إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّـٰبِرِينَ} (126)

وبعد ما أمره عليه الصلاة والسلام فيما يختص به من شأن الدعوةِ بما أمره به من الوجه اللائق ، عقّبه بخطاب شاملٍ له ولمن شايعه فيما يعم الكل فقال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } .{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } ، أي : إن أردتم المعاقبةَ على طريقة قول الطبيبِ للمَحْميِّ : إن أكلتَ فكلْ قليلاً ، { فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ، أي : بمثل ما فُعل بكم ، وقد عبّر عنه بالعقاب على طريقة إطلاقِ اسمِ المسبَّبِ على السبب نحوُ : كما تَدين تُدان أو على نهج المشاكلةِ ، والمقصودُ إيجابُ مراعاةِ العدل مع مَنْ يناصبُهم من غير تجاوزٍ حين ما آل الجِدالُ إلى القتال وأدّى النزاعُ إلى القِراع ، فإن الدعوةَ المأمورَ بها لا تكاد تنفك عن ذلك ، كيف لا وهي موجبةٌ لصرف الوجوهِ عن القُبل المعبودةِ وإدخالِ الأعناق في قِلادة غيرِ معهودة قاضيةٍ عليهم بفساد ما يأتون وما يذرون ، وبطلانِ دينٍ استمرَّ عليه آباؤهم الأولون ، وقد ضاقت عليهم الحيلُ ، وعيّت بهم العِللُ ، وسُدّت عليهم طرقُ المُحاجّة والمناظرة وأُرتجتْ دونهم أبوابُ المباحثةِ والمحاورة . وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام لما رأى حمزةَ رضي الله عنه يوم أُحد قد مُثّل به قال : « لئن أظفَرني الله بهم لأمثّلنّ بسبعين مكانك » فنزلت ، فكفّر عن يمينه وكف عما أراده ، وقرئ : { وإن عَقّبتم فعقِّبوا } ، أي : وإن قَفَّيْتم بالانتصار فقفّوا بمثل ما فُعل بكم غيرَ متجاوزين عنه ، والأمرُ وإن دل على إباحة المماثلة في المُثْلة من غير تجاوزٍ لكن في تقييده بقوله : { وإن عاقبتم } حثٌّ على العفو تعريضاً ، وقد صرّح به على الوجه الآكد فقيل : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ } ، أي : عن المعاقبة بالمثل ، { لَهُوَ } ، أي : لَصَبرُكم ذلك ، { خَيْرٌ } لكم من الانتصار بالمعاقبة ، وإنما قيل : { للصابرين } ، مدحاً لهم وثناءً عليهم بالصبر أو وصفاً لهم بصفة تحصل لهم عند تركِ المعاقبةِ ، ويجوز عَودُ الضميرِ إلى مطلق الصبرِ المدلولِ عليه بالفعل ، فيدخُل فيه صبرُهم كدخول أنفسِهم في جنس الصابرين دخولاً أولياً ،