ثم قال - تعالى - : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } .
قال القرطبي : والصمم في كلام العرب : الانسداد ، يقال : قناة صماء إذا لم تكن مجوفة ، وصممت القارورة إذا سددتها ، فالأصم من انسدت خروق مسامعه . والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم ، والعمى ذهاب البصر . وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإِدراكات عن حواسهم جملة ، وإنما الغرض نفيها من جهة ما .
والآية الكريمة خبر لضمير مقدر يعود على المنافقين ، أي : هم صم بكم عمى .
ووصف المنافقون بهذه الصفات لأنهم وإن كانت لهم آذان تسمع ، وألسنة تنطق ، وأعين تبصر ، إلا أنهم لا يسمعون خيراً . ولا يتكلمون بما ينفعهم ولا يبصرون سملكا من مسالك الهداية ، ومن كان كذلك كان هو ومن فقد حواسه سواء ، فقد صرف الله عنهم عنايته ووكلهم إلى أنفسهم .
ووردت هذه الصفات مجردة من حرف العطف ، فلم يقل : صم وبكم وعمى ، لما عرف من استعمالات البلغاء . أن تجريد أمثال هذه الأوصاف من حرف العطف يفيد تأكيدها ، حيث إن المتكلم قد قصد إلى تقرير كل صفة منها على حدة .
ومعنى { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو لا يرجعون عن الضلالة بعد أن اشتروها .
والفاء في قوله - تعالى - { فَهُمْ } للتفريع أو التسبيب ، لأنها توحى بأن عدم رجوعهم عما هم فيه من النفاق متفرع على تلك الآفات ، ومسبب عن هذه العاهات .
{ صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
قال أبو جعفر : وإذ كان تأويل قول الله جل ثناؤه : ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ هو ما وصفنا من أن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الاَخرة ، عند هتك أستارهم ، وإظهاره فضائح أسرارهم ، وسلبه ضياء أنوارهم من تركهم في ظلم أهوال يوم القيامة يترددون ، وفي حنادسها لا يبصرون فبينٌ أن قوله جل ثناؤه : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُوا الضّلاَلَةَ بالهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ، صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فهم لاَ يَرْجِعُونَ مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمُ فِي ظُلُماتٍ لا يَبْصِرُونَ ، أوْ كمثل صيب من السمّاءِ . وإذ كان ذلك معنى الكلام ، فمعلوم أن قوله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يأتيه الرفع من وجهين ، والنصب من وجهين . فأما أحد وجهي الرفع ، فعلى الاستئناف لما فيه من الذم ، وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم ، فتنصب وترفع وإن كان خبرا عن معرفة ، كما قال الشاعر :
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الّذِينَ هُمُ *** سُمّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النّازِلِينَ بِكُلّ مُعْتَرَكٍ وَالطّيّبِينَ مَعَاقِدَ أُلازْرِ
فيروى : «النازلون والنازلين » وكذلك «الطيبون والطيبين » ، على ما وصفت من المدح . والوجه الاَخر على نية التكرير من أولئك ، فيكون المعنى حينئذٍ : أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلاَلَةَ بالهدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ أولئك صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ .
وأما أحد وجهي النصب ، فأن يكون قطعا مما في «مهتدين » ، من ذكر «أولئك » ، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة ، والصمّ نكرة . والاَخر أن يكون قطعا من «الذين » ، لأن «الذين » معرفة والصم نكرة . وقد يجوز النصب فيه أيضا على وجه الذم فيكون ذلك وجها من النصب ثالثا . فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وجه رواية عليّ بن أبي طلحة عنه ، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد وهو الاستئناف .
وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين : أحدهما الذمّ ، والاَخر القطع من الهاء والميم اللتين في «تركهم » ، أو من ذكرهم في «لا يبصرون » . وقد بينا القول الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك . والقراءةُ التي هي قراءةُ الرفعُ دون النصب ، لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين ، وإذا قرىء نصبا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم .
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين ، أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى ، لم يكونوا للهدى والحق مهتدين ، بل هم صمّ عنهما فلا يسمعونهما لغلبة خذلان الله عليهم ، بُكْمٌ عن القيل بهما ، فلا ينطقون بهما والبكم : الخُرْس ، وهو جمع أبكم ، عميٌ عن أن يبصروهما فيعقلوهما لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون . وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل .
حدثنا عبد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : صمّ بُكْمٌ عُمْيٌ عن الخير .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول : لا يسمعون الهدى ، ولا يبصرونه ، ولا يعقلونه .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : بُكْمٌ : هم الخرس .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : صمّ بُكْمٌ عُمْيٌ : صم عن الحق فلا يسمعونه ، عمي عن الحق فلا يبصرونه ، بكم عن الحق فلا ينطقون به .
القول في تأويل قوله تعالى : فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ .
قال أبو جعفر : وقوله : فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ إخبار من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدى ، وصممهم عن سماع الخير والحق ، وبكمهم عن القيل بهما ، وعماهم عن إبصارهما أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم ، ولا يتوبون إلى الإنابة من نفاقهم ، فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدا ، ويقولوا حقا ، أو يسمعوا داعيا إلى الهدى ، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم ، كما آيس من توبة قادة كفار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغَشّى على أبصارهم . وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أي لا يتوبون ولا يذكرون .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ إلى الإسلام .
وقد رُوي عن ابن عباس قول يخالف معناه معنى هذا الخبر وهو ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ : أي فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خير ، فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه .
وهذا تأويل ظاهر التلاوة بخلافه ، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن القوم أنهم لا يرجعون عن اشترائهم الضلالة بالهدى إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق من غير حصر منه جل ذكره ذلك من حالهم إلى وقت دون وقت وحال دون حال . وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس ينبىء عن أن ذلك من صفتهم محصور على وقت وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين ، وأن لهم السبيل إلى الرجوع عنه . وذلك من التأويل دعوى باطلة لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبر تقوم بمثله الحجة فيسلم لها .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ( 18 )
والأصم الذي لا يسمع ، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم فهو الأخرس ، وقيل الأبكم والأخرس واحد ، ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته ، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك ، وإما على إضمار هم .
وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما . «صماً ، بكماً ، عمياً » بالنصب ، ونصبه على الحال من الضمير في { مهتدين } ، وقيل هو نصب على الذم ، وفيه ضعف( {[299]} ) ، وأما من جعل الضمير في «نورهم » للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في { تركهم } .
قال بعض المفسرين قوله تعالى { فهم لا يرجعون } إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه .
قال القاضي أبو محمد : وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين ، وقال غيره : معناه { فهم لا يرجعون } ما داموا على الحال التي وصفهم بها ، وهذا هو الصحيح ، لأن الآية لم تعين ، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه .
قوله عز وجل( {[300]} ) :
أخبار لمبتدأ محذوف هو ضميرٌ يعود إلى ما عاد إليه ضمير { مَثَلُهم } [ البقرة : 17 ] ولا يصح أن يكون عائداً على { الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخرُه لأن قوله : { كمثل الذي استوقد ناراً } يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لمَا تأتى منه الاستيقاد ، وحذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفاً بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عُرِف للسامع فيقولون : فلان أو فتىً أو رجلٌ أو نحو ذلك على تقدير هو فلان ، ومنه قوله تعالى : { جزاءً من ربك عطاءً حساباً ربُّ السماوات والأرض وما بينهما } [ النبأ : 36 ، 37 ] التقدير هو رب السماوات عُدل عن جعل ( رب ) بدلاً من ربك ، وقول الحماسي{[88]} :
سأشكر عَمرا إن تراختْ منيتـــي *** أياديَ لم تُمْنَنْ وإنْ هيَ جَلَّــتِ
فتىً غيرُ محجوببِ الغِنى عن صديقه *** ولا مُظْهر الشكوى إذا النعل زلت
وسمى السكاكي هذا الحذف « الحذفَ الذي اتبع فيه الاستعمال الوارد على تركه » . والإخبار عنهم بهذه الأخبار جاء على طريقة التشبيه البليغ شبهوا في انعدام آثار الإحساس منهم بالصم البكم العمي أي كل واحد منهم اجتمعت له الصفات الثلاث وذلك شأن الأخبار الواردة بصيغة الجمع بعد مبتدأ هو اسم دال على جمع ، فالمعنى كل واحد منهم كالأصم الأبكم الأعمى وليس المعنى على التوزيع فلا يفهم أن بعضهم كالأصم وبعضهم كالأبكم وبعضهم كالأعمى ، وليس هو من الاستعارة عند محققي أهل البيان . قال صاحب « الكشاف » : > ا هـ أي لأن الاستعارة تعتمد على لفظ المستعار منه أو المستعار له في جملة الاستعارة فمتى ذكرا معاً فهو تشبيه ، ولا يضر ذكر لفظ المستعار له في غير جملة الاستعارة لظهور أنه لولا العلم بالمستعار له في الكلام لما ظهرت الاستعارة ولذلك اتفقوا على أن قول ابن العميد :
قامت تظللني من الشمس *** نفسٌ أعزُّ عليّ من نفسي
قامت تظللني ومن عجب *** شمسٌ تظللني من الشمس
أن قوله شمس استعارة ولم يمنعهم من ذلك ذكر المستعار له قبل في قوله نفس أعز ، وضميرها في قوله قامت تظللني وكذا إذا لفظ المستعار غير مقصود ابتناء التشبيه عليه لم يكن مانعاً من الاستعارة كقول أبي الحسن ابن طَبَاطَبَا :
لا تعجبوا من بلى غلالته *** قد زرّ أزراره على القمر
فإن الضمير لم يذكر ليبنى عليه التشبيه بل جاء التشبيه عقبه .
والصم والبكم والعمى جمع أصم وأعمى وأبكم وهم من اتصف بالصمم والبكم والعمي ، فالصمم انعدام إحساس السمع عمن من شأنه أن يكون سميعاً ، والبكم انعدام النطق عمن من شأنه النطق ، والعمي انعدام البصر عمن من شأنه الإبصار .
