قوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ، هذه الآيات نزلت بالمدينة في شهداء أحد ، وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد ، من تبقير البطون ، والمثلة السيئة - حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظله بن الراهب ، فإن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان ، فتركوا حنظله لذلك - ، فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم ، ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب ، وقد جدعوا أنفه وأذنه ، وقطعوا مذاكيره ، وبقروا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبداً ، إن حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئا من جسده النار ، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة ، ونظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله عليك ، فإنك ما علمت ما كنت إلا فاعلاً للخيرات ، وصولاً للرحم ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى ، أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك ، فأنزل الله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا }الآية . { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } ، أي : ولئن عفوتم لهو خير للعافين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل نصبر ، وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه . قال ابن عباس و الضحاك : كان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله ومنع الابتداء بالقتال ، فلما أعز الله الإسلام وأهله نزلت براءة ، وأمروا بالجهاد ونسخت هذه الآية . قال النخعي ، و الثوري ، و مجاهد ، و ابن سيرين : الآية محكمة نزلت في من ظلم بظلامة ، فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال الظالم منه ، أمر بالجزاء والعفو ، ومنع من الاعتداء .
{ 126 - 128 } { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } .
يقول تعالى -مبيحا للعدل ونادبا للفضل والإحسان- : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } من أساء إليكم بالقول والفعل ، { فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ، من غير زيادة منكم على ما أجراه معكم .
{ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ } عن المعاقبة ، وعفوتم عن جرمهم ، { لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } من الاستيفاء ، وما عند الله خير لكم وأحسن عاقبة كما قال تعالى : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } .
وبعد أن بين - سبحانه - أنجع أساليب الدعوة إلى سبيله فى حالة المسالمة والمجادلة بالحجة والبرهان ، أتبع ذلك ببيان ما ينبغي على المسلم أن يفعله فى حالة الاعتداء عليه أو على دعوته فقال - تعالى - : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ . . . } . أي : وإن أردتم معاقبة من ظلمكم واعتدى عليك ، فعاقبوه بمثل ما فعله بكم ، ولا تزيدوا على ذلك ، فإن الزيادة حيف يبغضه الله - تعالى - .
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى ما هو أسمى من مقابلة الشر بمثله فقال : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } .
والضمير في قوله : { لهو } ، يعود إلى المصدر في قوله : { صبرتم } ، والمصدر إما أن يراد به الجنس فيكون المعنى : ولئن صبرتم فالصبر خير للصابرين ، وأنتم منهم .
وإما أن يراد به صبرهم الخاص فيكون المعنى : ولئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل ، لصبركم خير لكم ، فوضع - سبحانه - الصابرين موضع لكم على سبيل المدح لهم ، والثناء عليهم بصفة الصبر .
هذا ، وقد ذكر جمع من المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت في أعقاب غزوة أحد ، بعد أن مثل المشركون بحمزة - رضي الله عنه - .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : " روى الحافظ البزار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد . فنظر الى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه .
وقد مثل المشركون به . فقال صلى الله عليه وسلم : رحمة الله عليك ، لقد كنت وصولا للرحم ، فعولا للخيرات . والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع . أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك . فنزلت هذه الآية . فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه " .
ثم قال ابن كثير بعد روايته لهذا الحديث : وهذا إسناد فيه ضعف ؛ لأن أحد رواته وهو " صالح بن بشير المرى " ضعيف عند الأئمة . وقال البخاري هو منكر الحديث . ثم قال ابن كثير - رحمه الله - : " وروى عبد الله بن الإِمام أحمد في مسند أبيه عن أبي بن كعب ، قال : لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ، ومن المهاجرين ستة ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا اليوم من المشركين لنمثلن بهم ، فلما كان يوم الفتح قال رجل : لا تعرف قريش بعد اليوم . فنادى مناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأبيض والأسود إلا فلانا وفلانا - ناسا سماهم - ، فنزلت الآية .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نصبر ولا نعاقب " " .
