل التي تقي البأس من الدروع وغيرها وقاية . . وكلها بسبيل من طمأنينة البيوت وأمنها وراحتها وظلها . . ومن ثم يجيء التعقيب : ( كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) والإسلام استسلام وسكن وركون . .
وقوله : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا } ، قال قتادة : يعني : الشجر .
{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } ، أي : حصونا ومعاقل ، كما : { جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ، وهي : الثياب من القطن والكتان والصوف ، { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، كالدروع من الحديد المصفَّح والزَّرد وغير ذلك ، { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } ، أي : هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم ، وما تحتاجون إليه ، ليكون - عونًا لكم على طاعته وعبادته ، { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } ، هكذا فسره الجمهور ، وقرؤوه بكسر اللام من : " تسلمون " ، أي : من الإسلام . وقال قتادة في قوله : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ] }{[16621]} ، هذه السورة تسمى سورة النِّعَم . وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام ، عن حَنْظَلة السدوسي ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها " تَسلَمون " ، بفتح اللام ، يعني : من الجراح{[16622]} . رواه أبو عبيد القاسم بن سلام ، عن عباد ، وأخرجه ابن جرير من الوجهين ، وردَّ هذه القراءة{[16623]} .
وقال عطاء الخراساني : إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } ، وما جعل [ لكم ]{[16624]} من السهل أعظم وأكثر{[16625]} ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال{[16626]} ؟ ألا ترى إلى قوله : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } ، وما جعل لكم من غير ذلك أعظم منه وأكثر{[16627]} ، ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشَعَر ، ألا ترى إلى قوله : { وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } [ النور : 43 ] ، لعجبهم من ذلك ، وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر{[16628]} ، ولكنهم كانوا لا يعرفونه ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ، وما يقي من البرد أعظم وأكثر{[16629]} ، ولكنهم كانوا أصحاب حر .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن نعمة الله عليكم أيها الناس أن جعل لكم مما خلق من الأشجار وغيرها ظلالاً تستظلّون بها من شدّة الحرّ ، وهي جمع ظلّ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، عن قتادة ، في قوله : { مِمّا خَلَقَ ظِلالاً } قال : الشجر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً } ، إي والله ، من الشجر ومن غيرها .
وقوله : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا } يقول : وجعل لكم من الجبال مواضع تسكنون فيها ، وهي جمع كِنّ كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا } ، يقول : غيرانا من الجبال يسكن فيها .
{ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرّ } ، يعني : ثياب القطن والكتان والصوف وقمصها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرّ } ، من القطن والكتان والصوف .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { سَرَابِيلَ تَقِيكُم الحَرّ } ، قال : القطن والكتان .
وقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، يقول : ودروعا تقيكم بأسكم ، والبأس : هو الحرب ، والمعنى : تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، من هذا الحديد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، قال : هي سرابيل من حديد .
وقوله : { كذلكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ } ، يقول تعالى ذكره : كما أعطاكم ربكم هذه الأشياء التي وصفها في هذه الآيات نعمة منه بذلك عليكم ، فكذا يتُمّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون . يقول : لتخضعوا لله بالطاعة ، وتذلّ منكم بتوحيده النفوس ، وتخلصوا له العبادة . وقد رُوِي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «لَعَلّكُمْ تَسْلَمُونَ » ، بفتح التاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن حنظلة ، عن شهر بن حَوْشب ، قال : كان ابن عباس يقول : «لَعَلّكُمْ تَسْلَمُونَ » قال : يعني من الجراح .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن حنظلة السّدوسيّ ، عن شهر بن حَوْشب ، عن ابن عباس ، أنه قرأها : «لَعَلّكُمْ تَسْلَمُونَ » ، من الجرَاحات ، قال أحمد بن يوسف : قال أبو عبيدة : يعني بفتح التاء واللام .
