معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا} (72)

قوله تعالى : { وإن منكم لمن ليبطئن } نزلت في المنافقين . وإنما قال { منكم } لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسب ، وإظهار الإسلام ، لا في الحقيقة الإيمان .

{ ليبطئن } أي : ليتأخرن ، وليتثاقلن عن الجهاد ، وهو عبد الله بن أبي المنافق ، واللام في { ليبطئن } لام القسم ، والتبطئة : التأخر عن الأمر ، يقال : ما أبطأ بك ؟ أي : ما أخرك عنا ؟ ويقال : أبطأ ، إبطاءً ، وبطأ يبطئ تبطئة .

قوله تعالى : { فإن أصابتكم مصيبة } أي : قتل وهزيمة .

قوله تعالى : { قال قد أنعم الله علي } بالقعود .

قوله تعالى : { إذ لم أكن معهم شهيداً } ، أي : حاضراً في تلك الغزاة فيصيبني ما أصابهم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا} (72)

ثم أخبر عن ضعفاء الإيمان المتكاسلين عن الجهاد فقال : { وَإِنَّ مِنْكُمْ } أي : أيها المؤمنون { لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } أي : يتثاقل عن الجهاد في سبيل الله ضعفا وخورا وجبنا ، هذا الصحيح .

وقيل معناه : ليبطئن غيرَه أي : يزهده عن القتال ، وهؤلاء هم المنافقون ، ولكن الأول أَولى لوجهين :

أحدهما : قوله { مِنْكُمْ } والخطاب للمؤمنين .

والثاني : قوله في آخر الآية : { كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } فإن الكفار من المشركين والمنافقين قد قطع الله بينهم وبين المؤمنين المودة . وأيضا فإن هذا هو الواقع ، فإن المؤمنين على قسمين :

صادقون في إيمانهم أوجب لهم ذلك كمال التصديق والجهاد .

وضعفاء دخلوا في الإسلام فصار معهم إيمان ضعيف لا يقوى على الجهاد .

كما قال تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى آخر الآيات . ثم ذكر غايات هؤلاء المتثاقلين ونهاية مقاصدهم ، وأن معظم قصدهم الدنيا وحطامها فقال : { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } أي : هزيمة وقتل ، وظفر الأعداء عليكم في بعض الأحوال لما لله في ذلك من الحكم . { قَالَ } ذلك المتخلف { قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } رأى من ضعف عقله وإيمانه أن التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك المصيبة نعمة . ولم يدر أن النعمة الحقيقية هي التوفيق لهذه الطاعة الكبيرة ، التي بها يقوى الإيمان ، ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران ، ويحصل له فيها عظيم الثواب ورضا الكريم الوهاب .

وأما القعود فإنه وإن استراح قليلاً ، فإنه يعقبه تعب طويل وآلام عظيمة ، ويفوته ما يحصل للمجاهدين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا} (72)

ثم كشف - سبحانه - عن فساد المنافقين وضعاف الإِيمان فقال : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } أى : ليتأخرن وليتثاقلن عن الجهاد . من " بطأ " - بالتشديد - بمعنى أبطأ فهو فعل لازم . وقد يستعمل أبطأ وبطأ - بالتشديد - متعديين ، وعليه يكون المفعول هنا محذوف أى : ليبطئن غيره ويثبطه عن الخروج للجهاد فى سبيل الله .

وقد جمع المنافقون وضعاف الإِيمان بين الأمرين : فقد كانوا يتخلفون عن الجهاد فى سبيل الله وينتحلون المعاذير الكاذبة لتخلفهم ، ولا يكتفون بذلك بل يحاولون منع غيرهم عن الخروج للجهاد .

والتعبير بقوله { لَّيُبَطِّئَنَّ } تعبير فى أسمى درجات البلاغة والروعة ، لأنه يصور الحركة النفسية للمنافقين وضعاف الإِيمان وهم يشدون أنفسهم شدا ، ويقدمون رجلا ويؤخرون أخرى عندما يدعوهم داعى الجهاد إلى الخروج من أجل إعلاء كلمة الله .