والذي نراه أن الآية الكريمة - حتى ولو كان سبب نزولها ما ذكر - إلا أن التوجيهات التي اشتملت عليها صالحة لكل زمان ومكان ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وعلى رأس هذه التوجيهات السامية التي اشتملت عليها : دعوة المسلمين الى التزام العدالة في أحكامهم ، وحضهم على الصبر والصفح ما دام ذلك لا يضر بمصلحتهم ومصلحة الدعوة الإِسلامية .
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى - : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله . . . } .
فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير ، فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازا لكرامة الحق ، ودفعا لغلبة الباطل ، على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع ، فالإسلام دين العدل والاعتدال ، ودين السلم والمسالمة ، إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) . وليس ذلك بعيدا عن دستور الدعوة فهو جزء منه . فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها ، فلا تهون في نفوس الناس . والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد ، ولا يثق أنها دعوة الله . فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها ، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله والعزة لله جميعا . ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس ، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم ، فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون ، ويعتدي عليهم فلا يردون ؟ ! .
ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل ، فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر ، حين يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان ، في الحالات التي قد يكون العفو فيها والصبر أعمق أثرا . وأكثر فائدة للدعوة . فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر . فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة الله ويرخصانها ، فالقاعدة الأولى هي الأولى .
ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال ، وضبط للعواطف ، وكبت للفطرة ، فإن القرآن يصله بالله ويزين عقباه : ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } ( 126 ) .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين : وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم ، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة ، ولئن صبرتم عن عقوبته ، واحتسبتم عند الله ما نالكم به من الظلم ، ووكلتم أمره إليه ، حتى يكون هو المتولى عقوبته ( لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) يقول : للصبر عن عقوبته بذلك خير لأهل الصبر احتسابا ، وابتغاء ثواب الله ؛ لأن الله يعوّضه مِنَ الذي أراد أن يناله بانتقامه من ظالمه على ظلمه إياه من لذّة الانتصار ، وهو من قوله ( لَهُوَ ) كناية عن الصبر ، وحسن ذلك ، وإن لم يكن ذكر قبل ذلك الصبر لدلالة قوله : ( وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ ) عليه .
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية . وقيل : هي منسوخة أو محكمة ، فقال بعضهم : نزلت من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقسموا حين فعل المُشركون يوم أُحد ما فعلوا بقتلى المسلمين من التمثيل بهم أن يجاوزوا فعلهم في المُثْلة بهم إن رزقوا الظفر عليهم يومًا ، فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية وأمرهم أن يقتصروا في التمثيل بهم إن هم ظفروا على مثل الذي كان منهم ، ثم أمرهم بعد ذلك بترك التمثيل ، وإيثار الصبر عنه بقوله وَاصْبِرْ { وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ } ، فنسخ بذلك عندهم ما كان أذن لهم فيه من المُثلة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت داود ، عن عامر : أن المسلمين قالوا لما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد : لئن ظهرنا عليهم لنفعلنّ ولنفعلنّ ، فأنزل الله تعالى : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) قالوا : بل نصبر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، قال : لما رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد ، من تبقير البطون ، وقطع المذاكير ، والمُثلة السيئة ، قالوا : لئن أظفرنا الله بهم ، لنفعلنّ ولنفعلنّ ، فأنزل الله فيهم وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت سورة النحل كلها بمكة ، وهي مكية ، إلا ثلاث آيات في آخرها نزلت في المدينة بعد أُحد ، حيث قُتِل حمزة ومُثِّل بِه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَئِنْ ظَهَرْنا عَلَيْهمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِثَلاثِينَ رَجُلا مِنْهُمْ " فلما سمع المسلمون بذلك ، قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلنّ بهم مُثْلة لم يمثِّلْها أحد من العرب بأحد قطُّ فأنزل الله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) . . . إلى آخر السورة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، قال المسلمون يوم أُحد فقال : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) . . . إلى قوله : ( لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ، ثم قال بعد : ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ) .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما أصيب في أهل أُحد المُثَل ، فقال : المسلمون : لئن أصبناهم لنمثلنّ بهم ، فقال الله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ، ثم عزم وأخبر فلا يمثل ، فنهي عن المُثَل ، قال : مثَّل الكفار بقتلى أُحد ، إلا حنظلة بن الراهب ، كان الراهب أبو عامر مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك .
وقال آخرون : نسخ ذلك بقوله في براءة : ( اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، قالوا : وإنما قال : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، خبرًا من الله للمؤمنين أن لا يبدءوهم بقتال حتى يبدءوهم به ، فقال : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، قال : هذا خبر من الله نبيه أن يُقاتل من قاتله . قال : ثم نزلت براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم ، قال : فهذا من المنسوخ .
وقال آخرون : بل عنى الله تعالى بقوله : ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ) ، نبيّ الله خاصة دون سائر أصحابه ، فكان الأمر بالصبر له عزيمة من الله دونهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، قال : أمرهم الله أن يعفوا عن المشركين ، فأسلم رجال لهم منعة ، فقالوا : يا رسول الله ، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب ، فنزل القرآن : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ، واصبر أنت يا محمد ، ولا تكن في ضيق ممن ينتصر ، وما صبرك إلا بالله ، ثم نسخ هذا وأمره بجهادهم ، فهذا كله منسوخ .
وقال آخرون : لم يُعْنَ بهاتين الآيتين شيء مما ذكر هؤلاء ، وإنما عُنِيَ بهما أن من ظُلِم بظُلامة ، فلا يحلّ له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منه ، وقالوا : الآية محكمة غير منسوخة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خالد ، عن ابن سيرين : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، يقول : إن أخذ منك رجل شيئا ، فخذ منه مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : إن أخذ منك شيئا فخذ منه مثله . قال الحسن : قال عبد الرزاق : قال سفيان : ويقولون : إن أخذ منك دينارًا فلا تأخذ منه إلا دينارًا ، وإن أخذ منك شيئا فلا تأخذ منه إلا مثل ذلك الشيء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، لا تعتدوا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر من عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عوقب به ، إن اختار عقوبته ، وأعلمه أن الصبر على ترك عقوبته ، على ما كان منه إليه خير وعزم على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر ، وذلك أن ذلك هو ظاهر التنزيل ، والتأويلات التي ذكرناها عمن ذكروها عنه ، محتملها الآية كلها . فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن في الآية دلالة على أيّ ذلك عنى بها من خبر ولا عقل كان الواجب علينا الحكم بها إلى ناطق لا دلالة عليه ؛ وأن يقال : هي آية محكمة أمر الله تعالى ذكره عباده أن لا يتجاوزوا فيما وجب لهم قِبَل غيرهم من حقّ من مال أو نفس ، الحقّ الذي جعله الله لهم إلى غيره ، وأنها غير منسوخة ، إذ كان لا دلالة على نسخها ، وأن للقول بأنها محكمة وجهًا صحيحًا مفهوما .
{ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ، لما أمره بالدعوة وبين له طرقها أشار إليه وإلى من يتابعه بترك المخالفة ، ومراعاة العدل مع من يناصبهم ، فإن الدعوة لا تنفك عنه من حيث إنها تتضمن رفض العادات ، وترك الشهوات والقدح في دين الأسلاف والحكم عليهم بالكفر والضلال . وقيل إنه عليه الصلاة والسلام لما رأى حمزة وقد مثل به فقال : " والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك " ، فنزلت . فكفر عن يمينه ، وفيه دليل على أن للمقتص أن يماثل الجاني وليس له أن يجاوزه ، وحث على العفو تعريضا بقوله : { وإن عاقبتم } ، وتصريحا على الوجه الآكد بقوله : { ولئن صبرتم لهُو } ، أي : الصبر . { خير للصابرين } ، من الانتقام للمنتقمين .
وقوله { وإن عاقبتم فعاقبوا } الآية ، أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد ، ووقع ذلك في صحيح البخاري ، وفي كتاب السير وذهب النحاس إلى أنها مكية .