فتأويل الكلام على قراءة ابن عباس هذه : كذلك يتمّ نعمته عليكم بما جعل لكم من السرابيل التي تقيكم بأسكم ، لتسلموا من السلاح في حروبكم . والقراءة التي أستجيز القراءة بخلافها بضم التاء من قوله : { لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ } ، وكسر اللام من أسلمت تُسْلِم يا هذا ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليها .
فإن قال لنا قائل : وكيف جعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ ، فخصّ بالذكر الحرّ دون البرد ، وهي تقي الحرّ والبرد ؟ أم كيف قيل : { وجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا } ، وترك ذكر ما جعل لهم من السهل ؟ قيل له : قد اختُلف في السبب الذي من أجله جاء التنزيل كذلك ، وسنذكر ما قيل في ذلك ثم ندلّ على أولى الأقوال في ذلك بالصواب .
فرُوِي عن عطاء الخراساني في ذلك ما :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، قال : إنما نزل القرآن على قدر معرفتهم ، ألا ترى إلى قول الله تعالى ذكره : { وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا } ، وما جعل لهم من السهول أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال ، ألا ترى إلى قوله : { وَمِنْ أصْوَافِها وأوْبارِها وأشْعارِها أثاثا وَمَتاعا إلى حِينٍ } ؟ وما جعل لهم من غير ذلك أعظم منه وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب وَبَر وشَعَر ألا ترى إلى قوله : { ويُنَزّلُ مِنَ السّماءِ منْ جِبَالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ } ، يعجّبهم من ذلك ؟ وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفون به ، ألا ترى إلى قوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرّ } ، وما تقي من البرد أكثر وأعظم ؟ ولكنهم كانوا أصحاب حرّ .
فالسبب الذي من أجله خصّ الله تعالى ذكرهُ السرابيل بأنها تقي الحرّ دون البرد على هذا القول ، هو أن المخاطبين بذلك كانوا أصحاب حرّ ، فذكر الله تعالى ذكره نعمته عليهم بما يقيهم مكروه ما به عرفوا مكروهه دون ما لم يعرفوا مبلغ مكروهه ، وكذلك ذلك في سائر الأحرف الأُخَر . وقال آخرون : ذكر ذلك خاصة اكتفاء بذكر أحدهما من ذكر الآخر ، إذ كان معلوما عند المخاطبين به معناه ، وأن السرابيل التي تقي الحرّ تقي أيضا البرد ، وقالوا : ذلك موجود في كلام العرب مستعمل ، واستشهدوا لقولهم بقول الشاعر :
وَما أدْرِي إذا يَمّمْتُ وَجْها *** أُريدُ الخَيْرَ أيّهُما يَلِيِني
فقال : أيهما يليني : يريد الخير أو الشرّ ، وإنما ذكر الخير لأنه إذا أراد الخير فهو يتقي الشرّ .
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : إن القوم خوطبوا على قدر معرفتهم ، وإن كان في ذكر بعض ذلك دلالة على ما ترك ذكره لمن عرف المذكور والمتروك ؛ وذلك أن الله تعالى ذكره إنما عدّد نعمه التي أنعمها على الذين قُصدوا بالذكر في هذه السورة دون غيرهم ، فذكر أياديه عندهم .
وقوله : { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر } الآية ، نعم عددها الله عليهم بحسب أحوالهم وبلادهم ، وأنها الأشياء المباشرة لهم ؛ لأن بلادهم من الحرارة وقهر الشمس بحيث للظل غناء عظيم ونفع ظاهر ، وقوله : { مما خلق } ، يعم جميع الأشخاص المظلة ، و «الأكنان » جمع كن ، وهو : الحافظ من المطر والريح وغير ذلك ، و «السرابيل » ، جميع ما يلبس على جميع البدن كالقميص والقرقل ، والمجول والدرع والجوشن والخفتان ونحوه{[7391]} ، وذكر وقاية الحر إذا هو أمس في تلك البلاد على ما ذكرنا ، والبرد فيها معدوم في الأكثر ، وإذا جاء في الشتوات فإنما يتوقى بما هو أكثف من السربال المتقدم الذكر ، فتبقى السرابيل لتوقي الحر فقط ، قاله الطبري عن عطاء الخراساني ، ألا ترى أن الله قد نبههم إلى العبرة في البرد ولم يذكر لهم الثلج ؛ لأنه ليس في بلادهم ، قال ابن عباس : إن الثلج شيء أبيض ينزل من السماء ، ما رأيته قط .
قال القاضي أبو محمد : وأيضاً فذكر أحدهما يدل على الآخر ، ومنه قول الشاعر :
وما أدري إذا يممت أرضاً . . . أريد الخير أيهما يليني{[7392]}
قال القاضي أبو محمد : وهذه التي ذكرناها هي بلاد الحجاز ، وإلا ففي بلاد العرب ما فيه برد شديد ، ومنه قول متمم :
إذ القشع من برد الشتاء تقعقعا . . . . ومنه قول الآخر :
في ليلة من جمادى ذات أندية{[7393]} . . . . البيتين ، وغير هذا ، والسرابيل التي تقي البأس ، هي : الدرع ، ومنه قول كعب بن زهير : [ البسيط ]
شم العرانين أبطال لبوسهمُ . . . من نسج داود في الهيجا سرابيل{[7394]}
ولنعم حشو الدرع والسربال{[7395]} . . . فهذا يراد به القميص ، و «البأس » ، مس الحديد في الحرب ، وقرأ الجمهور : «يتم نعمته » ، وقرأ ابن عباس : «تتم نعمته » ، على أن النعمة هي تتم ، وروي عنه «تتم نعمه » ، على الجمع ، وقرأ الجمهور «تسلمون » من الإسلام ، وقرأ ابن عباس : «تَسلمون » من السلامة ، فتكون اللفظة مخصوصة في بأس الحرب ، وما في «لعل » من الترجي والتوقع فهو في حيز البشر المخاطبين ، أي : لو نظر الناظر هذه الحال لترجى منها إسلامهم .
والقول في نظم { والله جعل لكم } كالقول في نظائره المتقدّمة .
وهذا امتنان بنعمة الإلهام إلى التوقّي من أضرار الحرّ والقُرّ في حالة الانتقال ، أعقبت به المنّة بذلك في حال الإقامة والسكنى ، وبنعمة خلق الأشياء التي يكون بها ذلك التوقّي باستعمال الموجود وصنع مايحتاج إليه الإنسان من اللباس ، إذ خلق الله الظّلال صالحة للتوقّي من حَرّ الشمس ، وخلقَ الكهوف في الجبال ليمكن اللجأ إليها ، وخلق مواد اللباس مع الإلهام إلى صناعة نسجها ، وخلق الحديد لاتّخاذ الدروع للقتال .
و ( من ) في { مما خلق } ابتدائية .
والظلال تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : { يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل } [ سورة النحل : 48 ] آنفاً ، لأن الظلال آثار حجب الأجسام ضوء الشمس من الوقوع على الأرض .
والأكنان : جمع كِنّ بكسر الكاف وهو فعل بمعنى مفعول ، أي مكنون فيه ، وهي الغيران والكهوف .
و ( مِن ) في قوله تعالى : { مما خلق } ، و { من الجبال } ، للتبعيض . كانوا يأوون إلى الكهوف في شدّة حرّ الهجير أو عند اشتداد المطر ، كما ورد في حديث الثلاثة الذين سألوا الله بأفضل أعمالهم في « صحيح البخاري » .
والسّرابيل : جمع سربال ، وهو القميص يقي الجسد حرّ الشمس ، كما يقيه البرد .
وخص الحرّ هنا لأنه أكثر أحوال بلاد المخاطبين في وقت نزولها ، على أنه لما ذكر الدفء في قوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء } [ سورة النحل : 5 ] ذكر ضدّه هنا .
والسّرابيل التي تقي البأس : هي دروع الحديد . ولها من أسماء القميص الدرع ، والسّربال ، والبدن .
والبأس : الشدّة في الحرب . وإضافته إلى الضمير على معنى التوزيع ، أي تقي بعضكم بأس بعض ، كما فسر به قوله تعالى : { ويذيق بعضكم بأس بعض } [ سورة الأنعام : 65 ] ، وقال تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } [ سورة الحديد : 25 ] ، وهو بأس السيوف ، وقوله تعالى : { وعلمناه صنعة لبوس لكم ليحصنكم من بأسكم } [ سورة الأنبياء : 80 ] .
وجملة { كذلك يتم نعمته عليكم } تذييل لما ذكر من النّعم ، والمشار إليه هو ما في النّعم المذكورة من الإتمام ، أو إلى الإتمام المأخوذ من { يتم } .
و ( لعلّ ) للرجاء ، استعملت في معنى الرّغبة ، أي رغبةً في أن تسلموا ، أي تَتّبعوا دين الإسلام الذي يدعوكم إلى ما مآله شكر نعم الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {والله جعل لكم مما خلق ظلالا}، يعني: البيوت والأبنية،
{وجعل لكم من الجبال أكنانا}؛ لتسكنوا فيها، يعني: البيوت والأبنية، {وجعل لكم سرابيل تقيكم}، يعني: القمص تقيكم، {الحر}، يعني: من الكتان، والقطن، والصوف،
{وسرابيل تقيكم بأسكم}، من القتل والجراحات، يعني: درع الحديد بإذن الله عز وجل،
{يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون}، يعني: لكي تسلموا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن نعمة الله عليكم أيها الناس أن جعل لكم مما خلق من الأشجار وغيرها ظلالاً تستظلّون بها من شدّة الحرّ...
وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا} يقول: وجعل لكم من الجبال مواضع تسكنون فيها... عن قتادة، قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا}، يقول: غيرانا من الجبال يسكن فيها.
{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرّ}، يعني: ثياب القطن والكتان والصوف وقمصها... وقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}، يقول: ودروعا تقيكم بأسكم، والبأس: هو الحرب، والمعنى: تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم... عن قتادة: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}، من هذا الحديد...
وقوله: {كذلكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ}، يقول تعالى ذكره: كما أعطاكم ربكم هذه الأشياء التي وصفها في هذه الآيات نعمة منه بذلك عليكم، فكذا يتُمّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون. يقول: لتخضعوا لله بالطاعة، وتذلّ منكم بتوحيده النفوس، وتخلصوا له العبادة...
فإن قال لنا قائل: وكيف جعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ، فخصّ بالذكر الحرّ دون البرد، وهي تقي الحرّ والبرد؟ أم كيف قيل: {وجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا}، وترك ذكر ما جعل لهم من السهل؟ قيل له: قد اختُلف في السبب الذي من أجله جاء التنزيل كذلك، وسنذكر ما قيل في ذلك ثم ندلّ على أولى الأقوال في ذلك بالصواب...
عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، قال: إنما نزل القرآن على قدر معرفتهم، ألا ترى إلى قول الله تعالى ذكره: {وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا}، وما جعل لهم من السهول أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب جبال، ألا ترى إلى قوله: {وَمِنْ أصْوَافِها وأوْبارِها وأشْعارِها أثاثا وَمَتاعا إلى حِينٍ}؟ وما جعل لهم من غير ذلك أعظم منه وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب وَبَر وشَعَر ألا ترى إلى قوله: {ويُنَزّلُ مِنَ السّماءِ منْ جِبَالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ}، يعجّبهم من ذلك؟ وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا لا يعرفون به، ألا ترى إلى قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرّ}، وما تقي من البرد أكثر وأعظم؟ ولكنهم كانوا أصحاب حرّ.