وقد اشتملت الجملة الكريمة على جملة مؤكدات ، للاشعار بأن هؤلاء المنافقين لا يتركون فرصة تمردون أن يبثوا سمومهم بنشاط وإصرار ، وأنهم حريصون كل الحرص على توهين عزائم المجاهدين ، وحملهم على أن يكونوا مع القاعدين كما هو شأن المنافقين .

والمراد بقوله { مِنْكُمْ } أى من جنسكم وممن يعيشون معكم ويساكنونكم ، ويرتبطون معكم برباط القرابة ، ويتظاهرون بالإِسلام ، فلقد كان المنافقون فى المدينة تربطهم روابط متعددة بالمؤمنين الصادقين ، كما هو معروف فى التاريخ الإِسلامى .

فمثلا عبد الله بن أبى بن سلول - زعيم المنافين - كان أحد أبنائه من المؤمنين الصادقين .

وقد وجه القرآن الخطاب إلى المؤمنين لكى يكشف لهم عن المنافقين المندسين فى صفوفهم لكى يحذروهم .

قال صاحب الكشاف : واللام فى قوله { لَمَن } للابتداء بمنزلتها فى قوله { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } وفى { لَّيُبَطِّئَنَّ } جواب قسم محذوف تقديره : وإن منكم لمن أقسم باللَّه ليبطئن وجوابه صلة من والضمير الراجع منها يعود إلى ما استكن فى { لَّيُبَطِّئَنَّ } . والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقوله { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } بيان لما انطوت عليه نفوس المنافقين من فساد ، وما نطقت به ألسنتهم من سوء .

أى : وإن من المتظاهرين بأنهم منكم - يا معشر المؤمنين - لمن يتثاقلون عن التقال ويعملون على أن يكون غيرهم مثلهم ، { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ } يا معشر المؤمنين { مُّصِيبَةٌ } كهزيمة وقتية ، أو استشهاد جماعة منكم { قَالَ } هذا المنافق على سبيل الفرح والتشفى { قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ } أى : قد أكرمنى الله بالقعود { إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } أى حاضرا فى المعركة ، لأنى لو كنت حاضرا معهم لأصابنى ما أصابهم من القتل أو الجراح أو الآلام .

فالآية الكريمة تحكى عن المنافقين أنهم يعتبرون قعودهم عن الجهاد نعمة ، وإذا ما أصاب المؤمنين مصيبة عند قتالهم لأعدائهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا} (72)

71

انفروا جماعات نظامية . أو انفروا جميعا . ولا ينفر بعضكم ويتثاقل بعضكم - كما هو واقع - وخذوا حذركم . لا من العدو الخارجي وحده ؛ ولكن كذلك من المعوقين المبطئين المخذلين ؛ سواء كانوا يبطئون أنفسهم - أي يقعدون متثاقلين - أو يبطئون غيرهم معهم ؛ وهو الذي يقع عادة من المخذلين المثبطين !

ولفظة ( ليبطئن ) مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر ؛ وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها ، حتى يأتي على آخرها ، وهو يشدها شدا ؛ وإنها لتصور الحركة النفسية المصاحبة لها تصويرا كاملا بهذا التعثر والتثاقل في جرسها . وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن ، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة .

وكذلك يشي تركيب الجملة كلها : ( وإن منكم لمن ليبطئن ) ، بأن هؤلاء المبطئين - وهم معدودون من المسلمين -( منكم ) يزاولون عملية التبطئة كاملة ، ويصرون عليها إصرارا ، ويجتهدون فيها اجتهادا . . وذلك بأسلوب التوكيد بشتى المؤكدات في الجملة ! مما يوحي بشدة إصرار هذه المجموعة على التبطئة ، وشدة أثرها في الصف المسلم ؛ وشدة ما يلقاه منها !