قال القاضي أبو محمد : والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالاً حسناً ؛ لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ إلى الذي يجادل إلى الذي يجازى على فعله ، ولكن ما روى الجمهور أثبت ، وأيضاً فقوله : { ولئن صبرتم } ، يقلق بمعنى الآية على ما روى الجميع أن كفار قريش كما مثلوا بحمزة فنال ذلك من نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال «لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بثلاثين » ، وفي كتاب النحاس وغيره «بتسعين » منهم فقال الناس : «إن ظفرنا لنفعلن ولنفعلن » ، فنزلت هذه الآية{[7450]} ، ثم عزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر في الآية بعدها ، وسمى الإذناب في هذه الآية عقوبة ، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول ، وهذا بعكس قوله : { مكروا ومكر الله }{[7451]} [ آل عمران : 54 ] ، وقوله { الله يستهزىء بهم }{[7452]} [ البقرة : 15 ] ، فإن الثاني هو المجاز ، والأول هو الحقيقة ، وقرأ ابن سيرين : «وإن عقَبتم فعقبوا » ، وحكى الطبري عن فرقة : أنها قالت إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره ، واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال تجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه ، فقالت فرقة : له ذلك ، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد ، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها ، وقال مالك وفرقة معه : لا يجوز له ذلك ، واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك »{[7453]} .
قال القاضي أبو محمد : ووقع في مسند ابن سنجر أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنا بامرأة رجل آخر ، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر ، فاستشار الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك » ، ويتقوى في أمر المال قول مالك رحمه الله ؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك وهي رذيلة لا انفكاك عنها ، ولا ينبغي للمرء أن يتأسى بغيره في الرذائل ، وإنما ينبغي أن تتجنب لنفسها ، وأما الرجل يظلم في المال ثم يتمكن من الانتصاف دون أن يؤتمن ، فيشبه أن ذلك له جائز يرى أن الله حكم له كما لو تمكن له بالحكم من الحاكم .
عَطف على جملة { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } [ سورة النحل : 125 ] ، أي إن كان المقام مقام الدعوة فلتكن دعوتك إيّاهم كما وصفنا ، وإن كنتم أيها المؤمنون معاقبين لمشركين على ما نالكم من أذاهم فعاقبوهم بالعدل لا بِتجاوُز حدّ ما لقيتم منهم .
فهذه الآية متّصلة بما قبلها أتم اتّصال ، وحسبك وجود العاطف فيها . وهذا تدرّج في رتب المعاملة من معاملة الذين يدعون ويوعظون إلى معاملة الذين يجادلون ثم إلى معاملة الذين يجازون على أفعالهم ، وبذلك حصل حسن الترتيب في أسلوب الكلام .
وهذا مختار النحاس وابن عطية وفخر الدين ، وبذلك يترجّح كون هذه الآية مكية مع سوابقها ابتداء من الآية الحادية والأربعين ، وهو قول جابر بن زيد ، كما تقدم في أول السورة . واختار ابن عطية أن هذه الآية مكّية .
ويجوز أن تكون نزلت في قصة التّمثيل بحَمزة يوم أُحُد ، وهو مرويّ بحديث ضعيف للطبراني . ولعلّه اشتبه على الرّواة تذكر النبي الآيةَ حين توعّد المشركين بأن يمثّل بسبعين منهم إن أظفره الله بهم .
والخطاب للمؤمنين ويدخل فيه النبي .
والمعاقبة : الجزاء على فعل السوء بما يسوء فاعل السوء .
فقوله : { بمثل ما عوقبتم } مشاكَلَةٌ لِ { عاقبتم } . استعمل { عوقبتم } في معنى عوملتم به ، لوقوعه بعد فعل { عاقبتم } ، فهو استعارة وجه شبهها هو المشاكلة . ويجوز أن يكون { عوقبتم } حقيقة لأن ما يلقونه من الأذى من المشركين قصدوا به عقابهم على مفارقة دين قومهم وعلى شتم أصنامهم وتسفيه آبائهم .
والأمر في قوله : { فعاقبوا } للوجوب باعتبار متعلّقه ، وهو قوله : { بمثل ما عوقبتم به } فإن عدم التجاوز في العقوبة واجب .
وفي هذه الآية إيماء إلى أن الله يُظهر المسلمين على المشركين ويجعلهم في قبضتهم ، فلعلّ بعض الذين فتنهم المشركون يبعثه الحَنق على الإفراط في العقاب . فهي ناظرة إلى قوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } [ سورة النحل : 110 ] .
ورغّبهم في الصبر على الأذى ، أي بالإعراض عن أذى المشركين وبالعفو عنه ، لأنه أجلب لقلوب الأعداء ، فوصف بأنه خير ، أي خير من الأخذ بالعقوبة ، كقوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم } [ سورة فصّلت : 34 ] ، وقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } [ سورة الشورى : 40 ] .
وضمير الغائب عائد إلى الصبر المأخوذ من فعل صبرتم } ، كما في قوله تعالى : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ سورة المائدة : 8 ] .
وأكّد كون الصبر خيراً بلام القسم زيادة في الحثّ عليه .
وعبّر عنهم بالصابرين إظهاراً في مقام الإضمار لزيادة التنويه بصفة الصابرين ، أي الصبر خبر لجنس الصابرين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة، "ولئن صبرتم "عن عقوبته، واحتسبتم عند الله ما نالكم به من الظلم، ووكلتم أمره إليه، حتى يكون هو المتولي عقوبته "لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ" يقول: للصبر عن عقوبته بذلك خير لأهل الصبر احتسابا، وابتغاء ثواب الله؛ لأن الله يعوّضه مِنَ الذي أراد أن يناله بانتقامه من ظالمه على ظلمه إياه من لذّة الانتصار، وهو من قوله "لَهُوَ" كناية عن الصبر، وحسن ذلك، وإن لم يكن ذكر قبل ذلك الصبر لدلالة قوله: "وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ" عليه...
قال مجاهد وابن سيرين: هو في كل من ظلم بغضب أو نحوه فإنما يجازى بمثل ما عمل...
نزول الآية على سبب لا يمنع عندنا اعتبار عمومها في جميع ما انتظمه الاسم، فوجب استعمالها في جميع ما انطوى تحتها بمقتضى ذلك أن من قتل رجلاً قُتل به، ومن جرح جراحة جُرح به جراحة مثلها، وأن قطع يد رجل ثم قتله أن للوليّ قَطْعُ يده ثم قتله؛ واقتضى أيضاً أن من قتل رجلاً برضْخ رأسه بالحجر أو نَصبه غرضاً فرماه حتى قتله أنه يُقتل بالسيف إذْ لا يمكن المعاقبة بمثل ما فعله؛ لأنا لا نحيط علماً بمقدار الضرب وعدده ومقدار ألمه، وقد يمكننا المعاقبة بمثله في باب إتلاف نفسه قتلاً بالسيف، فوجب استعمال حكم الآية فيه من هذا الوجه دون الوجه الأول. وقد دلّت أيضاً على أن من استهلك لرجل مالاً فعليه مثله، وإذا غصبه ساجة فأدخلها في بنائه أو غصبه حنطة فطحنها أن عليه المثل فيهما جميعاً؛ لأن المثل في الحنطة بمقدار كَيْلها من جنسها وفي الساجة قيمتها لدلالة قد دلّت عليه، وقد دلّت على أن العفو عن القاتل والجاني أفضل من استيفاء القصاص بقوله تعالى: {وَلئن صبرتم لهو خير للصابرين}...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا جرى عليكم ظُلُمٌ من غيرَكم وأردتم الانتقامَ.. فلا تتجاوزُوا حَدَّ الإذنِ بما هو في حكم الشرع. {وَلَئِن صَبَرْتُمْ}: فتركتم الانتصافَ لأِجْلِ مولاكم فهو خيرُ لكم إِنْ فَعَلْتُمْ ذلك. والأسبابُ التي قد يترك لأجلها المرءُ الانتصافَ مختلفة؛ فمنهم من يترك ذلك طمعاً في الثواب غداً فإنه أوفر وأكثر، ومنهم من يترك ذلك طمعاً في أن يتكفَّل اللَّهُ بخصومه، ومنهم من يترك ذلك لأنه مُكْتَفٍ بعلم الله تعالى بما يجري عليه، ومنهم من يترك ذلك لِكَرَم نَفسِه، وتَحرُّرِه عن الأخطار ولاستحبابه العفوَ عند الظَّفَرِ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {وإن عاقبتم فعاقبوا...}، أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري، وفي كتاب السير وذهب النحاس إلى أنها مكية... والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالاً حسناً؛ لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ إلى الذي يجادل إلى الذي يجازى على فعله، ولكن ما روى الجمهور أثبت... وسمى الإذناب في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول، وهذا بعكس قوله: {مكروا ومكر الله} [آل عمران: 54]، وقوله {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15]، فإن الثاني هو المجاز، والأول هو الحقيقة...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْجَزَاءُ عَلَى الْمُثْلَةِ عُقُوبَةٌ؛ فَأَمَّا ابْتِدَاءً فَلَيْسَ بِعُقُوبَةٍ، وَلَكِنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا، كَمَا قَالَ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وَكَمَا قَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}؛ وَعَادَةُ الْعَرَبِ هَكَذَا فِي الِازْدِوَاجِ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى حُكْمِ اللُّغَةِ...
فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ، فَمَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا، وَكَذَلِكَ من قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ عُودٍ اُمْتُثِلَ فِيهِ مَا فَعَلَ...
اعلم أنه تعالى أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتب ذلك على أربع مراتب: المرتبة الأولى: قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} يعني إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه، فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته وفي قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} دليل على أن الأولى له أن لا يفعل، كما أنك إذا قلت للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح، كان معناه أن الأولى بك أن لا تأكله، فذكر تعالى بطريق الرمز والتعريض على أن الأولى تركه.
المرتبة الثانية: الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} وهذا تصريح بأن الأولى ترك ذلك الانتقام، لأن الرحمة أفضل من القسوة والإنفاع أفضل من الإيلام...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين أمر الدعوة وأوضح طرقها، وقدم أمر الهجرة والإكراه في الدين والفتن فيه المشير إلى ما سبب ذلك من المحن والبلاء من الكفار ظلماً، وختم ذلك بالأمر بالرفق بهم، عم -بعد ما خصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم به من الأمر بالرفق، بالأمر لأشياعه بالعدل والإحسان كما تقدم ولو مع أعدى الأعداء، والنهي عن مجازاتهم إلا على وجه العدل- فقال تعالى: {وإن عاقبتم}، أي: كانت لكم عاقبة عليهم تتمكنون فيها من أذاهم، {فعاقبوا بمثل ما}، ولما كان الأمر عاماً في كل فعل من المعاقبة من أيّ فاعل كان فلم يتعلق بتعيين الفاعل غرض، بني للمفعول قوله تعالى: {عوقبتم به}، وفي ذلك إشارة -على ما جرت به عوائد الملوك في كلامهم- إلى إدالتهم عليهم وإسلامهم في يديهم، وجعله بأداة الشك إقامة بين الخوف والرجاء. ولما أباح لهم درجة العدل، رقاهم إلى رتبة الإحسان بقوله تعالى: {ولئن صبرتم}، بالعفو عنهم، {لهو}، أي: الصبر، {خير للصابرين}، وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير، فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازا لكرامة الحق، ودفعا لغلبة الباطل، على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع، فالإسلام دين العدل والاعتدال، ودين السلم والمسالمة، إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به). وليس ذلك بعيدا عن دستور الدعوة فهو جزء منه. فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في نفوس الناس. والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد، ولا يثق أنها دعوة الله. فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله والعزة لله جميعا. ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم، فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون، ويعتدي عليهم فلا يردون؟!...
ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل، فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر، حين يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، في الحالات التي قد يكون العفو فيها والصبر أعمق أثرا. وأكثر فائدة للدعوة. فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر. فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة الله ويرخصانها، فالقاعدة الأولى هي الأولى. ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال، وضبط للعواطف، وكبت للفطرة، فإن القرآن يصله بالله ويزين عقباه: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عَطف على جملة {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} [سورة النحل: 125]، أي إن كان المقام مقام الدعوة فلتكن دعوتك إيّاهم كما وصفنا، وإن كنتم أيها المؤمنون معاقبين لمشركين على ما نالكم من أذاهم فعاقبوهم بالعدل لا بِتجاوُز حدّ ما لقيتم منهم...
فهذه الآية متّصلة بما قبلها أتم اتّصال، وحسبك وجود العاطف فيها. وهذا تدرّج في رتب المعاملة من معاملة الذين يدعون ويوعظون إلى معاملة الذين يجادلون ثم إلى معاملة الذين يجازون على أفعالهم، وبذلك حصل حسن الترتيب في أسلوب الكلام...
ويجوز أن تكون نزلت في قصة التّمثيل بحَمزة يوم أُحُد، وهو مرويّ بحديث ضعيف للطبراني. ولعلّه اشتبه على الرّواة تذكر النبي الآيةَ حين توعّد المشركين بأن يمثّل بسبعين منهم إن أظفره الله بهم...
والخطاب للمؤمنين ويدخل فيه النبي...
والمعاقبة: الجزاء على فعل السوء بما يسوء فاعل السوء...
فقوله: {بمثل ما عوقبتم} مشاكَلَةٌ لِ {عاقبتم}. استعمل {عوقبتم} في معنى عوملتم به، لوقوعه بعد فعل {عاقبتم}، فهو استعارة وجه شبهها هو المشاكلة. ويجوز أن يكون {عوقبتم} حقيقة لأن ما يلقونه من الأذى من المشركين قصدوا به عقابهم على مفارقة دين قومهم وعلى شتم أصنامهم وتسفيه آبائهم...
والأمر في قوله: {فعاقبوا} للوجوب باعتبار متعلّقه، وهو قوله: {بمثل ما عوقبتم به} فإن عدم التجاوز في العقوبة واجب...
وفي هذه الآية إيماء إلى أن الله يُظهر المسلمين على المشركين ويجعلهم في قبضتهم، فلعلّ بعض الذين فتنهم المشركون يبعثه الحَنق على الإفراط في العقاب. فهي ناظرة إلى قوله: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} [سورة النحل: 110]...
ورغّبهم في الصبر على الأذى، أي بالإعراض عن أذى المشركين وبالعفو عنه، لأنه أجلب لقلوب الأعداء، فوصف بأنه خير، أي خير من الأخذ بالعقوبة، كقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم} [سورة فصّلت: 34]، وقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [سورة الشورى: 40]...
وضمير الغائب عائد إلى الصبر المأخوذ من فعل صبرتم}، كما في قوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [سورة المائدة: 8]. وأكّد كون الصبر خيراً بلام القسم زيادة في الحثّ عليه...
وعبّر عنهم بالصابرين إظهاراً في مقام الإضمار لزيادة التنويه بصفة الصابرين، أي الصبر خبر لجنس الصابرين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}؛ لأن الصبر على الاعتداء، من الموقع الذي يملك فيه ردّ العدوان والمجازاة بالمثل، يمثّل القوّة الروحية التي تعيش التعالي على نوازع التشفي والانتقام الذاتية، وقد يحصل الإنسان بالصبر على الكثير من النتائج الإيجابية على مستوى صون كرامته والحصول على حقه، مما قد لا يحصل عليه مع الرد بالمثل. وقد يفسح المجال لحلّ المشكلة بطريقةٍ أخرى تفتح القلوب على المحبة، وتهيئ الساحة لمواقف اللقاء، وتؤدي في نهاية المطاف إلى التقاء القلوب على الخير والحق والعدل...