فالسبب الذي من أجله خصّ الله تعالى ذكرهُ السرابيل بأنها تقي الحرّ دون البرد على هذا القول، هو أن المخاطبين بذلك كانوا أصحاب حرّ، فذكر الله تعالى ذكره نعمته عليهم بما يقيهم مكروه ما به عرفوا مكروهه دون ما لم يعرفوا مبلغ مكروهه، وكذلك ذلك في سائر الأحرف الأُخَر. وقال آخرون: ذكر ذلك خاصة اكتفاء بذكر أحدهما من ذكر الآخر، إذ كان معلوما عند المخاطبين به معناه، وأن السرابيل التي تقي الحرّ تقي أيضا البرد... وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: إن القوم خوطبوا على قدر معرفتهم، وإن كان في ذكر بعض ذلك دلالة على ما ترك ذكره لمن عرف المذكور والمتروك؛ وذلك أن الله تعالى ذكره إنما عدّد نعمه التي أنعمها على الذين قُصدوا بالذكر في هذه السورة دون غيرهم، فذكر أياديه عندهم.
قوله تعالى {والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}
اعلم أن الإنسان إما أن يكون مقيما أو مسافرا، والمسافر إما أن يكون غنيا يمكنه استصحاب الخيام والفساطيط، أو لا يمكنه ذلك فهذه أقسام ثلاثة:
أما القسم الأول: فإليه الإشارة بقوله: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنا}.
وأما القسم الثاني: فإليه الإشارة بقوله: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا}
وأما القسم الثالث: فإليه الإشارة بقوله: {والله جعل لكم مما خلق ظلالا} وذلك لأن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها فإنه لا بد وأن يستظل بشيء آخر كالجدران والأشجار وقد يستظل بالغمام كما قال: {وظللنا عليكم الغمام}.
ثم قال: {وجعل لكم من الجبال أكنانا} واحد الأكنان: كن على قياس أحمال وحمل، ولكن المراد كل شيء وقي شيئا، ويقال استكن وأكن إذا صار في كن.
واعلم أن بلاد العرب شديدة الحر، وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة، وأيضا البلاد المعتدلة والأوقات المعتدلة نادرة جدا والغالب إما غلبة الحر أو غلبة البرد. وعلى كل التقديرات فلا بد للإنسان من مسكن يأوي إليه، فكان الإنعام بتحصيله عظيما، ولما ذكر تعالى أمر المسكن ذكر بعده أمر الملبوس فقال: {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم} السرابيل: القمص واحدها سربال، قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره، والذي يدل على صحة هذا القول أنه جعل السرابيل على قسمين: أحدهما: ما يكون واقيا من الحر والبرد. والثاني: ما يتقي به عن البأس والحروب، وذلك هو الجوشن وغيره، وذلك يدل على أن كل واحد من القسمين من السرابيل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر ما يخصهم، أتبعه ما يشاركون فيه سائر الحيوانات، فقال: {والله}، أي: الذي له الجلال والإكرام، {جعل لكم}، أي: من غير حاجة منه سبحانه، {مما خلق ظلالاً}، من الأشجار والجبال وغيرها، {وجعل لكم}، أي: مع غناه المطلق، {من الجبال أكناناً}، جمع كن، وهو: ما يستكن به -أي: يستتر- من الكهوف ونحوها، ولو كان الخالق غير مختار لكانت على سنن واحد لا ظلال ولا أكنان؛ ثم أتبع ذلك ما هداهم إليه عوضاً مما جعله لسائر الحيوان فقال: {وجعل لكم}، أي: مَنّاً منه عليكم، {سرابيل}، أي: ثياباً، {تقيكم الحر}، وهي: كل ما لبس من قميص وغيره -كما قال الزجاج.