ومن ثم يسلط السياق الأضواء الكاشفة عليهم ، وعلى دخيلة نفوسهم ؛ ويرسم حقيقتهم المنفرة ، على طريقة القرآن التصويرية العجيبة :

فها هم أولاء ، بكل بواعثهم ، وبكل طبيعتهم وبكل أعمالهم وأقوالهم . . ها هم أولاء مكشوفين للأعين ، كما لو كانوا قد وضعوا تحت مجهر ، يكشف النوايا والسرائر ؛ ويكشف البواعث والدوافع .

ها هم أولاء - كما كانوا على عهد الرسول [ ص ] وكما يكونون في كل زمان وكل مكان . ها هم أولاء . ضعافا منافقين ملتوين ؛ صغار الاهتمامات أيضا : لا يعرفون غاية أعلى من صالحهم الشخصي المباشر ، ولا أفقا أعلى من ذواتهم المحدودة الصغيرة . فهم يديرون الدنيا كلها على محور واحد . وهم هم هذا المحور الذي لا ينسونه لحظة !

إنهم يبطئون ويتلكأون ، ولا يصارحون ، ليمسكوا العصا من وسطها كما يقال ! وتصورهم للربح والخسارة هو التصور الذي يليق بالمنافقين الضعاف الصغار :

يتخلفون عن المعركة . . فإن أصابت المجاهدين محنة ، وابتلوا الابتلاء الذي يصيب المجاهدين - في بعض الأحايين - فرح المتخلفون ؛ وحسبوا أن فرارهم من الجهاد ، ونجاتهم من الابتلاء نعمة :

( فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا ) . .

إنهم لا يخجلون - وهم يعدون هذه النجاة مع التخلف نعمة - أن ينسبوها لله . الله الذي خالفوا عن أمره فقعدوا ! والنجاة في هذه الملابسة لا تكون من نعمة الله أبدا . فنعمة الله لا تنال بالمخالفة . ولو كان ظاهرها نجاة !

إنها نعمة ! ولكن عند الذين لا يتعاملون مع الله . عند من لا يدركون لماذا خلقهم الله . ولا يعبدون الله بالطاعة والجهاد لتحقيق منهجه في الحياة . نعمة عند من لا يتطلعون إلى آفاق أعلى من مواطى ء الأقدام في هذه الأرض . . كالنمال . . نعمة عند من لا يحسون أن البلاء - في سبيل الله وفي الجهاد لتحقيق منهج الله وإعلاء كلمة الله - هو فضل واختيار من الله ، يختص به من يشاء من عباده ؛ ليرفعهم في الحياة الدنيا على ضعفهم البشري ، ويطلقهم من إسار الأرض يستشرفون حياة رفيعة ، يملكونها ولا تملكهم . وليؤهلهم بهذا الانطلاق وذلك الارتفاع للقرب منه في الآخرة . . في منازل الشهداء . .

إن الناس كلهم يموتون ! ولكن الشهداء - في سبيل الله - هم وحدهم الذين " يستشهدون " . . وهذا فضل من الله عظيم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا} (72)

وقوله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } قال مجاهد وغير واحد : نزلت في المنافقين ، وقال مقاتل بن حيان : { ليبطئن } أي : ليتخلفن عن الجهاد .

ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه ، ويبطئ غيره عن الجهاد ، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول - قبحه الله - يفعل ، يتأخر عن الجهاد ، ويُثَبّط الناس عن الخروج فيه . وهذا قول ابن جُرَيْج وابن جَرِيرٍ ؛ ولهذا قال تعالى إخبارا عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد : { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } أي : قتل وشهادة وغلب العدو لكم ، لما لله في ذلك من الحكمة { قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } أي : إذ لم أحضر معهم وقعة القتال ، يعد ذلك من نعم الله عليه ، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل .