السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّـٰبِرِينَ} (126)

وذكر في قوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ، أقوال : أحدها : وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما رأى عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «أما أنها لو أكلته لم تدخل النار أبداً ، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار ، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه نظر إلى شيء لم ينظر إلى شي قط أوجع لقلبه منه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : رحمة الله عليك فإني ما علمتك إلا فعالاً للخيرات ، وصولاً للرحم ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى ، أما والله لئن ظفرني الله بهم لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك فنزلت ، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أراد وكفر عن يمينه » . وقال المسلمون أيضاً : لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به ، إلا حنظلة بن الراهب فإنّ أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك ، فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن ظفرنا عليهم لنزيدّن عليهم ، يعني : على صنيعهم ، ولنمثلنّ بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد .

القول الثاني : أنّ هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حتى كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبتدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا } [ البقرة ، 19 ] وفي هذه الآية أمر الله تعالى أن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا . القول الثالث : أنّ المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين . قال الرازي : وحمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله ، وهو غاية البعد بل الأصوب عندي أن يقال : إنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحق بإحدى الطرق الثلاثة وهي : الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إنّ تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم والحكم عليهم بالكفر والضلالة وذلك مما يشوّش قلوبهم ويوحش صدورهم ، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً . ثم إنّ ذلك الداعي المحق إذا سمع تلك السفاهات لا بدّ وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه .

فإن قيل : فهل تقدحون فيما روي أنه عليه الصلاة والسلام ترك العزم على ترك المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية ؟ أجيب : بأنه لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية ؛ لأنّ تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية ، فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى .

تنبيه : أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ، ورتب ذلك على أربع مراتب المرتبة الأولى : قوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ، أي : إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل ، ولا تزيدوا عليه فإنّ استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله تعالى ورحمته ، وفي قوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ، دليل على أنّ الأولى له أن لا يفعل كما أنك إذا قلت للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة ، فكل التفاح ، كان معناه : أنّ الأولى بك أن لا تأكله فذكر تعالى بطريق الرمز ، والتعريض أنّ الأولى تركه .

المرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله تعالى : { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } ، وهذا تصريح بأنّ الأولى ترك ذلك الانتقام ؛ لأنّ الرحمة أفضل من القسوة والانتفاع أفضل من الانتقام . وقرأ " لهو " قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء ، والباقون برفعها .