ولما كانت السرابيل نوعاً واحداً، لم يكرر "جعل"، فقال تعالى: {وسرابيل}، أي: دروعاً ومغافر وغيرها، {تقيكم بأسكم}، أضافه إليهم إفهاماً لأنه الحرب، وذلك كما جعل لبقية الحيوان- من الأصواف ونحوها والأنياب والأظفار ونحوها -ما هو نحو ذلك يمنع من الحر والبرد، ومن سلاح العدو، ولم يذكر سبحانه هنا وقاية البرد لتقدمها في قوله تعالى: {لكم فيها دفء} [النحل:5]. ولما تم ذلك كان كأنه قيل: نبهنا سبحانه بهذا الكلام على تمام نعمة الإيجاد، فهل بعدها من نعمة؟ فقال: نعم! {كذلك}، أي: كما أتم نعمة الإيجاد عليكم هذا الإتمام العظيم بهذه الأمور ونبهكم عليها، {يتم نعمته عليكم} في الدنيا والدين بالهداية والبيان لطريق النجاة والمنافع، والتنبيه على دقائق ذلك بعد جلائله، {لعلكم تسلمون}، أي: ليكون حالكم- بما ترون من كثرة إحسانه بما لا يقدر عليه غيره مع وضوح الأمر، -حال من يرجى منه إسلام انقياده لربه، فلا يسكن ولا يتحرك إلا في طاعته.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فكثرة النعم من الأسباب الجالبة من العباد مزيد الشكر، والثناء بها على الله تعالى، ولكن أبى الظالمون إلا تمردا وعنادا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا امتنان بنعمة الإلهام إلى التوقّي من أضرار الحرّ والقُرّ في حالة الانتقال، أعقبت به المنّة بذلك في حال الإقامة والسكنى، وبنعمة خلق الأشياء التي يكون بها ذلك التوقّي باستعمال الموجود وصنع ما يحتاج إليه الإنسان من اللباس، إذ خلق الله الظّلال صالحة للتوقّي من حَرّ الشمس، وخلقَ الكهوف في الجبال ليمكن اللجأ إليها، وخلق مواد اللباس مع الإلهام إلى صناعة نسجها، وخلق الحديد لاتّخاذ الدروع للقتال...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقال سبحانه وتعالى مما خلق، ولم يذكر شيئا بعينه؛ لأن أنواع ما خلق وكان منه الظلال كثيرة، فالجنات تتفيأ ظلالها بالغدو والآصال والبيوت فيها ظلال، لمن يكون بجوارها، والغمام يكف وهج الشمس وحرارتها، والسحاب تظلل، والنبي صلى الله عليه وسلم، وهو في رحلته إلى الشام كانت السحاب تظله في سيره، وحيثما انتقل انتقلت معه... إنها نعم تغمرنا وتغمر سكان الصحارى ولا يحسون، ولكن إذا حرموها يعرفون مقدار الإنعام، وهي أفعال مختارة يريد وضع الأمور في مواضعها، وكل شيء عند الله تعالى بمقدار وبميزان محكم...
وأكنان جمع كن، وهو ما يتقى بالاستتار فيه تتبع الأعداء، وتربص المتربصين، كما كمن النبي صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه أبو بكر في غار ثور ثلاث ليال سويا... وإن هذا كله يدل على أنها أكنان، إما استتارا للعبادة، أو فرارا من عدو متربص، أو كن من مطر غامر، أو استظلال... وإذا كان من العرب من ينحتون من الجبال بيوتا فارهين كما جاء ذلك في قصص القرآن الحكيم، فإن ذلك لم يكن عند أهل الحجاز ونجد ونحوها...
والواقع أن الكلام كله في اتقاء الحر، فذكر الظلال والبيوت والأكنان كل هذا في سياق اتقاء الحر فكان المناسب أن يذكر في مزايا السرابيل أن تقى من الحر...
إذ البأس هو الحرب، كما في قوله: {...والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} [البقرة 177]... وأضاف سبحانه وتعالى البأس إليهم، لأنهم في الجاهلية هم الذين كانوا يثيرونها حروبا شعواء، تدعو إليها العصبية الجاهلية، وتدفع الحمية غير المدركة العاقلة كحرب البسوس، وعبس وذبيان، وغيرهما مما كانوا يثيرونه من حروب، فلم تكن حروبا عادلة؛ ولذا أضيفت إليهم...