وقوله : { فهم لا يرجعون } تفريع على جملة : { صم بكم عمي } لأن من اعتراه هذه الصفات انعدم منه الفهم والإفهام وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب . والرجوع الانصراف من مكان حلول ثان إلى مكان حلول أول وهو هنا مجاز في الإقلاع عن الكفر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال سبحانه: {صم} لا يسمعون، يعني لا يعقلون، {بكم} خرس لا يتكلمون بالهدى، {عمي} فهم لا يبصرون الهدى حين ذهب الله بنورهم، يعني بإيمانهم، {فهم لا يرجعون} عن الضلالة إلى الهدى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إذ كان تأويل قول الله جل ثناؤه:"ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ" هو ما وصفنا من أن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الاَخرة، عند هتك أستارهم، وإظهاره فضائح أسرارهم، وسلبه ضياء أنوارهم من تركهم في ظلم أهوال يوم القيامة يترددون، وفي حنادسها لا يبصرون، فبينٌ أن قوله جل ثناؤه: "صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ "من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُوا الضّلاَلَةَ بالهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فهم لاَ يَرْجِعُونَ مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمُ فِي ظُلُماتٍ لا يَبْصِرُونَ، أوْ كمثل صيب من السمّاءِ.
وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين، أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى، لم يكونوا للهدى والحق مهتدين، بل هم صمّ عنهما فلا يسمعونهما لغلبة خذلان الله عليهم، بُكْمٌ عن القيل بهما، فلا ينطقون بهما والبكم: الخُرْس، وهو جمع أبكم. عميٌ عن أن يبصروهما فيعقلوهما لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون...
صمّ بُكْمٌ عُمْيٌ عن الخير... لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه، ولا يعقلونه...
صم عن الحق فلا يسمعونه، عمي عن الحق فلا يبصرونه، بكم عن الحق فلا ينطقون به...
وقوله: "فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ" إخبار من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدى، وصممهم عن سماع الخير والحق، وبكمهم عن القيل بهما، وعماهم عن إبصارهما، أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم، ولا يتوبون إلى الإنابة من نفاقهم، فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدا، ويقولوا حقا، أو يسمعوا داعيا إلى الهدى، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من توبة قادة كفار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغَشّى على أبصارهم...
"فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ" أي لا يتوبون ولا يذكرون... "فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ" إلى الإسلام...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{صم} أي: هم صم عن الحق لا يقبلونه، وإذا لم يقبلوا فكأنهم لم يسمعوا.
{بكم} خرس عن الحق لا يقولونه، أو أنهم لما أبطنوا خلاف ما أظهروا فكأنهم لم ينطقوا بالحق. {عمي} أي: لا بصائر لهم، ومن لا بصيرة له كمن لا بصر له.
{فهم لا يرجعون} عن الضلالة إلى الحق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدّوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتقضت بناها التي بنيت عليها للإحساس والإدراك.
ومعنى {لاَ يَرْجِعُونَ} أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، تسجيلاً عليهم بالطبع، أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه؟
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والأصم: الذي لا يسمع، والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل الأبكم والأخرس واحد.
ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته...
قال بعض المفسرين... {فهم لا يرجعون} ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح، لأن الآية لم تعين، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
...لما كان في مقام إجابة الداعي إلى الإيمان، قدم السمع لأنه العمدة في ذلك، وثنى بالقول لأنه يمكن الأصم الإفصاح عن المراد، وختم بالبصر لإمكان الاهتداء به بالإشارة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{صم بكم عمي} أي إنهم فقدوا منفعة السمع الذي يؤدى إلى النفس ما يلقيه المرشدون إليها من الحجج القاطعة، والدلائل الناصعة، فلا يصيخون إلى وعظ واعظ، ولا يصغون لتنبيه منبه، بل لا يسمعون وإن أصاخوا، ولا يفقهون إن سمعوا، فكأنهم صم لم يسمعوا – وفقدوا منفعة الاسترشاد بالقول وطلب الحكمة من معاهدها، فلا يسألون بيانا، ولا يطلبون برهانا، وفقدوا خير منافع الأبصار، وهو نظر الاستفادة والاعتبار، فلا يرون ما يحل بهم من الفتن فينزجروا، ولا يبصرون ما تتقلب به أحوال الأمم فيعتبروا، {فهم لا يرجعون} عن ضلالتهم، ولا يخرجون من ظلماتهم، لأن من وقع في أرض فلاة في ليلة مظلمة وفقد فيها جميع حواسه لا يمكنه أن يسمع صوتا يهتدي به، ولا أن يصيح هو لينقذه من يسمعه، ولا أن يرى بارقا يؤمه ويقصده، فهو لا يرجع من تيهه، بل يظل يعمه في الظلمات، حتى يفترسه سبع ضار، أو يصل إلى شفا جرف هار، فينهار به في شر قرار {وما للظالمين من أنصار}.